"ثغور المرابطة" وأهلنة المعرفة

"ثغور المرابطة" وأهلنة المعرفة

25 يناير 2019
+ الخط -
فاجأنا الفيلسوف والمفكر المغربي، طه عبد الرحمن، بكتابٍ جديد، يختلف في أسلوبه والقضايا التي يطرحها ويعالجها، عما اعتدناه منه طوال العقود الأخيرة، هو كتاب "ثغور المرابطة.. مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية" الذي صدر قبل شهور قليلة عن مركز مغارب في الرباط. وهو كتابٌ لا ينطلق من التنظير الفلسفي، والتعالي الفكري الذي يحلّق في فضاء الخيال المعرفي كما هي الحال في كثير من كتابات فيلسوفنا، وإنما ينبع من واقع الأمة، ويحمل قضاياها وهمومها. والأكثر من ذلك سعي عبد الرحمن، في الكتاب، إلى تقديم مقارباتٍ جديدةٍ لفهم مشكلات البلاد العربية، وطرح حلول لها. صحيحٌ أن الكتاب الجديد ينسجم مع الرؤية الفلسفية الشاملة لعبد الرحمن، ويستخدم طرق التفكير والبرهان والاستدلال نفسها، ولكنه يشتبك، بشكل كبير، مع قضايا الصراع في المنطقة، سواء الصراع العربي – الإسرائيلي، أو الصراع السني – الشيعي، أو السني – السني. وكان قد لفت انتباهي للكتاب الصديق ساري حنفي، عندما زارنا في الدوحة قبل أسابيع، وأثنى على الكتاب، ما دفعني إلى اقتنائه وقراءته.
لم أكن من المعجبين بكتابات طه عبد الرحمن، على عمقها وأهميتها، بسبب أسلوبه المركّب والمجرّد، فضلاً عن اختلاف اهتماماتي البحثية عن القضايا التي يشتغل عليها. ولكن "ثغور المرابطة" يبدو من الكتب المهمّة التي تثير التفكير، ليس فقط لأهمية القضايا التي يتناولها، وإنما أيضا للأسلوب السلس والواضح الذي وضع به الكتاب، خلافاً للكتب والدراسات السابقة لعبد الرحمن. وربما هناك حاجة لمعرفة ملابسات وضع هذا الكتاب، وظروفه ودوافعه.
أفكار الكتاب كثيرة ومكثفة، وبحاجة لكثير من التفكيك، وأتوقف هنا فقط عند مسألة استخدام المفاهيم والمصطلحات والألفاظ التي يوظفها طه عبد الرحمن في توصيف الأزمات الراهنة للأمة، وكذلك التي استخدمها في البحث عن حلول ومخارج لهذه الأزمات. ولعل أبرز ما يلفت الانتباه في هذا الصدد هو عملية "النحت" المفاهيمي والاصطلاحي التي قام بها عبد الرحمن في كتابه الجديد، والتي يسمّيها العلماء والباحثون "أهلنة المعرفة"، فالرجل لا يستخدم المصطلحات والمفاهيم الغربية في وصف الظواهر الاجتماعية والسياسية في العالم العربي، على الرغم من معرفته الواسعة وإلمامه بالفلسفة الغربية، سواء الفرانكوفونية أو الأنغلوساكسونية، وذلك حسبما عرفت من ساري حنفي. وعلى الرغم من أن ذلك ليس جديدا على عبد الرحمن، والذي لا تخلو كتاباته ومؤلفاته من مفاهيم ومصطلحات عديدة اشتقها من الخبرتين العربية والإسلامية (كما الحال في كتب روح الدين، وبؤس الدهرانية، ودين الحياء، .. إلخ)، إلا أن الأمر يبدو أكثر وضوحا في الكتاب الجديد. ومن الأمثلة على ذلك استخدامه مفهوم "الأقوامية" (من قوم) بديلا من مفهوم الإثنية الرائج. كذلك استخدامه مصطلح "المؤانسة"، والذي يعني بالنسبة إليه "أن الإنسان يرتبط ارتباطاً أخلاقياً بأخيه الإنسان في أي مكان يتجاوز حدود الأوطان والدول"، بديلاً من مفهوم "المواطنة" الذي برأيه يشجع على العنصرية والتفرقة وإثارة النزاعات. كما أنه يستخدم مصطلح "المخالقة" (من الخلق) مرادفا لمفهوم "المؤانسة"، لأنها "عملية تبادل التخليق بين الناس عبر العالم".
تعكس هذه القدرة على صياغة ونحت مفاهيم أصلية من الخبرتين العربية والإسلامية وعياً استثنائياً لدى عبد الرحمن، وبإلمامٍ واسعٍ وواعٍ بالتراث العربي والإسلامي، تجعله متفرّداً عن غيره من الفلاسفة العرب المعاصرين، فهو ليس مهموماً باقتباس المفاهيم والمصطلحات الأجنبية، ولا يقف مستلباً أمام سلطتها التفسيرية، وإنما يشتبك معها نقدياً، ويقدم، في الوقت نفسه، بديلا لها من خلال نحت مفاهيمه الخاصة من واقع خبرته وخلفياته الحضارية، وهو ما يدعونا إلى التفاؤل بإمكانية إنتاج معرفة عربية أصيلة.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".