"بوكر" تكرّم الرواية الجزائرية

"بوكر" تكرّم الرواية الجزائرية

20 ابريل 2020
+ الخط -
يمكن اعتبار الجزائر بلد روائيين بامتياز، سواء الذين يكتبون باللغة العربية أم بالفرنسية. ويجب أن تُذكر هنا ملاحظة مهمة، وربما هي من حسنات جوائز الرواية العربية، أننا كنا لا نقرأ الرواية الجزائرية إلا مترجمةً عن الفرنسية، كما روايات رشيد بوجدرة ومولود فرعون وكاتب ياسين وآسيا جبار ورشيد ميموني، والآن تُكتب معظم الروايات الجزائرية بالعربية. وكان الناقد المغربي، عبد الفتاح كيليطو، قد كتب في أحد كتبه، أن الكتاب العرب بالفرنسية لا يقرأهم إلا دائرة ضيقة من أقرانهم، ويعتبرهم الفرنسيون كتاباً من الدرجة الثانية مهما علا شأنهم، على الرغم من أن جل هذه الروايات تمتح مرجعياتها من معطيات اللغة الأم وفضاءاتها. ولذلك لقي فوز رواية الجزائري الشاب عبدالوهاب عيساوي (مواليد 1985) "الديوان الإسبرطي"، الأسبوع الماضي، بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) ترحيباً واسعاً من مختلف الأوساط، فبدا أنه فوزٌ جاء بمثابة تتويج للرواية الجزائرية التي تنوع العطاء فيها وتميّز عبر أكثر من جيل. وقد مرّت دوراتٌ عديدةٌ على جائزة بوكر، لم تفز فيها رواية جزائرية، فيما هذه الدورة التي يمكن اعتبارها استثنائية، ليس فقط بسبب تزامن إعلان الفائز الأول فيها مع جائحة كورونا (حالت دون إقامة حفل الختام السنوي المعتاد كل عام في أبوظبي)، وإنما أيضاً لأن القائمة الطويلة ضمت أربع روايات جزائرية، والقصيرة ضمت اثنتين، نالت إحداهما الجائزة العتيدة، وهو ما حدث لأول مرة في تاريخ الجائزة الأشهر عربياً في الرواية.
فوز "الديوان الإسبرطي" هو أيضاً تفوق لروايات الذاكرة السياسية، هذا النموذج الذي عرفت به معظم الروايات في الجزائر، القطر العربي الذي عانى من ويلات استعمار طويل. فقد جاءت هذه الروايات بمثابة مسلك تصحيحي، ومراجعة واقعية لا تقف عند حد زمني، وكثيراً ما تفاجئنا بالمدهش والجديد، عبر روايات تنشد إعادة كتابة الذاكرة السياسية، ليس وفق الخطاب السائد، إنما وفق الإصغاء للصوت الهامشي المغيب، وذلك بإعادة الاعتبار لشخصيات وأحداث ووقائع لم تجد من يعبّر عنها ويعرف بها، وإن تشابهت وتقاطعت المواضيع والأفكار العامة، إلا أن المعالجة تتنوّع بين كاتب وآخر.
تميزت رواية "الديوان الإسبرطي" بحجمها الكبير (384 صفحة)، ما يدل على أن كاتبها، قبل كتابتها، قد استعاد واستعان بمراجع وأرشيف واسع، لكي يستطيع رسم خطوط معمار روايته، وتقويل شخصياته وتمكينها من الحوارية المتعدّدة الظاهرة فيها. كما تميزت الرواية برصدها التحوّل الجزائري في البدايات الأولى للاحتلال الفرنسي، وأواخر أيام الوجود العثماني في القرن التاسع عشر، حيث ترصد مسيرة خمس شخصيات، تتشابك مصائرها في فضاء مدينة المحروسة، والتي ليست سوى أحد المسميات المعروفة بها العاصمة الجزائر.
أول هذه الشخصيات هو المراسل الصحافي ديبون الذي جاء في ركاب الحملة على الجزائر، ومن خلاله يمكن للقارئ التعرف إلى ما ترصده عين الصحافي المحايد، وخصوصاً في ما يتعلق بما كان يفعله المستعمر من تجاوزات فظيعة، من قبيل طحن عظام الموتى واستخدامها في تبيض السكر. تليها شخصية كافيار، وهو جندي فرنسي، شارك نابليون معركة واترلو، ومن خلاله نتعرّف إلى الروح الكولونيالية المتعالية في التعامل مع عامّة الناس. وهناك شخصية ابن ميار، المشغول بتدبيج عرائض الاستجداء، عله يستعيد حظوته وأملاكه المفقودة. وعلى الرغم من ذلك، لم يسلم ما تبقى لديه من أطيان من سطو المستعمر، حين يستولي الجندي كافيار على مزرعته، ويمنعه حتى من الاطمئنان على الأشجار التي زرعها. إلى جانب شخصية حمّة السلاوي الذي يمور في دواخله الحب والثورة، يعيش هارباً متخفياً في نهاية الرواية، بعد قتله العميل المزوار مسؤول المبغى. والشخصية الخامسة هي دوجة التي يمكن أن تمثل طبقة من ذوات الهوان من النساء، والتي يعتبر السلاوي عيونها "كتاباً مفتوحاً، يقرأ منه كل العابرين الذين مرّوا على جسدها".
كتبت الرواية بضمير المتكلم، حيث يتناوب على السرد الأبطال الخمسة، وبالدور، فحين ينتهي ديبون من الحديث، يستريح ويتسلم الزمام كافيار، وحين يسكت كافيار عن الكلام المباح، يتسلم الزمام ابن ميار، ثم يتبعه السلاوي فدوجة، وهكذا دواليك إلى نهاية الرواية. وهي طريقة "تذويتية" اقترحها المؤلف للتعريف بعوالم روايته. ومن أهم حسنات هذا المسلك السردي أنه يسمح للرواية بأن تجاور الشأن الخاص والحميمي بالعام والمشترك.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي