"المسرح الكبير" في جلباب مغربي

"المسرح الكبير" في جلباب مغربي

13 فبراير 2019
("مسرح ثربانتيس" من الداخل)
+ الخط -

بعد جدال طويل وتظاهرات متواصلة دامت لأكثر من ثلاثة عقود، ومفاوضات عسيرة انطلقت بشكل متقطِّع منذ 2016، وافق مجلس الحكومة الإسبانية، الجمعة الماضي، على طلب وزارة الخارجية الإسبانية بنقل ملكية "المسرح الكبير: ثربانتيس"، في مدينة طنجة المغربية، بشكلٍ نهائي إلى الدولة المغربية، شريطة أن تتكفّل الأخيرة بترميمه وتجهيزه وتحويله إلى مركز ثقافي متعدِّد الاستخدامات.

واعتبر النائب البرلماني عن إقليم قاديش في إسبانيا، سلفادور دِلاإنسينا، أنّ الهدف من هذه الخطوة هو "المصلحة العمومية، والترويج للثقافتين الإسبانية والمغربية، خصوصاً أنّ تسيير هذا الفضاء سيُسنَد إلى لجنة مشتركة من البلدَين"، مضيفاً أن القرار "سيُنقِذ المسرح، ولو أن إسبانيا ستفقد ملكيته. إضافةً إلى أن الأواصر مع المغرب ستتوثّق أكثر، إزاء المشاكل الأكثر استعجالاً مثل الهجرة والحركات الجِهادية... لن يَضيع المسرح، لأنه كان ضائعاً بالفعل، لكننا نربح التعاون مع المغرب. لا ينبغي أن نعتبره خسارة".

يُعدّ المسرح، الواقع أسفلَ "سور المِعكازين" أي "شرفة الكسالى"، أو "شرفة المدافع" كما يُطلق عليها الإسبان، إحدى أقدم المؤسَّسات المسرحية في البلاد العربية. لكن الأبحاث أثبتت أن طنجة عرفت المسرح منذ القرن التاسع عشر، وتحديداً سنة 1897 مع أنطونيو غايّيغو الذي أنشأ "ثانوية رفائيل كالفو" بجانب "المفوّضية الأميركية".

المبنى، الذي افتتح سنة 1913، تحفةٌ فنّية صمّمها المهندس المعماري دييغو خيمنِث، بينما أنجز الفنّان الإشبيلي كاندِدو ماطا منحوتات الواجهة ومنقوشاتها، أمّا رسوم السقف فهي للرسّام فِدريكو رِيبِرا، وصُمّمت الديكورات من قِبل رسّام المَشاهد الإيطالي جيورجيو بوساطو، واضِع ديكورات "مسارح ابْرينْثِيبِي" (الأمير)، و"الرِيال" (المَلَكي)، و"نُوفِدَادِسْ" (الأعمال الحديثة)، وتكلَّف بخشب المنصة خُوسيه دِي لارُّوصَا، الذي صار موضع ثقةِ مانويل بِينْيَا زوجِ الثرية الإسبانية إسْبيرانْثا أورِيَّانا مُشيِّدة المسرح ومالكته. وثبَّت أَغْوسْتِينْ دِلْغَادُو، رئيس مصلحة الكهرباء في "مسرح الريال" مصابيح "مسرح ثربانتيس" الألفَين.

وبحسب ألْبِرْطو إِسْبانيا في مقالٍ بجريدة "اِلْبْروفِنير"، يُخلِّف مجموعُ الأعمال الفنية التي زيَّنت المسرحَ الانطباعَ الآتي: "إنه شيء يشْبه ذوق كل العناصر المختلفة، ومختلف الأعراق التي تؤلِّف المجتمع الطنجي، موزَّعاً على تفاصيل ديكوراته وتزييناته ورسومه"، وَفْقَ تعليق للمهندس المعماري دِييغُو خيمِنِث.

ويَحكي ألْبِرْطو إِسْبانيا في كتابه "تاريخ طنجة الصغير" (1954) أن أصول المسرح الإسباني في طنجة تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، كما تحوي خريطة طنجة لسنة 1907 شكلاً أسطوانياً لـ"مسرح رُومِيَّا" بجانب مقبرة اليهود.

أما "المسرح الكبير"، الذي يُعتَبر المؤسَّسة الإسبانية الثقافية الوحيدة التي شُيّدت في القرن العشرين خارج إسبانيا، فيعود تأسيسه إلى مبادرة فردية لإحدى سيّدات المجتمع الطنجي، الإسبانية إسْبِرانْثَا أُورِيَّانا (كان هناك بالقرب من المسرح شارع يحمل اسمها، لكنّ غُيِّر اسمه في الستينيات إلى شارع أنوال) وزوجِها مانويل بِينْيَا، اللذيْن انتبها إلى الوجود الكثيف للجالية الإسبانية في العقد الأوّل من القرن العشرين، وإلى غياب فضاء ثقافي راق يجمع بين الإسبان على غرار الإنكليز والفرنسيين والإيطاليين، فاستقر رأيهما على تشييد مسرح يكون فضاء ثقافياً يُعرِّف بالثقافة الإسبانية، واختارا له اسم "المسرح الكبير: ثربانتيس".

افتُتح المبنى يوم 11 كانون الأول/ ديسمبر 1913، بحضور أعيان طنجة ووجهائها من مختلف الجنسيات والجاليات، بمن في ذلك وزير سلطان المغرب في طنجة الحاج محمد العربي الطريس ونائبه محمد المُقري، وقُدِّمت على خشبته ابتداء من ذلك التاريخ أعمال لفرق مسرحية إسبانية عريقة مثل "لابارَّاكا" التي كان يترأسُّها الشاعر الغرناطي فِديريكو غارثِيَّا لوركا، وخطب عليها شكيب أرسلان، وغنّت عليها أصوات مرموقة من لُولا فْلُورِيس وأنطونيو مولينا وأنطونيو ماشِّين، وأُجريْت فيه مقابلات في الملاكمة، ونُظِّمت فوقها معارض فنّيةٌ تشكيلية.

كان "مسرح ثربانتيس" مؤسَّسة في خدمة كل الطنجيّين، وكان يُعار مجاناً إلى كل مؤسَّسات المدينة مثل "الصليب الأحمر"، و"مجلس السيّدات"، إلى جانب التمثيليات الديبلوماسية والجمعيات الخيرية وتجمُّعات الهُواة، وقد اعتمد على المساهمة النشطة لجمعيات ثقافية مغربية؛ مثل الجمعية الرياضية الإسلامية "الهلال"، التي كان يُديرها ابن طاهر، وكانت تملك فرقة مسرحية عرضتْ أعمالاً مختلفة في المسرح. وفي آذار/ مارس 1929، عرضت الجمعية مسرحية "صلاح الدين" لنجيب حداد، وفي 23 آب/ أغسطس من السنة نفسها قُدَّمت مسرحية "عُطيل" لشكسبير.

في رسالةٍ لمانويل بينْيا إلى وزير الدولة الإسباني الماركيز دي فيَّاسينْدا يوم 14 آذار/ مارس 1916 طلباً لمساعدة مالية سنوية قدرها ثلاثون ألف بسيطة، نقرأ: "لم يقتصر الأمر على الإسباني وحده، إذ شيئاً فشيئاً شرع اليهود الأهالي، وبعض المغاربة والمغربيات، والإيطاليين، والإنكليز، والفرنسيين، في التعوُّد على الحضور إلى هذا المسرح المتفرّد الذي يستحق نظير هذا الاسم في طنجة، وهم يستمتعون ويتسلَّون بإنتاجاتنا الأدبية.

لكن هذا القَبول من قِبل الجمهور، والذي كان يُتوقَّع، كان يُمكن أن يتطوّر في صيغ تقدُّم ملحوظ، ليَبلُغ هذا المسرح الإسباني بطنجة- طيلةَ السّنواتِ التي عاشها - مِنَ الأهمية الضرورية ما يُمكن به تغطية مصاريف صيانة البناية، وعلى الأكثر وبصعوبة استمرارية هذه العروض الثقافية، التي لها أهميتها في هذا البلد، ونظراً لوضعنا السياسي الدولي حياله، سيكون من غير الضروري التشديد عليه لدى سعادتكم".

ومن رسالة للمُعتَمد الديبلوماسي ف. سِرَّاط إلى دي فيَّاسينْدا يوم 25 ماي 1916، نقرأ: "وعليه، يُفهَم أنّ السيد بِينْيا، الذي بنى هذا المسرح ممتلئاً حماساً وَطَنِياً، مُحفَّزاً من قِبل من كان آنذاك وزيرَ إسبانيا الماركيز دي فيَّاسينْدا، في مرحلة كانت فيها تجارته مزدهرة، وكانت مدينة طنجة تبدو سائرةً في تقدّم استثنائي، واليومَ هو يعاني شللاً في التجارة، ومع الآثار العامّة للحرب وحُمّى الثناء على طنجة، تحوَّل ذاك إلى قلق مخيف بصدد مستقبل هذه المدينة، فَكانت له فرصة الانتباه إلى أنّ عَمَله كان متجاوِزاً الحدَّ، وغيْرَ متناسب مع ثروته الشخصية، وهو يتأسّف أن يكون قد تكبَّد وحيداً العبء المتمثّل في قلّة الاهتمام بالرأسمال المستثمر في هذا المشروع ومصاريف صيانة البناية".

أمام الأزمة التي أدْركتِ المسرح، قرَّر بِينْيَا أن يؤجِّره للمقاول الفرنسي رُوجِير دو مُونْطْبْرَان ابتداءً من 1 نيسان/ أبريل 1919، لمدَّة اثنتي عشرة سنة مقابل مبلغٍ سنوي قدرُه 18000 فرنك.

وفي طنجة الخاضعة للحكم الدولي دونَ بقية منطقة شمال المغرب، والتي كانت مدينةً الجواسيس بامتياز، انتبه العميل الدبلوماسي الإسباني بالمدينة، فْرَانْثِيس صِرَّاط، إلى القرار، فكتب إلى الكونت دي رومانونس، وكان وقتَها وزيراً للدولة، مُخبِرا إيَّاه بما اعْتَبره "حالةً أخرى، حسَّاسة جدّاً للاستعباد الفرنسي". إنها عيّنة أخرى للتنافس الإسباني الفرنسي من أجل التحكُّم في طنجة.

وأُلْغي العقد مع دو مونطبران بعد مفاوضات معقَّدة، وعُقد اتفاق بين بينْيا والحكومة الإسبانية على مساعدة سنوية مقدارها 25000 بسيطة.

مُثْقَلَ الكاهلِ بديون عديدة، ومضغوطاً عليه من قِبَل عرض الشراء المقدَّم من والْكِرْ باسم اللورد بُوطِي، مالك البقعة الأرضية المجاورة، والتي سيُبنى عليها "فندق المنزه"، فاوَضَ بينْيا الحكومة الإسبانية سنة 1928 على بيع المسرح. أقامت القنصليةُ الحجَّةَ لدى حكومةِ بْريمُو دِي رِيبِيرا على "المناسَبة السياسية لزيادة المصالح الإسبانية" في المدينة، والمصلحة في اقتناء المسرح، نظراً "لطابعه الإسباني الصرف، ولأنه البناية الوحيدة والرئيسة، والفريدة من نوعها التي بقيتْ في أيدي إسبانِ المدينة".

ستكون المفاوضات صعبة، وسيُحتاجُ إلى لجنة للتقييم مؤلَّفة من المهندس المعماري لدولة الحِماية كارْلوس أُوفِيلُو، ومهندس بلديَّة طنجة طُومَاس غُومِثْ أَثِيبُو، والمهندس الطنجي دِيِيغو خِمينِثْ، وقُيّمَ المسرحُ بـ 485391 بسيطة.

وقد كان غُومِثْ أَثِيبُو شديد الانتقاد للحال التي كان عليها المسرح، إذ أشار إلى "الموقع السيئ لمسرح ثربانتيس في طنجة، وشبه الانعدام المطلق للصيانة، والتوزيع الداخلي المعيب، والافتقار إلى اتّصال مستقل بين الصالات والمقصورات من هذه الجهة وتلك من خشبة المنصة، وشروطها الصوتية العادية، وقابلية نقل منظومة المقاعد الأمامية، والذوق الفني المشكوك فيه الذي يسود ديكوراتِ الواجهات، شأن ديكورات المسرح الداخلية على الخصوص، وأخيرا الطريق الخارجي الخاص بالعربات، الذي يُطوّق البناية الحالية، والذي يصلح لتنقل العربات التي تُجرّ بالحيوانات، ويستحيل أن تقطعه السيارات".

ولا يخفى أن حال المسرح حالياً أسالت الكثير من الحبر، وحظيت باهتمام العديد من وسائل الإعلام الإسبانية على الخصوص، كما أن كثيراً من المثقّفين والإعلاميين أفردوا له مقالات عديدة، مثلما عُقِدت في شأنه ندواتٌ ولقاءات.

وكانت الفنّانة الإسبانية كُونْسْوِيلُو إِرْنَانْدِثْ، التي جاءت إلى طنجة سنة 1998 وعملت أستاذةً في "المعهد الإسباني" لمدّة ست سنوات، قد خصَّت "المسرح الكبير" بالعديد من اللوحات الفنية، وجعلته موضوعَ معرضٍ تشكيلي احتضنته "قاعةُ عروض معهد ثربانتيس" في المدينة سنة 2002.

كما أصدرتْ كتاباً عنه سنة 2013، عنوانه "مسرح يتداعى"، بالمشاركة مع أربعة أساتذة سابقين في المعهد هم كُونْسْوِيلُو إِرْنَانْدِثْ بصُور للوحات أنجزتها عن المسرح، وسانتياغو مَارْتِينْ غِرِّيرُو بقصة طويلة تستحضر المسرح منذ تأسيسه حتى مرحلة الاستقلال، ومزوار الإدريسي بأنطولوجيا شعرية تستحضر المسرح وتحاوره، وخِسُوس كَارَاثُو بمسرحية يستعيد فيها عوالم ما بعد الاستقلال ومعاناةَ فئة من الإسبان الذين مكثوا في المغرب، وتَوزُّعَهم بين هويتهم الطنجية وجنسيتهم الإسبانية.

المساهمون