"تقرير حالة البلاد": بناء المؤسسات الثقافية وقوى الشدّ العكسي

"تقرير حالة البلاد": إعادة بناء المؤسسات الثقافية وقوى الشدّ العكسي

05 فبراير 2020
(غرافيتي في عمّان، 2019، Getty)
+ الخط -

في عام 2007، صدر قرارٌ بإنشاء "دارة عبد الله الثاني للثقافة والفنون" التي أُنفق على المرحلة الأولى من تصميماتها التي لم تنفّذ على الأرض بعد ضخّ ستّة عشر مليون دينار أردني، ولا يزال العمل بها متعثّراً لعدم وجود ميزانية كافية اكتُشف لاحقاً أنها ستفوق المئة مليون.

على وقع الحراك الشعبي الذي شهِده الأردن بالتزامن مع بلدان عربية أخرى، أُحيل ملف المشروع الذي يتضمّن تأسيس دار أوبرا ومسرح وقاعات تدريبية متخصّصة، إلى التحقيق بشبهة فساد عام 2013 لم يُحسم أمرها لليوم، لكن الخلاصة الأكيدة أن التخطيط للثقافة رهين الارتجال حتى لو هبَط من أعلى دوائر صُنع القرار كما حدث مع "الدارة"، وأن دوْر الثقافة في تحديث الدولة والمجتمع مسألة لا يلتفت إليها النظام ما دام قادراً على التذرّع بشحّ المال وبوجود قوى شدّ عكسي محافظة تعيق كثيراً من مشاريعه.

مثالٌ بسيط يصلح للتدارس مع إطلاق "المجلس الاقتصادي الاجتماعي" الذي تأسّس عام 2007 بهدف العمل كهيئة استشارية تقدّم المشورة لمجلس الوزراء، تقرير حالة البلاد للسنة الثانية على التوالي الذي أشار بوضوح إلى أن وزارة الثقافة لم تقم بالردّ على الملاحظات والتوصيات التي حفِل بها تقرير عام 2018 في مجال الثقافة، وهو تجاهلٌ لا تفسّره سوى حالة العجز مع انعدام الأهلية والكفاءة لدى كوادر الوزارة.

في الوقت نفسه، يبدو ملاحظاً "إمكانيات" الجهاز البيروقراطي بكبار موظّفيه على تعطيل أي وصفة لـ"الإصلاح" مهما كان التقييم لتوجّهاتها وغاياتها المنشودة، وربما يفيد الاستشهاد بتقرير المجلس نفسه الذي ورَد في تمهيده أن النتيجة الساطعة التي يمكن الوصول إليها من تقريره للسنة الماضية تتلخّص في "ضعف مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على تحقيق أهدافها المعلنة".

لا يكتفي التقرير بالقول إن إعادة بناء المؤسسات يتطلّب "التمكين المعرفي لحلقات الإدارة العلياء والمتوسطة"، وهو تعبير فيه قدْر كبير من اللطف والتهذيب، مشيراً إلى غياب "فهم موحّد للمصلحة الوطنية" عبر تحديده شروط توفّر هذا الفهم، ومنها الحدّ من "أمننة" الحياة العامة، ووضع الأسس الحقيقية لمجتمع ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة وتكافؤ الفرص واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.

غير أن "حالة البلاد" يظلّ أسير "تفاؤل" تقتات عليه الدعوات الإصلاحية التي تتبنّاها نخبة "ليبرالية"، بحسب تعبيرات السياسة الأردنية، من أجل استمرار وجودها وحمايته في ظلّ انقطاع أيّ تمثيل لها في الشارع، خاصةً مع دعوته إلى "البدء بسرعة في تغيير نهج الإدارة العامة للدولة بموازاة البدء بتحسين أداء الوزارات الخدمية بشكل ملموس"، والتي تبدو منفصمة عن الواقع لكنها لازمة لا بدّ من الانتهاء عندها لتبرير صدور تقارير خلال العام المقبل كفعلٍ "رقابي" لا يزال يمارسه "المجلس الاقتصادي الاجتماعي" في إطار "إراحة الضمير".

لا يذكر تقرير حالة البلاد أن الحكومات الأردنية لا تُنتخب على مدار قرن مضى، إنما تُعيّن من علٍ ولم تخضع حكومة واحدة للمحاسبة بل يتمّ تعديلها أو استبدالها بأخرى لامتصاص أي احتجاج أو غضب شعبي ضدّها، وفي صلب هذه المعادلة تُمنح وزارات الدولة والثقافة والتنمية السياسية وغيرها من الحقائب الهامشية، بحسب تقييم الحكْم لها، لبعض الشخصيات تحقيقاً لتوازنات عشائرية ومناطقية وطائفية.

على هذا المنوال، يلفت التقرير إلى أن من أبرز مواطن الضعف التي أعاقت تنفيذ خطة التنمية الثقافية (2017 – 2019)، كان "وقْف العمل بصندوق دعم الثقافة"، وبذلك يقبض على نقطة جوهرية لطالما أثارها عددٌ من المنشغلين بالهمّ الثقافي في العقدين الماضييْن، في سياق خطابات مبعثرة لكنه لا يقدّم إضافة حول الصندوق الذي أقرّه مجلس الوزراء عام 2008 ضمن تعديله لـ"قانون رعاية الثقافة وتعديلاته رقم 36 لسنة 2006"، على أن يموّل من إعلانات الصحف ووسائل الإعلام، والتي يعلم الجميع أوضاعها المالية المتدهورة منذ تاريخه.

لا يقترح المجلس الاقتصادي الاجتماعي بديلاً لتمويل الصندوق من الميزانية الحكومية أو من القطاع الخاص، أو آليات محدّدة لطبيعة عمله والمعايير التي تحكمه، وتبعية إدارته والعاملين فيه، إنما يكتفي بإيراد عبارة واحدة تنصّ على "تشكيل إدارة مستقلة للصندوق يتصف عملها بالشفافية"، خاصةً إذا أردنا تطبيق رؤية الوزارة التي تفترض رعايتها ودعمها للإبداع وليس إنتاجه وربما التدخّل بمضمونه، كما يجري الآن بطريقة غير مباشرة.

كما لا يناقش التقرير أساساً "قانون رعاية الثقافة" الذي يحتاج أيضاً إلى مراجعة لعدد من موادّه، في حال تطبيقه، باستثناء المطالبة بتعديله ليسمح بـ"بالتدخّل لحماية المثقفين والمبدعين ويضمن عدم توقيف مثقف أو فنان على خلفية موقف أدبي أو فني أو ثقافي يتمّ التعبير عنه في الأعمال الأدبية أو الإنتاجات الفنية"، وهو أمر إيجابي بالضرورة، لكن القانون نفسه يكرّس دوراً مركزياً للوزارة في رسم السياسات وتحقيق التنمية الثقافية، وهو ما عجزت عن الوصول إليه منذ تأسيسها، ليس بسبب نقص التمويل فقط، بل لأسباب تتعلّق ببنيتها ورؤيتها الحالية للعمل الثقافي.

يشخّص المجلس بشكل واضح ومفصّل حالة الإرباك في التخطيط داخل الوزارة، مستشهداً بحالات عديدة، منها "مكافحة التطرّف"، الملّف الذي شكّل "عبئاً" عليها - وقد أدير بالطريقة ذاتها في أكثر من بلد عربي -، حيث تمّ نقل "مرصد التطرّف الثقافي" من وزارة الداخلية إلى وزارة الثقافة، قبل أن يتقرّر نقله إلى رئاسة الوزراء في آب/ أغسطس 2018، بل يُبرز مفارقة في عدم تنفيذ معظم المشاريع التي أعلن عنها في هذا السياق، مثل إصدار كتب تحضّ على التعدّدية الفكرية والثقافية، إذ إن منشورات "مكتبة الأسرة" منها في عام 2016 شكّلت أضعاف ما طُبع بعد إعلان الوزارة عن مواجهتها "الإرهاب"!.

يلفت التقرير إلى مجال لم تهتمّ به وزارة الثقافة الأردنية، خلافاً لمؤسسات عربية رسمية استطاعت أن تقدّم فيه "إنجازاً" ما، وهو "إنشاء مركز متخصّص في الترجمة تكون مهمته اختيار الكتب المعرفية والأكاديمية وشراء حقوقها"، حيث لم تنشر الوزارة سوى عدد محدود من الترجمات خلال العقود الماضية تمّ اختيارها عشوائياً من دون رؤية مسبقة، كما يوضّح التقرير ذاته.

ومثلما وقع في تقرير العام الماضي، اشتملت التوصيات على مقترحات يتضح أنها لم تُدرس على نحو كافٍ، ومنها "الدخول في شكل شراكات ذات مردود ربحي مع شركات الإنتاج ونقابة الفنانين لإنتاج أفلام ومسلسلات تتناول التاريخ الأردني"، حيث يحظر القانون مثل هذه الشراكات، وهو ما يتطلّب إعادة النظر جذرياً بآليات تمويل الوزارة وأشكال الاستثمار المتاحة، إذا ما كانت هناك رغبة حقيقية في النهوض بالصناعات الإبداعية في الأردن.

يحدّد التقرير هدفه ممّا سمّاه "الجهد البحثي السنوي"، بـ"متابعة ومراقبة أداء الوزارات والمؤسسات المعنية استناداً إلى ما أعلنته هذه الجهات من استراتيجيات وأهداف تسعى إلى تحقيقها"، ما يشبه عمل هيئات عديدة تنتشر في البلدان العربية وتمارس رقابة لا تتعدّى حدود الاستهلاك الإعلامي للانتقادات التي توجّهها الحكومة لنفسها دون أن يترافق ذلك مع أي شكل من أشكال المحاسبة من شأنه أن يقود إلى التغيير.

هل يجب النظر إلى التقرير باعتباره مجرّد مسح بحثي لقطاعات الدولة الأردنية يعيد طرح مجموعة الأفكار الموضوعة على طاولة النقاش منذ سنين من أجل إصلاح كلّ قطاع منها، أم أنه وثيقة تستحقّ هذا النقاش الذي قد يُبنى عليه في مرحلة مقبلة؟ سؤال برسْم الإجابة بعد مبادرات إصلاحية عديدة سابقة تمّ الاحتفال بها قليلاً ثم حُبست في الأدراج.

المساهمون