"حذر" المغربي بأزياء مدنية

"حذر" المغربي بأزياء مدنية

05 نوفمبر 2014
+ الخط -

الفيل إذ يطالب بفيلة:
مهما اختلفنا في تفسير ما يحصل في محيطنا العربي من اقتتال دولتي، "جهادي"، طائفي ودولي، فلن نختلف في أن ما يحدث في خريطةٍ، سِمتها الغالبة الاستبداد السياسي. وقد تشرنق إلى حد بلوغه مراتب القضاء والقدر. بل حتى الشعوب وَهنَتْ، ولم تعد تتصور وجوداً خارج جزر الاستبداد وصخوره، ولم تعد ترى في ديمقراطية الآخر، العقلاني الحداثي والمتحضر، سوى كونها مَيْعَة وفوضى، منذرتين باندحاره، وزوال صولته ودولته.

استبداد قبلي، عشائري وطائفي، وقع على مثيله في الفقه، فطابق الحافِرُ الحافِرَ. وإذ وقع على الثروة المجانية، صار كأنه السفينة، استوت على الجودي؛ لا يحيط بها غير الطوفان. لا أمان للشعوب العربية خارج الاستبداد.

وهو، أيضاً، استبداد بَعْثي أثقل الوطن حتى سوّى المواطن بأديم الأرض، وداس عليه بكل صلف ورعونة. وما دام هذا هكذا، أو يكاد، فإن الحل لن يأتي في ركاب الحلف الدولي. لكل زمن فيله، وها نحن، اليوم، بفيلنا البغدادي الذي يطالبنا بفيلة، تستلذ نكاح الجهاد.

لا حل جذرياً خارج هدم خيام العشيرة وإعلاء بنايات البرلمان، حيث تتساوى أصوات المواطنين في تدبير أمور الدولة والثروة، وحتى الدعوة. لم يعد أمام هذا الشرق، المدمر أو المرشح للتدمير، والذي يكاد يسيخ في الأرض، إلا أن يهاجر صوب الديمقراطية، بربيع أو بدونه. طبعاً يتطلب هذا عقدا اجتماعياً جديداً، يقطع مع كل أشكال الريع السياسي والديني التي لم تترك حجرا فوق حجر.

يجب ألا نُبَسِّط مأساة الشرق العربي، اليوم، ونختزلها في "داعش"، وقبلها القاعدة وفروعها، إذ هما نتيجة تراكمات وليستا سبباً. حتى القضاء النهائي عليهما من دون تدمير المصنع المنتج، لن يُشرع باباً للسلم والأمن، إلا بكيفية مؤقتة، ريثما يتدبر المصنع إنتاج نسخ أخرى أكثر شراسة وتطوراً. إنه مصنع الاستبداد الذي لا ينتج غير فكر الدمار الشامل.

اليوم، إذ ننعم باستثناءٍ بنيناه منذ قرون، ولَوَّنا به كلَّ دُولنا المتعاقبة، حققت هذه العبارة وصحت. وبها ونِعْمَتْ، كما كان يقول العالم والمفتي المالكي، المرحوم عبد الكريم الداودي.
في المغرب لا تستغرب:
وحده المذهب الفقهي والمنحى العقدي والصوفي. اللاطائفية. الموت السياسي للقبيلة والعشيرة. التحجيم الإيجابي للقرويين، على الرغم من كونها أعتق من الأزهر. انتظام العلماء في مجالس على نهج واحد. هيكلة الحقل الديني. اشتغاله داخلياً وأفريقياً.

وفي المغرب، لا تستغرب أن يكون، في الوقت نفسه، دولة مدنية، وإمارة للمؤمنين كلهم، من مسلمين وغيرهم. ولا تستغرب أن تشتغل هذه الإمارة من دون شرطة دينية، تفتش في مُهَج المواطنين، وتلافيف أدمغتهم عن منكر أو معروف. ولا تستغرب أن ترى الحرية في كل شيء: في المكتوب، المقروء، الملبس، المطعم، المشرب...

ففي المغرب، يغني الناس ما يشاؤون وكيف يشاؤون، ويرقصون ويراقصون على هواهم. من بين أغلب الشعوب العربية، يمتاز المغاربة بأنهم، حينما يسيحون في الأرض، لا يفعلون ذلك طلباً لهامش من الحرية، يمارسون فيه حياتهم كما يهوون. هم أحرار في وطنهم، وسياحتهم سياحة حقيقية.

وفي المغرب، يعارض الجميعُ الجميعَ، لأن الإجماع حاصل، ضمنياً، على أن ما تحقق ليس هو كل ما يجب أن يتحقق. المغاربة هكذا، منذ أدركوا أن البحر وراءهم، والعدو أمامهم، وليس لهم إلا الصدق والصبر، فكراً ومجالدة.

وفي المغرب، لا تستغرب أن تستمع إلى الملك، وهو يعارض بدوره، بكل موضوعية، ممارسا مواطنته، كما يمارس ملكه. وفي المغرب، لا تستغرب أن يُفَعل الملك برنامج "حذر"، ثم يركب سيارته، بدون حذر، ليتجول في شوارع الدار البيضاء وغيرها، ممتثلا لشرطة المرور، وألوان ضوئه.

حذر بأزياء مدنية:

برنامج "حذر" المغربي ممتد عبر الأزمنة القديمة، ويغطي الحاضر، وينصرف إلى المستقبل. كل من يختزله في ثلاثي الجيش، الشرطة، الدرك، الذي يمشي، منتصب القامة، في مرافقنا وشوارعنا الحساسة، ويقيس مدى قدرته على الرد السريع على النيات الإرهابية قبل الأفعال، يُبَسِّط أمراً في غاية التعقيد.

يجب أن نقرأ "حذر" الذي نرى، على أنه مجرد ظاهر من الأمر. مجرد منحى عملياتي لبرنامج واسع، يستدخل مكونات عدة. إن لم يكن الأمر هكذا، سنكون كمن يفسر دمار أغلب الشرق العربي بوجود داعش والقاعدة فقط. إن المغرب لا يقول، داخلياً ودولياً، إن الإرهاب يموت بقتل الإرهابي. للإرهاب منابع يجب أن تجفف:

منابع توجد في مناهجنا التربوية، في مستوى فهمنا النصوص الدينية، في مخططاتنا التنموية، في مثبطات المسار الديمقراطي، في فهمنا المواطنة، في انحرافاتنا الانتخابية، في مستوى عدالتنا، في خدمات الإدارة، في التطبيب، في الإعلام..

إن المغرب، وهو يعيش الاستثناء الآمن، وينظر مهموماً إلى المحيط العربي المشتعل، والجوار المرشح للاشتعال، يعرف أنه لم يتمتع بهديةٍ من أحد، ولم تهبط عليه مائدة من السماء، وليس في جوف أرضه ما يبيعه. إنه يستثمر جهد الأجيال المتراكم، وأفضال الدولة المدنية التي بناها، والنهج الديمقراطي الذي اختاره، وبلغ فيه ما بلغ. كل هذا كان حذراً، وذخراً للسنين العجاف التي تأكل الأخضر واليابس في المحيط. ليستمر الحذر، وليتسع مدلوله، لأن أمن الأجيال المقبلة يقع على عاتقنا، اليوم، ولا مناص من الاستمرار في تثبيت دولة المؤسسات القوية، والاستثمار في المواطن.

6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)