"جريمة في رام الله".. ذهنية التحريم من جديد

"جريمة في رام الله".. ذهنية التحريم من جديد

09 فبراير 2017
"جريمة في رام الله" لـ دلدار فلمز/ سورية
+ الخط -

ليس جديدًا في المشهد الثقافي العربي، القديم والحديث والمعاصر، المصير الذي آلت إليه رواية "جريمة في رام الله"، بمصادرتها من المكتبات، واستدعاء مؤلفها، عبّاد يحيى، وناشرها وموزعها للتحقيق؛ فالذهنية التي حاكمت ابن رشد وأحرقت مؤلفاته، هي ذاتها التي حاكمت رواية "آيات شيطانية"، وعرضت المفكر الراحل صادق جلال العظم لتهمة "إثارة النعرات الطائفية" بسبب كتابه "نقد الفكر الديني".

اليوم، الذهنية نفسها تحاسب الكاتب يحيى على روايته "جريمة في رام الله" (منشورات المتوسّط)، متذرعة بعبارات جاهزة من قبيل "خدش الحياء العام" و"المساس بالمواطن"، وهي أحكام مبنية على قراءة مجتزأة ومبتورة للرواية، وتخلو من أي قيمة للنقد. كانت مثل هذه الأحكام ترددت مرة واحد من قبل في فلسطين عام 2007، عندما أصدرت وزارة التربية والتعليم قرارًا بسحب كتاب "قول يا طير" لمؤلفيه شريف كناعنة وإبراهيم مهوي، بحجة احتواء الكتاب على ألفاظ "تخدش الحياء العام" ولا تتناسب مع أعمار الأطفال في المدراس.

إذا، وضعت ذهنية تحريم الأعمال الأدبية أثقالها في فلسطين هذه المرة، لتكون "جريمة في رام الله" أولى فرائسها، وقد أغفلت وسهت تلك الذهنية بفعلتها تلك، حساسية الموقف والمشهد الفلسطيني وتاريخه الطويل ونضالاته المختلفة وثوراته في المطالبة بالحرية، التي انتزعها مُحتَل ونفاها في إقامة الجدران، ودفنها تحت المستوطنات، واعتقل مطالبيها في السجون والمعتقلات.

عن هذه الحرية، يتحدث الكاتب يحيى إلى "جيل". يقول: "قصة الفلسطينيين وقصة نضالهم هي قصة البحث عن الحرية، الحرية التي لا تتجزأ، وبالنسبة لي ككاتب هي حرية التعبير والإبداع. وسلوك المصادرة والتحقيق والمنع هو في انتهاك صارخ لهذه الحرية على المستوى العملي، وهو على المستوى الرمزي سقطة هائلة، تشوه صورة الفلسطينيين كشعب تواق للحرية ومقدر لها".

يضيف: "التجربة الإنسانية والاجتماعية تقول إن تقييد الحرية في مجال أو جانب هو في المحصلة تقييد لها في بالمعنى العام. خلاصة القول هنا أنه لا يمكننا تخيل أي شكل للإبداع في بيئة لا حرية فيها، وهي شرط تطوره ووفائه لغاياته في سبيل اكتماله الفني".

نعم تلك الحرية التي هي أسمى القيم والأساس الذي جعل العديد من الشعوب والمنظمات الدولية ودفع بالكثير من الشخصيات إلى التضامن والوقوف مع الشعب الفلسطيني حتى ينال حريته.

ليأتي من هو ليس بمحتل، ومن يعتبر نفسه وصي على قضيتك وأفكارك وحياتك وفقرك، وينتزع منك تلك الحرية، التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من الحرية الأعلى التي ينشدها الشعب الفلسطيني، فالشهداء والمعتقلون واللاجئون من الفلسطينيين، كانوا ضحايا المطالبة بتلك الحرية، وما زالوا، لكن يبدو أن هذه الحرية أتعبت غيرهم، ليعلنوا استسلامهم، الاستسلام الذي أخذ أشكالًا متعددة في فلسطين وخارجها ممن تواطؤوا مع الحكومات المستبدة على أنباء شعبهم كما في مخيمات سورية ولبنان، وأخذ في فلسطين شكل أوسلو وفشل المحادثات، التنسيق الأمني، الاقتتال الداخلي، قمع المظاهرات والعزاء ببيريز!

ومن ثم يأتي المستسلم أخيرًا وينمي مهاراته في اعتقال الكلمة ومصادرة حرية التعبير ومحاكمة أعمال تقوم على قراءة مبتورة وناقصة، تخلو من قراءة صحيحة ونقد علمي، بل يحصل أن تكون المنشورات الفيسبوكية إحدى دعائم ذلك النقد ودليله.

لقد أخذت حادثة الرواية، حتى الآن، حظًا جيدًا من الإعلام، وحملات التضامن مع المؤلف استنكارًا لأمر النائب العام ومحاولة ردعه عن فعلته في مصادرة حرية التعبير، قد يحدث ذلك أثرًا كإسقاط الدعوى أو إلغائها أو حتى إصدار قرار ينصف عبّاد يحيى، ولكن "حتى اللحظة لم يتم التراجع عن شيء وليس لدي أية معلومة عن ما يواجهني في الأيام القادمة، هنالك مذكرة إحضار للنيابة، وحديث عن قضية أمام المحاكم، أتمنى أن ينتهي كل هذا، ولا تسجل هذه السابقة في المحاكم الفلسطينية، والمتمثلة في استدعاء روائي أو كاتب على خلفية نشره لرواية أو نص أدبي أو غيره. إن لم يلغ كل شيء وتتراجع عنه النيابة فإن تخويف الكتّاب والحد من إبداعهم سيحضر كملمح بائس للحالة الفلسطينية وسيفتح أبواب قمع لا تحصى، والأهم أنه يعد خيانة لكل نضال حرية الكلمة والتعبير الذي خاضه المثقفون والمثقفات الفلسطينيون المؤسسون لعقود طويلة هي عمر النضال الفلسطيني كله"، يقول صاحب "هاتف عمومي".

يبقى الخطر قائمًا ما بقيت "ذهنية التحريم" تلك، خاصة وأن الموضوع تجاوز أمر المحكمة إلى تهديدات شخصية للكاتب نفسه، فكم من عبّاد في فلسطين وكم من جريمة يتحول الضحية فيها إلى جلاد، والجلاد إلى ضحية.

المساهمون