"تناغم" حميد تهراني: أسئلة حسّاسة

"تناغم" حميد تهراني: أسئلة حسّاسة

10 يونيو 2020
"تناغم": قواعد سينمائية مألوفة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في "تناغم"، يوظّف الإيراني حميد تهراني (1988)، بشكلٍ مُكثَّف وعميق وبسيط، مأساة شخصية، ليُسلّط الضوء على قضية خطيرة للغاية، من تلك القضايا المسكوت عنها في المجتمع الإيراني. ما يطرحه لا ينجم عن تواطؤ مجتمعي أو أعراف أو تقاليد، إذْ يتّهم المخرج إحدى مواد القانون الإيراني، وتحديداً المادة التي تخوِّل للذكر حقوقاً كثيرة، بطريقةٍ تفتقر إلى أبسط قواعد العدالة والإنصاف، وتُسقط عن النساء، بل تسلبهنّ كلّ حقّ أو تعويض. وذلك في تحيّز ظالم، يثير الكثير عن العدالة ومفهومها.

كغالبية الأفلام الإيرانية، ينتمي "تناغم" إلى دراما الواقعية الأخلاقية، الممزوجة بقضايا أساسية وثانوية، تطرح أسئلة وجودية وأخلاقية ونفسية. ونظراً إلى انتماء حميد تهراني إلى تلك السينما العريقة في صوغ حبكةٍ وكتابة سيناريو جاذب، وحسن بناء الشخصيات وتقديمها، والتمكّن البالغ من الأداء التمثيلي، قبل أي جماليات فنية أخرى، لم يشذّ "تناغم" عن تلك القواعد الراسخة في السينما الإيرانية، رغم أنّه أول روائيّ طويل له.

تلك القواعد السينمائية المألوفة مكمن تميّز "تناغم"، الذي يتّسم موضوعه بالجدّة، ويسير في الوقت نفسه على نهج أفلام السينما الإيرانية المُستقلّة، التي لا تكلّ عن فضح المسكوت عنه في إيران، وعن نقد المجتمع والقوانين والعادات والسلوكيات. في "تناغم"، تتّسع الدراما لتتجاوز المعضلة القانونية الأساسية المتمحور حولها، والمتعلّقة بما يسمّى في القانون الإيراني بـ"حقّ الدم"، لتطرح قضايا فرعية مهمّة، كالنضال لتحقيق العدالة في ظلّ نظام ذكوري بامتياز، ومدى جدواها، وانعدام المساواة، اجتماعياً وقانونياً، والتسامح والغفران، وبما يتّصل بهما من ملابسات تصبّ في جوانب أخلاقية واجتماعية ونفسية ودينية.

الشخصية المحورية في "تناغم" تُدعى رنا صالحي (أداء رائع لجالة صامتي). عزباء في منتصف العمر، تعمل في مصرف. بعد أعوام طويلة من العقم، تُرزق بهدى. ليس في عالم رنا سوى هدى، فكرّست حياتها لتوفير متطلّباتها، ولكي لا تحتاج إلى أحد مستقبلاً. هدى شابة ذكية ومجتهدة، مفعمة بالحياة والأمل في مستقبل سعيد. تجهد دراسياً للانتساب إلى كلّية طبّ الأسنان. لها أصدقاء قليلون في المدرسة، الذين يرتّبون حفلة صغيرة لها بمناسبة عيد ميلادها: الذهاب إلى مدينة الألعاب لساعاتٍ قليلة.

تحتفل رنا بعيد ميلاد هدى الـ17، في أجواء حميمة تجمعهما معاً، تُبرز مدى الحبّ والتفاهم وقوّة العلاقة بينهما. نزولاً عند رغبة هدى، وفي حالة ضعف استثنائية تجعلها تُرخي زمام صرامتها، توافق رنا على ذهاب هدى مع صديقاتها إلى مدينة الألعاب، كي لا تُحرجها أمامهنّ، وتفسد عليها فرحتها بعيد ميلادها. لم يدر في بال رنا أنّ قرارها ستترتب عليه فاجعة ستستنزفها وتلازمها طيلة عمرها. بعد قدر من المرح والاستمتاع، والحلم بمستقبل كلّ واحدة منهنّ (الكلّية التي تحلم بالانتساب إليها)، تنقلب الأمور: يصدف وجود سامان، شقيق ركفان صديقة هدى، في مدينة الألعاب، فيلمحها. يتطاير الشرر من عينيه، فيعدو إليها. يدور حوار يُستشفّ منه أنّها لم تخبر عائلتها بالدافع الحقيقيّ لخروجها. تحاول مع صديقاتها شرح الأمر، والقول إنّ الاحتفال انتهى، وإنّهنّ عائدات إلى منازلهنّ بعد قليل. تؤكّد له هدى أنّ والدتها ستقلّهما معاً إلى المنزل. لكن سامان يفاجَأ بوجود رنا، التي كانت تراقب الفتيات من بعيد. بعد تدخّلها، ولطمه على وجهه، تثور ثائرته، فيجذب شقيقته بعنف، مُبعداً هدى بقوّة، فتسقط أرضاً. بعد لحظات، تُفارق الحياة.

تتوالى الأحداث بعيداً عن أي ميلودراما أو مُبالغة. تتقدّم رنا إلى المحكمة بطلب الاقتصاص منه. تُقبل القضية، ويُحكم على سامان بالإعدام. تُفاجأ رنا بضرورة إيداعها مبلغاً كبيراً من المال لتنفيذ الحكم. لم يُذكر المبلغ، لكنه كبير. تتعقّد الأمور مع رنا، المصدومة بالقانون الوضعي. تقابل القاضي، وتستوضح منه، فيخبرها أنّه القانون. في قضايا الثأر، ونظراً إلى أنّ القتيلة امرأة والقاتل رجل، يجب دفع مبلغ الدم (نصف دم القتيل) لأسرته، خاصةً إنْ يكن الرجلُ معيلَها الوحيد.

"طلبتِ القصاص، وهذا هو قانونه"، يقول القاضي. بعد شدّ وجذب، وتوضيح أنها معيلة أيضاً، إذْ كانت تعيل ابنتها، ينصت إليها القاضي من دون إجابة. تسأله: "ماذا في حال عدم توفر المبلغ؟". يُجيب: "ليس عليك سوى أن تسامحيه. كثيرون قبلك فعلوا هذا". تُذهل كثيراً، فتعجز عن الاستيعاب أو التحدّث. تفكير القاضي هو نفسه تفكير أفراد المجتمع بأطيافه، بدءاً من مدير المصرف، الذي يثنيها عن الحصول على مكافأة التقاعد لقتل شخص؛ أو عند طلبها الحصول على قرض، أو بيعها سيارتها. شقيقة سامان تعطيها مبلغاً من المال (كانت تدخره لمستقبلها)، مطالبةً إياها في الوقت نفسه بأن تُسامح شقيقها. دائن سامان، الذي رغب يوماً في قتله، يصفح عنه بعد معرفته بتدهور حالته الصحية في السجن.

تدريجياً، تجد رنا نفسها متحوّلة من ضحية إلى مشروع قاتلة، فقط لمطالبتها بقصاص عادل لابنتها الوحيدة. أكثر من مرة تسمع كلاماً كهذا: "ابنتك لن تعود على أية حال. وقتل الشاب لن يعيد الأمور إلى نصابها. سامحي". بتوازن محسوب، يُبرز سيناريو حسين تهراني تبعات المُصاب وتأثيره على الجميع، وليس على رنا فقط. الشيء نفسه في ما يتعلق بمحاولات الجميع أنْ يُثنوها عن تنفيذ القصاص، لكنّها تبدو صلبة ومُصرّة، لا تلين أمام ما تواجهه. لكنّ صلابتها وإصرارها يُخفيان توتّراً كبيراً، فالموقف عصيب، تعجز معه عن اتخاذ أي قرار. وإنْ اتّخذت أي قرار، فهذا لن يمنحها الإحساس بسلام داخلي أو بشيء من الهدوء.

في "تناغم"، يتجاوز المخرج والسيناريست قضايا عدّة، كالشعور بالذنب وتعريف القتل الخطأ وحدوده والإعدام جزاء له. يتجاوز أيضاً قانون "مبلغ الدم"، لتفجير ما هو أكثر حساسية: ماهية العدالة وطبيعتها، وهل الحصول على قرض أو الاستدانة لتنفيذ عقوبة إعدام يُحقّق القصاص أو العدالة؟ هل من العدل ما تعرّضت له عائلة القاتل بسبب خطأ غير مقصود للابن، أو ما تعرّضت له والدة القتيلة؟ هل من المنصف مُطالبة رنا بالسماح والغفران؟ أسئلة كثيرة يثيرها الفيلم، من دون إجابات واضحة.

الفيلم متماسك جداً، فنياً وأدائياً، مع بعض الهنات، ونهاية كان يُمكن أن تكون أقلّ انحيازاً أو
حسماً، وأنْ تُترك مفتوحة.

دلالات

المساهمون