"المهاجر" ليوسف شاهين: متعة مُشاهدة قصّة معروفة

"المهاجر" ليوسف شاهين: متعة مُشاهدة قصّة معروفة

10 يوليو 2020
يوسف شاهين: سينما المؤلّف بحمولة هائلة (Getty)
+ الخط -

مرّ الزمن، ولا يزال لـ"المهاجر" (1994) ليوسف شاهين كلّ شحنته العاطفية وآنيّته. يُعرض حالياً على شاشة المنصّة الأميركية "نتفليكس"، التي تقدّم أفلاماً عربية مهمّة. يسترجع الفيلم حكاية قديمة. يصف ويفسّر واقعاً لا يزال قائماً. حكاية الفتى الوسيم رام (خالد النبوي)، الذي لديه بسْطة في الجسم. افترس الذئب غنمه، فسال دمه. اضطرّ للهجرة من بلد الرعي والقحط إلى بلد النّيل والمِعمار والمعرفة، "بحثاً عن عمل فيه مُخّ".

ما سبب الهجرة؟ الفتى في محنة مع ذويه، الذين لا يوافقونه الرأي. تلك محنة نوح، في فيلم بالعنوان نفسه (2014) لدارين أرونوفسكي. بَنَى النبي السفينة وانطلق. ظنّ أنّه ترك الشرّ خلفه، لكنّ الشر في كلّ مكان. هكذا يُهاجر البطل بدافع سَامٍ.

في السرديات القديمة، الهجرة محطة أساسية في حياة كلّ بطل. لا قيمة لبطل أو نَبَي في وطنه. غالباً، يحقّق المجد بعد ذهاب وعودة. تغيير المكان محوري في النجاح. بهذا الشكل، المكان ليس مجرّد جغرافيا صماء. إنّه يُحدّد التعامل مع البطل. يقترح رام على حكّام مصر أنّ الأفضل من جعل الفلاّحين عساكر تحويل العساكر إلى فلاّحين، لتوفير الغذاء. تُقابَل الاقتراحات الذكية لرام بسخرية. يُذَكَّر بقانون المكان، فهو غريب وليس مصرياً. إذاً، لا دَخْل له.

كيف يعمِّق الديكور البعد الدرامي للفيلم؟ يُصوّر شاهين مَشَاهد مرسومة مسبقاً على جدران المعابد. جدران عظيمة، عبارة عن ديكور أحادي اللون. يقرأ رام، المهاجر العبراني، تاريخ البلد على الجدران: تنتهي المعركة بالويل لكلّ من تسوّل له نفسه الهجوم على مصر الجميلة.

رغم تصنيف رام غريباً، تمكّن المهاجر من إنقاذ مصر من الجوع فعلياً. الكاميرا لا تلتقط الرؤيا، لذلك جسّدها شاهين في حقل أصفر يخْضَرّ. حوّل الصحراء إلى جنّة خضراء بالعمل لا بالمعجزة. لا معجزات لِرَام. هكذا تمّت أنسنة النَبي، الذي ضَعُف أمام الجسد الباذخ لسيّدة القصر العطشانة.

بسبب الخوف من ردود الفعل على هذه الأنسنة، بدأ "المهاجر" بإعلان إبْراء ذمّة، بهذه المقدّمة الثقيلة: "أحداث هذا الفيلم لا تمتّ بصِلة إلى أيّة قصة أو حادثة في التاريخ". يرسّخ هذا الادّعاء الفكرة المسبقة لدى المتفرّج: التشابه بين قصّة يوسف وقصّة رام. طبعاً، سيرة يوسف نصّ روته أفواه وأقلام وكاميرات كثيرة. يستثمر الفيلم السرد الديني العتيق لتفسير المرحلة بحكاية طفل يتيم مكروه ومفقود ومُتبنّى، يهاجر ليثبت عبقريته، وينتصر في الاختبارات كلّها، فيحقّق إنجازاً، ويستعيد أصوله النبيلة. حكاية تتردّد في ثقافات كثيرة، وروتها مسلسلات كثيرة، ركّزت على شرّ الإخوة الذي لا حدود له ضد الفتى المحبوب. كلّ أخ يريد قتل أخيه لتزيد حصّته من الإرث. غريبٌ أنْ تتولّد المتعة من مشاهدة قصّة معروفة. الفنّ الحقيقي يصمد، لكنّ الزمن معيارٌ.

تُصنّف أفلام يوسف شاهين ضمن سينما المؤلّف. عادة، تكون في سينما المؤلف قصص شخصية جداً، يصعب على الجمهور فهمها والتفاعل معها. لكنّ قصّة "المهاجر" ذات حمولة تواصلية هائلة، رسّخت مجد الممثلة يسرا، وكشف حنان تُرك أمام عالم السينما. الفيلم نموذج لـ"كاستينغ" صعب، يحقّق تصور المخرج للشخصية. هذا الاختيار عاملٌ حاسم لمخرج يكتب سيناريوهاته وهو يفكّر في الممثلين أثناء الكتابة. يفكّر في لغة الجسد لديهم، فهي العجينة التي يشتغل عليها لبناء عالمه الفني.

في أفلامه، يبني يوسف شاهين لغة مشتركة مع الممثلين. لكلّ ممثل نبْر ومزاج مكتوب بدقّة. النتيجة تُظهر اختلافات الأمزجة بوضوح بينهم في الفيلم. الأهمّ: يظهر اختلاف أداء الممثل في فيلم يوسف شاهين عن أدائه في أفلام غيره من المخرجين. مثلاً: الدور الصغير لمُزيّن التماثيل (أحمد بدير)، الذي يعبّر عن اعتزازه بفنّه، بغضّ النظر عن النزاعات الدينية. النظرات الوقحة لصفية العُمري، وصدمة يسرا (سميحيت)، التي تقدّم أداء مكبوحاً بعيداً عن الاندفاع الذي تؤدّي به عادة.

في "المهاجر"، استُدْعِي التاريخ لنقد السلطة ومساءلتها عن ممارسات ممتدة في الزمن. مثلاً: بينما في البلد جوعٌ، يقرّر الفرعون بناء مدينة جديدة في دولةٍ عرفت أعرق حكم بيروقراطي في التاريخ. يستخدم شاهين هذه الحكاية المعروفة كذريعةٍ لعرض سوسيولوجيا بلدٍ، يُضعِفه صراع مراكز النفوذ. مصر تعيش احتجاجات شعبية، فيُرمى موكب هامون بالحجارة. يستدعي الفرعون قائد الجيش لقمع الشعب. يجيب القائد: "مهمّة الجيش حماية حدود البلد، لا قمع الشعب".

يعيش البلد نزاعاً سياسياً ودينياً، على خلفية اقتصادية، جعلت الشعب على حافة الجوع. لكن، ويا للسخرية، يبدو الشعب مشغولاً بنزاع آلهته أكثر من تدبير واقعه اليومي البائس. لذا، يسخر رام من تقاليد التحنيط، التي تعطي قيمة للأموات أكثر من الأحياء. تحصل أجساد الموتى على عناية شديدة لا يحصل عليها حتّى جسد زوجة العزيز الذي يَيْبس. زعم هيرودوت في تاريخه أنّ "المصريين متديّنون إلى حدّ الإفراط" (ص. 149). بحسب شاهين، هذا المشكل لا يزال قائماً، وله تبعات يومية.

المساهمون