"الفتوّة فريد شوقي": تنويعات متناقضة لـ"وحش الشاشة"

"الفتوّة فريد شوقي": تنويعات متناقضة لـ"وحش الشاشة"

07 مارس 2020
تنوّعت الأفلام التي ارتدى فيها عباءة الفتوّة (فيسبوك)
+ الخط -
"فتوّة الناس الغلابة" (1984)، عنوان فيلم لنيازي مصطفى، أدّى فيه فريد شوقي (1920 ـ 1998) دور البطولة، وأنجز المخرج التلفزيوني فهمي عبد الحميد، صاحب "فوازير" فطوطة وسمورة وشريهان ونيلّي، خدعه السينمائية، وقدّم شوقي فيه شخصية الأب والزوج والإنسان الغيور على بلده وتراثه من الرأسمالية المتغوّلة. فَعَل هذا بخفّة ظلّ، كعادته في أفلام كثيرة له. أثناء ارتدائه هذا القناع، تشعر كأنّه الفتوّة العادل، خصوصاً في المشاهد التي تجمعه بزوجته، مؤكّداً عليها ضرورة الاهتمام بزوجها، ورعايته وتحقيق مطالبه، في مشهد ساحر بخفّة ظلّه وسخريته المبطّنة.

طرح العنوان (فتوة الناس الغلابة) الوجه الآخر لنجومية فريد شوقي في السينما المصرية. إنّه مرادف البطل الشعبي، الذي قدّمه في أفلام كثيرة، بالشخصية التي أحبّها الجمهور، الذي منح شوقي ألقاباً عدّة، منها "وحش الشاشة"، و"ملك الترسو".
كثيرة هي الأفلام التي مثّل فريد شوقي فيها دور الفتوّة، بمعناه الحقيقي، في الحارة الشعبية المصرية القديمة، كما جسّدتها روايات نجيب محفوظ. الفتوّة بمعانيها المباشرة: البلطجي والعادل والبطل الشعبي المُدافع عن الفقراء وأبناء الطبقة الدنيا، والفتوّة بمعنييه الرمزي والدلالي، بدءاً من "حميدو" و"فتوّات الحسينية"، ثم "فتوّات بولاق" و"سعد اليتيم" و"الشيطان يعظ" و"أسوار المدابغ" و"بداية ونهاية" و"شياطين الليل" و"30 يوم في السجن" و"فتوّة الجبل". حتّى أفلامه الأخرى، عن عنترة بن شدّاد مثلاً، لم تخلُ من أفعال الفتوة الجسدية.

نيازي مصطفى أول من قدّمه في دور البطل، صاحب العضلات القوية، الذي لا يُهزم أبداً مهما تكالب عليه الآخرون. فقدراته الجسدية وذكاؤه ودهاؤه، قادرة كلّها على حمايته وإنقاذه من الورطات. إنّها البداية الحقيقية للبطل الشعبي. ملامح تلقائية تشي بتعاطفه مع أبناء الطبقة الدنيا. قلبه كبير معهم، فهو إنسان مُحبّ للخير، رغم أنّه يتاجر بالمخدرات. كان ذلك في "حميدو" (1953) لمصطفى. في العام التالي، بدأت أفلام الفتوة بمعناها التاريخي واللغوي المتعارف عليه قديماً، قبل ظهور دور البوليس، مع "فتوّات الحسينية" (1954) لمصطفى نفسه، إنتاج "أفلام محمد فوزي"، الأخ الشقيق لهدى سلطان. القصة والسيناريو لنيازي مصطفى ونجيب محفوظ، والحوار للسيّد بدير. في الفيلم صراع تقليدي بين اثنين من الفتوّات، أحدهما صاعد والثاني خرج من السجن حديثاً، يُؤجّجه (الصراع) وجود امرأة يتنافس الرجلان على حبّها.

تنوّعت الأفلام التي ارتدى فريد شوقي فيها عباءة الفتوّة. في "سعد اليتيم" (1985) لأشرف فهمي، قدّم الفتوّة المفتري، شديد القسوة والبخيل، الذي يستغلّ العمّال، وينطبق عليه وصف الفتوّة الظالم الجبار. يؤدّي شوقي شخصية الفتوّة المعلم الهلباوي، الذي ينافس المعلم بدران (محمود مرسي) ويُذلّه في النهاية. فالهلباوي الماكر الداهية لا يتورّع عن فعل أي شيء يحُقّق له مكاسب، وإنْ كان يُراعي عدم التورّط في مشاكل، فهو لا يستجيب بسهولة لأفكار توفيق الدقن. يمكن تلخيص دور الهلباوي بأنّه الفتوّة النذل والمفتري والحريص والبخيل أيضاً، الذي يكتشف أنّ الجمع بين التجارة والفتوة مكسب أقوى، متّبعاً منهج الدول الرأسمالية، بأساليبها السياسية. ما يؤكّد ذلك كلمات سعد اليتيم (أحمد زكي) نفسه: "دُول مش فتوّات، دُول بلطجية. الفتوّة عُمْرها ما كان معناها إنّ القوي يفتري على الضعيف، ولا يسرق عرق أجير. الفتوّة جدعنة، مروة، شهامة. الفتوّة معناها إنك تقف جنب المظلوم وتنصره على الظالم". لكن الفيلم محمّل بدلالات سياسية عديدة، وإشارات للمحاولات الإسرائيلية للاستحواذ على قطعة أرض من مصر، حتى لو كانت تلك الأرض رمزاً للقضية الفلسطينية.

في "الشيطان يعظ" (1981) لأشرف فهمي أيضاً، أدّى شوقي دور المعلم الديناري. شخصية مختلفة تماماً عن الهلباوي، إذْ جسّد هنا الفتوّة الجدع، الذي ينصر المظلوم ولا يستقوي على الضعيف. خرج عليه أحد صبيانه، الشبلي، الذي له من اسمه نصيب، فهو لم يصل إلى أخلاق الأسد، رغم أنّه صار فتوّة. أخلاقه متدنية إلى أقصى درجات الدناءة. كل ما يهمّه منافسة معلّمه، ومحاولة الحطّ من كرامته. بينهما صراعات وحروب باردة. من أجمل المشاهد وأهمّها، على مستوى أداء فريد شوقي، 3 لقاءات، اثنان منها متمثّلان بمواجهة بين الديناري وشطا الحجري (نور الشريف)، والثالث مع الشبلي (عادل أدهم) في المقابر. لفريد شوقي قناع آخر للفتوّة، في إطار كوميدي، في "30 يوم في السجن" (1966) لنيازي مصطفى. اسمه لا يزال في المقدّمة. يرتدي قناع أمشير، الحاوي الذي يتحوّل إلى فتوّة في كباريه لحمايته من السكارى، لكنّ سوء فهم وغباء البطل يتسبّبان في مشاكل تنجم عنها الكوميديا.
في بداية ثمانينيات القرن الـ20، شارك الملك في معركة واحدة، في بداية "فتوّات بولاق" (1981) ليحيى العلمي، عن قصّة لنجيب محفوظ، والسيناريو والحوار لوحيد حامد. تبرّأ شوقي منه لاحقاً، لأنّ المخرج والمنتج لم يلتزما السيناريو، رغم أنّ الفيلم نجح جماهيرياً، وحقّق إيرادات هائلة للمنتج. بدأ الفيلم من معركة حامية الوطيس بين الفتوّة ميمون (شوقي) والفتوّة المنافس عطوة ورجاله: "زمنك انتهى يا ميمون"، فردّ عليه: "لما زمني ينتهي يبتدي زمن الهلافيت اللي زيك يا عطوة". بالفعل، كل مَنْ حاول أو فكر في أنْ يكون فتوّة من بعده، أو طلب مساندته ليكون فتوّة، أو حتّى صبي فتوّة، يكون هذا الشخص الحالم بالفتوة متوسط البنية الجسدية، كمبيّض النحاس، إذْ يصعب تصديق أنّه سيكون فتوّة. هناك مشهد له مع نور الشريف، يطلب فيه مساندته وتقديمه إلى الفتوّة للعمل معه. هنا، ترتسم على وجه ميمون نظرة إشفاق مشوبة بلمحة سخرية طفيفة جداً من هذا الشاب الضعيف، الذي يريد أن يكون فتوّة. لقطة تعبيرية بديعة لشوقي، ومهارته في أدائها لا تقلّ عن براعته في المشهد الحواري مع المأمور. لكن، رغم الدور البطولي لميمون، وتحطيم أعدائه جميعهم، لا يستسلم غريمه عطوة لإصابته، بل ينهض من سقوطه (في لحظة لا ينتبه ميمون له فيها)، ثم يغرس تروس سلاحه في كتفه، فيُسبّب له عاهة مستديمة. هنا، يُدرك ميمون أنه لا يمكن أنّ يظل فتوّة بكتف واحدة. لذا، يقرّر الاعتزال ويختار شخصاً آخر ليكون فتوّة المكان.

في "بداية ونهاية" (1960) لصلاح أبو سيف، يضطر حسن (شوقي) للعمل فتوّة لكسب قوت يومه. في البداية، يعمل لحماية الأستاذ صبري من البلطجية والسكارى، في ليالي الأنس والفرفشة وإحياء الأفراح. ثم يُصبح حسن، الذي يمارس التهديد بممارسة البلطجة لتحقيق أغراضه، وفرض نفسه كمطرب في الأفراح، إلى جانب عمله في المخدرات. اللافت أنّه يُقدّم شخصية البلطجي بخفّة ظلّ، فصوت حسن لا علاقة له بالغناء. وعندما ينزعج "المعازيم"، يطلبون منه التوقّف عن الغناء، لكنّه يُصرّ عليه، فيتحوّل الفرح إلى معركة. لا يكتفي حسن بهذا، بل يذهب إلى والد العريس مُطالباً إياه بباقي أجره، ولا ينصرف إلا بعد الحصول عليه.
بعد 6 أعوام على "بداية ونهاية"، قدّم فريد شوقي دوراً شبيهاً بظروف شخصية حسن وملابساتها، لكن هذه المرة باسم عطوة، في "شياطين الليل" (1966) لنيازي مصطفى (الذي كتب السيناريو والحوار مع كمال إسماعيل)، عن المقاومة الفدائية ضد الإنكليز عام 1921. قناع عطوة قريب، إلى درجة ما، من قناع حسن أبو الروس، مع اختلاف التفاصيل. عطوة يحمل الحديد على ظهره في أحد معسكرات الإنكليز. يعمل بجدّ، ويتحمّل كلّ شيء وكلّ إهانة لتعليم أخيه الأصغر صلاح (صلاح السعدني، في أول دور سينمائي له). والدتهما أمينة رزق، أدّت دور الأم أيضاً في "بداية ونهاية".

بعد طرد عطوة من عمله في عنابر الإنكليز، يعمل كأحد الفتوّات المتعاونين معهم. يُدرك أنّ الفتوة ستوفّر له الحياة الجيّدة. أهل الحارة معجبون به، لكن عندما يتعاون مع الإنكليز، يُنكره كثيرون منهم، ففي نظرهم يُصبح ملك الهلس وحامي العاهرات. ينصحه مقرّبون منه، كالعمّ جاد زعيم الفدائيين، وروحية (هند رستم) التي تدّعي أنّها راقصة، بينما تدعم الفدائيين وتحميهم من المخاطر. كذلك شقيقه صلاح. لكن عطوة لم يعد مقتنعاً بالمثل القائل: "يا بخت من يموت مظلوم ولا يعيش ظالم"، فهو يرغب في أنْ يظلّ هو الظالم. يريد مزيداً من الأرباح وفرض مزيدٍ من الإتاوات. يرتدي زيّ البلطجي الفتوّة، متّشحاً بالأسود، ويُزيّن معصميه بأساور سوداء، ارتداها سابقاً أنور وجدي في أفلامه. يدور نقاش بينه وبين شقيقه الفدائيّ الذي يدعوه إلى التخلّص من الظلم، فيردّ عليه: "الدنيا يا ظالم يا مظلوم. مفيش حد تالت". لكنّ عطوة يُبدّل موقفه بعد إصابة صلاح بجرح خطر، فيُضحي بعمّ جاد لإنقاذه، كمن يُنقذ ابنه لا أخاه. من تلك اللحظة فقط، يتحوّل إلى فدائي.

(*) فصل من كتاب بعنوان "وحش الشاشة... ملحمة السينما المصرية"، يصدر عن "مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية"، في دورته الـ9، المُقامة بين 6 و12 مارس/ آذار 2020.

المساهمون