"الفائدة السلبية"... سلاح البنوك المركزية لمحاربة الركود

"الفائدة السلبية"... سلاح البنوك المركزية لمحاربة الركود

04 أكتوبر 2019
دراغي أحد المدافعين بقوة عن الفائدة السلبية (فرانس برس)
+ الخط -


يضع المودعون أموالهم في البنوك حفظا لها وأملا في الحصول على سعر "فائدة" أو "عائد" يواجهون به متاعب الحياة، ورغم أن بعض أساتذة الاقتصاد يرون أن "الفائدة" هي عماد النظام المالي في الاقتصاد الرأسمالي، إلا أن بنوكا مركزية لدول وتجمعات اقتصادية كبرى لجأت، خلال السنوات الأخيرة، إلى ما يسمى "الفائدة السلبية".

ويعني ذلك أن المودع ربما لن يحصل على عائد مقابل أمواله، كما أن البنوك لن تحصل على عائد مقابل ما تضعه في البنك المركزي بل ستدفع مقابل ذلك، وهو ما يعني أن استمرار وجودها يعني تآكل قيمتها مع الزمن ليس بسبب التضخم، ولكن بفعل الخصم الفعلي منها.

الدول التي نفذت تلك السياسة وهي من الاقتصادات الكبرى، بررت تلك السياسة بأنها تدفع البنوك للإقراض، وتواجه الركود بإيجاد سيولة نقدية تساهم في انتعاش الأسواق.

ويعد النموذج الأوروبي هو الأبرز في ذلك، لأنه يمثل في مجموعه الاقتصاد الثاني عالميا بناتج محلي يقدر بـ18.7 تريليون دولار سنويا بعد الاقتصاد الأميركي.

أيضا هناك النموذج الياباني بناتج محلي إجمالي يبلغ 4.9 تريليونات دولار تقريبا، إضافة إلى سويسرا والسويد.

التجربة الأوروبية

يعد البنك المركزي الأوروبي أول مصرف مركزي كبير في العالم يختبر في يونيو/حزيران 2014 معدل الفائدة السلبي، متبعا بذلك سياسة مصارف مركزية أصغر حجما مثل بنوك السويد، الدنمارك، وسويسرا.

وفي يناير/كانون الثاني 2017 أعلن المركزي الأوروبي عن دفعة تدابير جديدة في سياسته النقدية لإنعاش الأسواق في منطقة اليورو، حيث خفّض المصرف معدلات الفائدة بحيث أصبح المعدل الرئيسي، وهو مقياس الاقتراض في منطقة اليورو، صفرا بعد أن كان 0,5%. وذلك للمرة الأولى في تاريخ هذه الكتلة النقدية، ما يعني أن بإمكان البنوك تلقي تمويلا من المصرف المركزي الأوروبي من دون أكلاف.


وبالتالي، يجب أن تخفض البنوك معدلات الفائدة التي تتقاضاها من زبائنها المدينين. كما يعني هذا أن الودائع في البنوك لن تحقق شيئا، الأمر الذي يجب أن يحفز المودعين على الاستهلاك أكثر من ادخار الأموال.

وانتقال هذا المعدل الى المجال السلبي في يونيو/حزيران 2014؛ يعني أن بإمكان المصرف المركزي الآن، معاقبة البنوك، الأمر الذي يجب أن يحفزها على ضخ أموال في الأسواق على شاكلة قروض.

وأعلن رئيس المصرف المركزي الأوروبي حينها، ماريو دراغي، أن معدلات الفائدة ستبقى منخفضة أو أنها ستتدنى مرة أخرى إذا لزم الأمر، لفترة طويلة. وتراجع اليورو مقابل العملات الأخرى، لأن الاستثمار في منطقة اليورو بات أقل جاذبية، وهو نتيجة طبيعية مرحب بها لهذه السياسة، كونه يفيد المصدرين الأوروبيين الذين باتت منتجاتهم أقل تكلفة بالنسبة للمشترين من خارج منطقة اليورو.

كما واجه المركزي الأوروبي تخوفات البنوك من تراجع أرباحها او تراجع المودعين عن إيداع الأموال فيها، بإطلاق سلسلة من القروض للبنوك بفائدة سلبية أكبر (بالسالب) من تلك التي يقرض أو يودع بها.

كما أطلق أيضا، في إطار برنامج التيسير النقدي، خطة لإعادة شراء السندات سالبة الفائدة بقيمة 60 مليار يورو شهريا، ارتفعت إلى 80 مليار ثم انخفضت إلى 20 مليار.

وفي سبتمبر/أيلول 2019، اتخذ البنك المركزي الأوروبي جملة من القرارات لتحفيز الاقتصاد في منطقة اليورو، إذ خفض الفائدة على الودائع بـ10 نقاط أساس لتنخفض من - 0.40٪ إلى - 0.50٪، وأطلق برنامج التيسير النقدي لشراء السندات بـ20 مليار يورو شهرياً، يبدأ من الأول من نوفمبر /تشرين الثاني المقبل.

وقال دراغي إن الإجراءات المحفزة،التي تتضمن تخفيض أسعار الفائدة، سيتعين إبقاؤها لفترة أطول إذا لم تزد الحكومات الإنفاق لمساعدة النمو.

ونقلت فاينانشال تايمز"عن دراغي قوله "سياستنا ستستمر في العمل، لكن بوتيرة أبطأ مما لو كانت الحكومات تنفق أكثر"، ثم أضاف: "لدينا دول لديها فائض مالي ولا تستخدمه". وتابع أن 19 دولة تستخدم اليورو تحتاج لتحديد سعة مركزية للإنفاق، إذ تميل الحكومات الفردية لاتباع أولوياتها الخاصة وليست تلك التي تصب في صالح عملة الاتحاد.



وقال المحلل في مجموعة "آي.جي المالية" كريس بوشان، إنه "رغم بقاء أشهر قليلة على نهاية ولايته، إلا أن رئيس البنك المركزي الأوروبي قد سلم خلفه نهجا يفضل إبقاء معدلات الفائدة عند مستويات منخفضة، مع ترك الباب مفتوحا أمام مزيد من الحوافز المالية الكبيرة، وتجديد الفائدة السلبية في البنك المركزي الأوروبي، من أجل السعي مرة أخرى لإنعاش اقتصاد منطقة اليورو".

إصرار سويسري

وفي أوروبا أيضا، يتبع البنك المركزي السويسري منهج الفائدة السلبية، والذي بدأه عام 2014 بفائدة سلبية بلغت – 0.25% والتي ارتفعت بعد ذلك إلى – 0.75% منذ يناير /كانون الثاني وحتى آخر اجتماعاته في سبتمبر/أيلول 2019.

وأعلن المركزي السويسري تمسكه بسياسته النقدية الشديدة التيسير وتدخلاته في سوق العملة، حيث مثلت سياسة أسعار الفائدة السلبية، والتدخل في سوق العملة المحور الرئيسي لاستراتيجية البنك المركزي السويسري، الرامية لتقليص الطلب على الفرنك منذ تخليه عن السقف المحدد لسعر صرف العملة السويسرية أمام اليورو في يناير/ كانون الثاني 2015.

وقال رئيس المركزي السويسري توماس غوردان، في سبتمبر/أيلول الماضي، إن هناك حاجة للإبقاء على أسعار الفائدة السلبية في الوقت الحاضر، مؤكدا على أن فوارق أسعار الفائدة مهمة لأسواق العملات.
وقال غوردان في مؤتمر اقتصادي إن "أسعار الفائدة السلبية مهمة لتنفيذ السياسة النقدية في سويسرا في الوقت الحاضر"، مضيفا أنه لا يستطيع أن يتنبأ بالفترة الزمنية اللازمة لبقائها سلبية، لكنه يفترض أنه سيحدث تطبيع لأسعار الفائدة في مرحلة ما في المستقبل.

تخفيض في اليابان

في يناير/كانون الأول 2016، قرر المصرف المركزي الياباني اعتماد سياسة الفائدة السلبية في ثالث أكبر اقتصاد في العالم، بدءا من 16 فبراير/شباط من العام ذاته، بهدف تحفيز الإقراض ورفع معدل التضخم وإنعاش اقتصاد يعاني من صعوبات، في إجراء استثنائي مبرر بالتقلبات الحالية التي تشهدها الأسواق.


وحدد البنك المركزي الياباني معدل فائدته على الودائع بـ0.1-%، وهي أداة تهدف الى تغريم المصارف التي تحتفظ بالسيولة في خزائنها بدلا من إقراضها، وفرض المركزي القرار على بعض الاحتياطيات الفائضة، التي تحتفظ بها المؤسسات المالية لدى البنك المركزي بلا تغيير عند 0.1- بالمئة.

وقال المركزي الياباني حينها إن هذا الإجراء يمكن أن يوسع "اذا كان ذلك ضروريا". وجاء قرار بنك اليابان في ختام أول اجتماع لمجلس حكامه في ذلك العام، وبعدما رسمت البيانات الرسمية صورة مقلقة للنمو الاقتصادي المتوقع.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2017، قال هاروهيكو كورودا، محافظ المركزي الياباني، إن البنك سيعمق أسعار الفائدة السلبية أو يتوسع في شراء السندات إذا واجه الاقتصاد صدمات خارجية تفرض حاجة "كبيرة" إلى مزيد من التيسير النقدي.
وأضاف أنه لا يرى ضرورة ملحة لزيادة إجراءات التحفيز في الوقت الذي يواصل فيه الاقتصاد الياباني تعافيه بوتيرة متوسطة.
وفي يوليو/تموز 2019، أكد بنك اليابان على استعداده لمزيد من التيسير من أجل استباق المخاطر، التي من شأنها أن تضع ضغوطًا سلبية على التضخم المستهدف البالغ 2٪، بينما تدرس استخدام أربع أدوات سياسية لتحقيق أهدافها، بما في ذلك: زيادة معدلات الفائدة السلبية، وخفض العائد المستهدف لأجل 10 سنوات، وزيادة في شراء الأصول وزيادة طباعة النقد.

توازن سويدي

أما النموذج الرابع، فهو البنك المركزي السويدي، الذي قرر أيضا، في يناير/كانون الثاني 2015، خفض فائدته الرئيسية لرقم أقل من الصفر بكثير، ليصل إلى مستوى قياسي يبلغ سالب 0.5 بالمائة، ولم يستبعد اتخاذ المزيد من الإجراءات.

وقال محافظ البنك المركزي السويدي ستيفان إنغفيس وقتها، إنه لا يريد التكهن بشأن التدابير المستقبلية، لكنه أضاف "للأسف العالم يبدو مختلفا مقارنة بما كان عليه الوضع في ديسمبر/ كانون أول 2014، عندما ناقش البنك الوضع الاقتصادي".

والسويد عضو بالاتحاد الأوروبي، ولكنها لا تتبنى العملة الأوروبية الموحدة اليورو، لكن قرارات المركزي الأوروبي تنعكس على اقتصاد السويد التي تلجأ في كثير من الأحيان لتطبيق نفس السياسات تقريبا.


وفي عام 2018، قرر المركزي السويدي رفع أسعار الفائدة إلى 0.25-%، وهو القرار الذي لا زال مستمرا حتى الآن، حيث أعلن في سبتمبر الماضي، الإبقاء على سعر الفائدة عند نفس الرقم، في الوقت الذي لا تزال فيه التوقعات تشير الى أن معدل الفائدة سيتم رفعه في نهاية العام الجاري 2019.

انتقادات مصرفية

ذكرت البنوك المركزية التي تتبني سياسة "الفائدة السلبية" إيجابيات هذه السياسة، خاصة في مواجهة الركود ورغبتها في وصول التضخم إلى 2% كحد لرفع أسعار الفائدة، لكن خبراء ورؤساء بنوك مركزية كبرى رفضوا هذه السياسة النقدية.

عدد من قادة الدول دائما ما يصرحون بأهمية تخفيض الفائدة، مثل دونالد ترامب في الولايات المتحدة ورجب طيب أردوغان في تركيا، باعتبار أن الفائدة العالية لاتحمي وحدها من التضخم ولكنها بالتأكيد تؤدي لانكماش الاستثمارات المحلية وزيادة ديون البلاد.

وتجد سياسة خفض الفائدة لها مؤيدين باتساع الوقت، ولكن في الوقت ذاته هناك انتقادات توجه إلى الخفض الشديد لدرجة الوصول لفائدة سلبية، ويرى هؤلاء أن الفائدة يجب أن تكون متوازنة وألا تكون البديل الوحيد لمواجهة الركود.
يقول مكتب "أوكسفوردز ايكونوميكس" للدراسات في تقرير سابق، إن هذا الاختبار لوضع المصارف حرك من جديد قلق الأسواق حيال "قدرة المصارف على زيادة أرباحها في ظروف من النمو الضعيف ونسب الفوائد المتدنية بالرغم من أن مشكلات المردودية غير مرتبطة بمسائل الملاءة، اقله على المدى القريب".

ومن أصل 51 مصرفا اختبرتها الهيئة المصرفية الأوروبية، ثمة 13 مصرفا ستعاني من تدهور كبير في نسبة رأس المال السهمي لديها، أي تقديمات المساهمين والاحتياطات والأرباح المخزنة، بمقابل الديون.
وتعاني البنوك الأوروبية بسبب الفائدة السلبية من معدلات الفائدة المتدنية التي تقلص هامش الأرباح، ومن ثم باتت تعتمد مجموعة من التدابير لمواجهة هذا الوضع والحفاظ على مردوديتها، من بينها خطط تسريح الموظفين وتقليص الشبكات، وتنويع المنتجات مثل إيجار السيارات لفترات طويلة والتأمين وتخصيم الديون.

وتسببت أسعار الفائدة المنخفضة وبرامج المركزي الأوروبي لطبع النقود، والتي تعرف بالتيسير الكمي في تشويه أسعار الأصول وانخفاض أرباح شركات التأمين من الاستثمارات، وغالبيتها في السندات.


ويقول الاقتصادي الأميركي من أصل مصري محمد العريان، في تصريحات سابقة لوكالة "رويترز"، عن "الفائدة السلبية"، إن تخفيض اليابان واحد من أسعار الفائدة الرئيسية إلى المنطقة السلبية يسلط الضوء على آمال البلاد في إضعاف الين لرفع معدل التضخم.

وأضاف العريان أن "الدول تسعى الى تحقيق أهدافها الداخلية بصرف النظر تقريبا عن التداعيات الدولية".
أما رئيس بنك التسويات الدولية أوجستين كارستنز، فقد حث البنوك المركزية الكبرى في العالم على توفير ذخيرتها لتباطؤات اقتصادية أشد حدة، بدلا من استنزافها سعيا وراء زيادة النمو.

وفي معرض تقديمه للتقرير السنوي للبنك الذي مقره سويسرا، ويُعرف بالبنك المركزي للبنوك المركزية العالمية يونيو/حزيران الماضي، أبلغ كارستنز الصحافيين أن أي تيسير نقدي ينبغي أن يُدرس بعناية مع الاقتصاد في تطبيقه، متابعا أن "السياسة النقدية ينبغي أن يُنظر إليها كعامل مساند وليس كرأس حربة في استراتيجية لتحفيز نمو أعلى مستدام".

وحذر من أن الاستخدام المستدام قلص من تأثير سياسات، مثل أسعار الفائدة السلبية أو التيسير الكمي. وقال كارستنز "ما قدر التحفيز الإضافي الذي ستحصل عليه بخفض الفائدة 25 نقطة أساس أخرى؟ الغلة ستتناقص من ذلك".

أما وزير الخزانة الأميركي ستيفن مينوتشن، فقد عقب على قرار المركزي الأوروبي بخفض سعر الفائدة على الإيداع في سبتمبر الماضي، قائلا إنني " لم أتفاجأ بقرار المركزي الأوروبي، ولكن معدلات الفائدة على الإيداع السلبية في أوروبا مثيرة للقلق، لأنها تجعل من الصعب على الاقتصاد الأميركي أن ينمو".
من جانبه، قال محافظ بنك إنكلترا، مارك كارني، حول معدلات الفائدة والتضخم أغسطس/آب الماضي، إنه يرى أن الفائدة السلبية لن تكون خيارا متاحا أو جيدا في هذه المرحلة، مضيفاً أنه لا يرجح تغيير هدف التضخم عن النسبة 2%.

في مقابل ذلك، مازال هناك من يؤيد الفائدة السلبية كخيار في مواجهة الركود والتوترات الاقتصادية العالمية الحالية، فمحافظ الاحتياطي النيوزلندي أدرين أور، يقول إن الفائدة السلبية لا تزال خياراً محتملاً، مؤكدا احتمال لجوء بلده لهذا الخيار من أجل تحفيز الاقتصاد.

دلالات