"النبي دانيال".. مخاوف الزوال المتجددة

"النبي دانيال".. مخاوف الزوال المتجددة

06 سبتمبر 2017
(من شارع النبي دانيال في الإسكندرية ، العربي الجديد)
+ الخط -

لعقود طويلة ظلّ شارع "النبي دانيال" قبلة جمهور الكتب القديمة والمستعملة في مدينة الإسكندرية، إلا أن العقد الأخير شهد تغيرات عديدة، فلم يعد البائعون يفترشون الشارع بطاولاتهم الخشبية، بعد أن منحت محافظة الإسكندرية كل بائع كشكاً صغيراً عام 2005.

وفي ظل التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية والتطور التكنولوجي ونوعية الجمهور، لم تعد الأكشاك تُقدّم الكتب المستعملة فقط، وأصبح هناك حضور قوي للكتب الجديدة والروايات الرائجة والأكثر مبيعاً، بالإضافة للكتب الدراسية والمتخصّصة.

يقع شارع "النبي دانيال" في منطقة "وسط البلد" بالإسكندرية، ويمتد على مسافة تسعمائة متر ليربط بين ميداني "محطة مصر" و"محطة الرمل". يحتوي الشارع على مجموعة من المباني التراثية الشهيرة، من بينها المعبد اليهودي، ومسجد النبي دانيال، والكنيسة المرقسية، والمركز الثقافي الفرنسي.

هذا التنوّع المعماري والثقافي يضفي على سوق الكتب طابعَ تعددية تنعكس في الكتب المعروضة وموضوعاتها ولغاتها، فمن كتب متخصصة في التراث الديني إلى كتب علمية وأدبية وفنية وتاريخية وفلسفية، ومن كتب عربية إلى أخرى إنكليزية وفرنسية ويونانية، وصولاً لكتب بلغات نادرة لا يعرف حتى البائعون ماهية لغتها.

يضمّ الشارع أكثر من ثلاثين كشكاً للكتب، تبلغ مساحة كل منها أربعة أمتار مربّعة، وتحتوي على حوالى مئة ألف كتاب في مجموعها. ورغم قدم الشارع، ووجود بائعي الكتب منذ أكثر من خمسة عقود، إلا أن أكثر المشاعر المسيطرة على معظم بائعي الكتب، هو "الخوف من الزوال" ليس فقط بأن تقوم الحكومة بهدم أكشاكهم، ولكن بفناء مهنتهم وتراجع القراء عن شراء الكتب، أو وصول معدلات غلاء المعيشة لمستويات تفوق معدلات مدخولهم، مما قد يضطرهم إلى ترك المهنة والبحث عن عمل أكثر ربحاً.

يقول "عم مجدي" أحد بائعي الكتب لـ"العربي الجديد": "القارئ انقرض، والكتاب فقد قيمته وجلاله، الناس مشغولة بالتكنولوجيا والحواسيب والإنترنت، خصوصاً الأجيال الجديدة، فمن الممكن أن يدفع الشاب آلاف الجنيهات لشراء هاتف محمول، لكن من الصعب أن يدفع 50 جنيهاً في كتاب".

وحول أبرز اختلافات القراء بين الماضي القريب والحاضر، يُضيف: "القارئ قبل سنوات كان مثقفاً، مقدّراً للكتاب. هذا لم يعد موجوداً، ونحن اليوم مستمرون مع من تبقى من هذا الجيل، وبعض القراء الشباب الباحثين عن كتاب رخيص، بالإضافة للأسر التي تأتي لشراء قصص أو كتب مدرسية مستعملة".

بدأ مجدي عمله في النبي دانيال منذ 45 عاماً، كان حينها مراهقاً يعمل مع والده وإخوته الأكبر سناً. تدريجياً، أحب المهنة، ثم تحوّلت لمصدر رزقه. وحول مستقبل المهنة، يشير مجدي إلى أن لديه ثلاثة أبناء يعملون في مهن مختلفة، موضحاً أن معظم المهن الآن أفضل وأكثر أستقراراً من بيع الكتب على الرصيف، في ظل تضاؤل قيمة الدخل وارتفاع الأسعار، فبائع الكتب يكسب يومياً في المتوسط، سبعين جنيهاً (ما يعادل 3 دولارات)، وهذا المكسب غير مضمون فهناك أيام وأسابيع تمر دون أي مكسب خاصة في فصل الشتاء.

ورغم تخصيص محافظة الإسكندرية مجموعة من الأكشاك لباعة الكتب، إلا أنهم ما زالوا يشعرون بأنهم مجرد بائعين على الرصيف، مهددون بالرحيل ومطاردة الشرطة في أي وقت، فتواجدهم بالأكشاك غير مسجل قانونياً. وقد قامت بالفعل المحافظة بهدم بعض هذه الأكشاك منذ سنوات، إلا أنه بسبب حدوث ضجة إعلامية، وتضامن العديد من المؤسسات الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني في حينها، أعيدت هذه الأكشاك لأصحابها من جديد.

على عكس الصورة القاتمة والغارقة في النوستالجيا التي يعيشها "عم مجدي"، يرى الجيل الجديد من بائعي الكتب أن الوضع الآن أفضل، بعد تنظيم عملية البيع، وتخصص بعض الباعة في نوعية محددة من الكتب، فضلاً عن أن التطور التكنولوجي ساعدهم في ترويج كتبهم، والمشاركة في معارض للكتب في الجامعات، أو بالتعاون مع بعض مؤسسات المجتمع والهيئات الحكومية.

في هذا السياق يقول لنا حمدي حسن ذو الثمانية والثلاثين عاماً: "عقب ثورة 25 يناير 2011، زادت مبيعات الكتب بصورة كبيرة، خاصة في السنوات الثلاث التالية للثورة، كانت هناك حالة من الرواج لكافة أنواع الكتب؛ الدينية والسياسية والاجتماعية والأدبية. تدريجياً تراجعت المبيعات، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، فالكتاب مجرد سلعة ترفيهية بالنسبة للقارئ، وحتى لو كان ضرورة، فهناك أولويات تسبقه مثل المأكل والملبس وفواتير الكهرباء والمياه".

بدأ حمدي عمله في بيع الكتب منذ 25 عاماً، حينها كان مراهقاً يأتي لشراء قصص ومجلات الأطفال. التحق بعدها للعمل مع أحد البائعين في إجازاته، وعقب تخرجه من الجامعة، أصبح لديه مكان مستقل لبيع الكتب. يؤكد حمدي أن بيع الكتب القديمة ليس مجرد عمل بالنسبة له، لكنه شغف، آثر الاستمرار فيه رغم تخرجه من كلية الحقوق، وممارسته لمهنة المحاماة.

يعاني حمدي كغيره من بائعي الكتب من الظروف الاقتصادية الصعبة في مصر، لكنه يشير لبعض البدائل التي حاول من خلالها التغلب على هذه الظروف قائلاً: "من الضروري أن يكون عند البائع مرونة، ويدرك محدودية القدرة الشرائية لقارئ الكتب. لذلك نقلل من نسب مكسبنا لصالح استمرار عملية البيع، بالإضافة إلى المشاركة في المعارض داخل الجامعات والكليات والمعاهد، وهي معارض بجانب ما تحققه من مكاسب وحجم مبيعات مرتفع، تجذبُ زبائن جدداً من الشباب، يأتون بعد ذلك لشارع النبي دانيال".

وفي ظل الإهمال الرسمي وتخلي الدولة ممثلة في وزارة الثقافة، عن بائعي الكتب القديمة، أسس هؤلاء جمعية مستقلة لباعة الكتب، هدفها دعمهم وتوحيد مجهوداتهم وحل أزماتهم. عن هذه التجربة يقول حمدي: "بائعو الكتب لا يملكون نقابة، وليس لديهم تأمين صحي، ولا معاش تقاعدي ولا أي حماية قانونية، لذلك تحاول هذه الجمعية تقديم بعض الدعم المعنوي والمادي والقانوني".

المساهمون