"جميلة النهار" تتعافى بالسينما: "الآن أنا هنا"

"جميلة النهار" تتعافى بالسينما: "الآن أنا هنا"

15 يوليو 2020
كاترين دونوف: "في ظلّ نفسي" (غاريث كاتِّرمولي/Getty)
+ الخط -

بداية يوليو/ تموز 2020 شاهدة على عودة كاترين دونوف إلى بلاتوهات التصوير، بعد توقّف أشهرٍ عدّة سببه تعرّضها لحادث صحي، ثم تفشّي وباء كورونا وإغلاق مدن ومرافق عامة ومؤسسّات، وتأجيل أعمال. المشروع السينمائي هذا يحمل عنوان De Son Vivant لإيمانويل بيركو. الحادث الصحّي متمثّل بسكتة دماغية، ستكون دافعاً لـ"جميلة النهار" (لوي بونويل، 1967) إلى استراحةٍ تمنحها اختبار التأمّل في أحوال ذاتها وأفكارها ونمط حياتها. العزلة المنزلية والتباعد الاجتماعي عاملان فاعلان لتبيان معالم الذات وانشغالاتها وانفعالاتها، ولحوار داخلي لن تنكشف نتائجه قريباً، فهذا منوط بها. المشروع الأخير موغلٌ في أسئلة الحياة والعلاقات والمرض والمواجهة والقدر. مصائر عدّة تلتقي، وأفرادٌ قلائل يعانون انهيار جسدٍ أو خلل تحدٍّ، ويبحثون عن معنى مهنة تتطلّب منهم مقاربة تعب الجسد والروح معاً.

شابٌ مُصاب بعطب صحّي يعيش حالة إنكار تام، ما يستدعي جهداً لإخراجه من غضبٍ وارتباك ومتاهة. أمٌ تتألّم بحدّة إزاء غير المقبول الذي يحاصرها ويُضيِّق الخناق عليها. طبيبٌ يكافح كي يمارس مهنته بدقّة، أو ربما أكثر من ذلك أيضاً. هذا كلّه حاصلٌ في عامٍ واحد، و4 فصول. هذه مدّة يمرّ بها هؤلاء الثلاثة وهم "يرقصون" مع "المرض"، محاولين ترويضه. مدّة تُتيح لكلّ واحدٍ منهم، في مسار أشبه بدربِ جلجلةٍ، بحثاً عن معنى "الموت حيّاً"، وفهمه.

موضوع قاسٍ. مناخه متأتٍ من مصاعب عيشٍ ومواجع علاقات (مع الذات والآخر)، ومن أهوالٍ قدرٍ أو صدفٍ. تعرّض كاترين دونوف لسكتة دماغية (ليلة 5 ـ 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) أثناء تصوير مَشاهدها مُفاجئ، لكنْ يصعب فصله عن ضغط الحكاية وثقل الأسئلة المطروحة فيها. توقّف العمل مُثير لإشاعات: المشروع منتهٍ، ستُسْتبَدل دونوف بممثلة أخرى. إيمانويل بيركو تُصرّ على مسألتين: المشروع باقٍ، ودونوف أيضاً. يحصل هذا مطلع يوليو/ تموز 2020. النتيجة تحتاج إلى وقتٍ، يُحدّده البعض بنهاية العام الجاري.

في 22 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، تُنهي كاترين دونوف عامها الـ77. تجربة السكتة الدماغية والخروج منها إلى بلاتوهات التصوير السينمائي لن يمرّا بهدوء. للممثلة اختبار الكتابة عن تجارب مهنيّة، تُضمّنها ملامح من الذاتيّ أثناء العمل. يصعب التغاضي عن محنة مواجهة الموت. التعرّض للمواجهة متنوّع الأشكال، يظهر بين حينٍ وآخر في أنماطٍ وأساليب. الإصابة بعارضٍ يحمل في طياته موتاً تختلف عن اختبارها عند آخرين مقرّبين. دونوف بارعةٌ في تحويل كلمات بسيطة إلى مفردات عميقة من الشغف والبوح والتأمّل. "في ظلّ نفسي" ("منشورات ستوك"، 2004) مثلٌ على ذلك. موصوفٌ بكونه "دفتر ملاحظات" أو "مفكّرة جيب". كتابٌ يختزل مشاعر وتفكيراً أثناء مشاركتها في تصوير 6 أفلامٍ فقط، مع حوار يُجريه معها السيناريست والكاتب والمخرج الفرنسي باسكال بونيتزر، يُقرأ اليوم كأنّه صادرٌ للتوّ من قلب امرأة وممثلة ونجمة، إلى رحاب عالمٍ يعاني وطأة التباعد والعزلة والقلق، فتُصبح القراءة أمتع لشدّة سلاستها وصدقها وبساطة تعابيرها عن أعماق وتأمّلات وانفعالات.

بسلاسة مُدهشة، ونبضٍ حيوي يعكس لحظات الوحدة والانغلاق واستعادة بعض الماضي أيضاً، تروي كاترين دونوف مفاصل من سيرتها المهنيّة بأسلوب منفتح على الذاتيّ وسط صخب التصوير والعلاقات القائمة مع عاملين وعاملات في صناعة هذا الفيلم أو ذاك. تغوص في عتمة غرفتها، كي تذهب بعيداً في قراءة أحوالها ومشاعرها. أو في تواصلٍ مختلفٍ مع أحوالها ومشاعرها. كلمات قليلة في جمل مختصرة كافية لكشفٍ يتعدّى اللحظة. هذا ملموس في الحوار أيضاً. صراحة ممتدّة من نصّها إلى كلامها، وشفافية غالبةٌ، فيُصبح النصّ مرآة تمتلك أصدق ما يُمكن أن يقوله المرء، أو يشعر به. لا مواربة ولا احتيال ولا تفنّن في صُنع التعابير. البساطة سائدة ومُحبَّبة لقدرتها على تبيان أعماقٍ وتفاصيل.

6 أفلامٍ تريد كاترين دونوف، في كتابها هذا، أن تروي علاقتها بها أثناء تصويرها: "راقصة في الظلام" (1999) للارس فون ترير، "شرق ـ غرب" (1998) لريجيس فارنييه، "ريح الليل" (1998) لفيليب غاريل، "الهند الصينية" (1991) لفارنييه أيضاً، "تريسْتانا" (1969) للوي بونويل، و"جنون نيسان" (1968) لستيوارت روزنبيرغ (هذا الترتيب معتَمَدٌ في الكتاب). اختيار تلك الأفلام منبثقٌ من كونها الأفلام الوحيدة التي لها في حوزة دونوف ملاحظات وكتابات وتعليقات أثناء العمل. إنّها المرّة الأولى لها في عالم النشر منذ بداية التمثيل (أول دور صغير لها تحصل عليه عام 1956 في (تلميذات المدارس) لأندره أونوبَل، باسمها الحقيقي كاترين دورْلِيَاك). بعد 4 أعوام، تدفعها شقيقتها فرنسواز إلى التمثيل. ترافقها إلى "كاستينغ". تساعدها على دخول هذا العالم. في حوارها مع بونيتزر، تحكي قليلاً عنها. تتألّم كثيراً بصمتِ كلماتٍ تفضح ذاتاً موجوعة. فرنسواز تُقتل في حادث سير، في 26 يونيو/ حزيران 1967. الألم طاغ، كالغياب: "إنّها مرحلة صعبة على المستوى الشخصي بسبب فقداني شقيقتي. غير مُتعافية حينها. كلا، ليس هذا تعبيراً مناسباً. حقيقةً، لم أكن هنا بعد" (ص. 172).

الترجمة الحرفية لعنوان الفيلم الجديد لكاترين دونوف تقول: "في حياته". كتابها هذا معنون بـ"في ظلّ نفسي". سكتة دماغية وخروج من موتٍ وعودة إلى البلاتوه: ألن يؤدّي هذا كلّه إلى نصٍّ آخر؟

المساهمون