"العربي الجديد" يرصد "رحلات المعاناة" للعمال الفلسطينيين بإسرائيل

"العربي الجديد" يرصد "رحلات المعاناة" للعمال الفلسطينيين بإسرائيل

31 مارس 2014
عدم الاستثمار في البنية التحتية يقلل فرص العمل
+ الخط -
يرتشف صلاح (33 عاماً) آخر قطرات الشاي الثقيل في كوبه، ويترقّب ملامسة عقرب الساعة الصغير لرقم (2) حيث صاحبه الخمسيني عبد الغفور سيأتي مجتاحاً سكون الليل لينطلقا معاً إلى ما يتعارف الفلسطينيون على تسميته بـ حاجز الذل الإسرائيلي" ترقوميا".

غرب الخليل، وفي طابور من الرجال يأخذ حظا من مد البصر، أخذ صلاح دوره بعد 700 عامل كانت الأسبقية بينهم لمن خسر من وقت نومه أكثر.. "لا بأس كلها ثلاث أو أربع ساعات، وسيأتي دوري، وسأستطيع تسديد ديون البقال أبو شاهر الذي جعل سيرتي على كل لسان" .
هكذا كان يحدّث صلاح نفسه في انتظار الوصول إلى نقطة التفتيش محاوِلاً قتل مزيدٍ من الوقت، فيما كان عدد الوافدين خلفه يزداد شيئاً فشيئاً حتى صاروا أضعاف أضعاف المنتظرين أمامه.
في تمام السادسة صباحاً وجدَ صلاح وخلفه صاحبه المريض بـ "الربو" عبد الغفور نفسيهما يقفان أمام جنودٍ ألفاظهم أقوى من رصاصهم سيما وهي تمسُّ "الأم" و"الأخت" و"الابنة".
أشار أحدهم للاثنين ومعهما ما يزيد عن الثلاثين شخصاً للدخول إلى غرفةٍ بمساحة 15 متراً كي يتجهّزوا للتفتيش، وهذا يعني أن ملابسهم إلا "الداخلية" منها سيتم خلعها حتى يُسمحَ لهم بارتدائها مجدداً.
في هذه اللحظات ، ورغم لسعات برد الصباح، ابتسم صلاح لعبد الغفور معلناً استعداده "النفسي" لرحلة "ذلٍ" جديدة وصولاً إلى آخر مراحل التفتيش عند ما يسميه الفلسطينيون "المعّاطة"، وهي باب الدخول إلى أراضي الـ 48 حيث أبواب الرزق هناك.
صورة وبصمة
إشارةٌ جديدة من إحدى المجنّدات شعثاوات الشعر، انتظرها الأربعون عاملاً للدخول إلى غرفة التفتيش الثانية التي يتصدّرها دولابٌ للتصوير، يوضع فيه العامل فيدور به حتى يأخذ له الصور من كل الجهات، ثم ينتقل بعدها إلى جهاز البصمة.
"ما فيش إلك بصمة يا خيوان.. خذ هدومك وإرجع بيتك"، قالها جنديٌ إسرائيليٌ لعبد الغفور بعربيةٍ ركيكة، ورغم محاولات الأخير استجداء تعاطفه، إلا أن الردّ كان واحد: "روخ جدد بصمتك في الإدارة المدنية، وارجع بعدين".
مرَّ صلاح من جهاز البصمة بسلام، مودّعاً صديقه آسفاً على حاله، ليكون من ضمن 20 آخرين سيدخلون الآن آخر مراحل التفتيش المهينة: "المعّاطة" أو "النّتّافة" كما يطلق عليها العمال الفلسطينيون، وهي عبارة عن دولاب اسطواني محاط بقضبان حديدية، يشبه تماماً تلك الآلة الخاصة بنتف ريش الدجاج يوضع الفلسطينيون فيها ليُستقبلوا بأبشع الألفاظ واللكمات، لتدور بهم فتكشف إن كان أحدهم يحمل سكيناً أو أي آلةٍ حديدية حادة.

خلّي السُّلطة تشغلك!
أما صلاح، فبعد خروجه من "المعّاطة" ناداه جنديّ ليخبره أن هناك مشكلة بـ "تصريحه" كونه عولجَ مرةً بأحد المستشفيات الإسرائيلية بعد إصابة عمل، وبقيَ عليه استحقاقات مالية للأطباء فيها.
ذرف صلاح الذي بقي لزوجته أياماً فقط وتلد ابنه الخامس "دمعة" وجع، خاصة وأن ابنه في الصف الخامس يحتاج لكتب جديدة، وأخته اليتيمة ستتزوج بعد شهرٍ فقط، وماذا عن البقّال أبو شاهر؟.
حاول صلاح استدرار عطف الجندي، مخبراً إياه أنه ينتظر منذ منتصف الليل، وأنه بحاجة أجر اليوم بشكل مُلِح وساق له غير ذلك من أسباب، إلى أن طلب منه الأخير مراجعة ضابط المخابرات في الغرفة هناك لعلّه يخرج باستثناء.
مرّت ساعة، وصلاح في الداخل، لكنه خرج رافعاً رأسه بعنفوان ليقول للجندي ذاته:"إذا لم نتمكّن من استرجاع أرضنا فلن نبيع ما تبقى لنا منها".
يقول صلاح لمراسلة العربي الجديد:"طلب مني ضابط المخابرات الإسرائيلي التعاون، والإدلاء بمعلومات حول المقاومين في منطقة سكناي، وعندما رفضت التعاون قطعاً، مزّق تصريحي وقال لي: يبقى روح خلّي السلطة تشغلك، نحنا ما عنا شغل".
عاد "صلاح"، تمام التاسعة والنصف صباحاً إلى منزله ليلقي التحية على البقال أبو شاهر، متجاهلاً نظراتِ "الغل" ذاتها التي يرمقه بها كلما مرّ بالقرب منه نتيجة تأخره في دفع ديونه.

توقيعُ عقود "الموت
"
سواءً صلاح، أو عبد الغفور، هما نموذجان لما يزيد عن 65 ألف فلسطيني من العمّال (أصحاب التصاريح) داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وفقا لإحصائية اتحاد العمال الفلسطينيين، وهما نموذجان لآلاف القلوب التي تعود مكسورةً بعد انتظار "الأمل" ليس على حاجز ترقوميا وحسب، بل على حواجز "الشمعة، ومحسوم 300 "بيت لحم"، وزعيِّم، وغيرها"، نتيجة قلة فرص العمل في المدن الخاضعة لإدارة السلطة الفلسطينية، وتواضع الأجور مقابل غلاء المعيشة الفاحش هناك.
ويتوجب على العمال والمرضى والتجار وذوي الأسرى الراغبين في دخول إسرائيل الحصول على تصاريح خاصة من الإدارة المدنية الإسرائيلية بواسطة مكاتب العمل أو دوائر الارتباط في السلطة الفلسطينية، شريطة تقديمها قبل موعدها بأسبوعين على الأقل.
يقول خالد (29 عاماً) وهو خريج كلية الإرشاد النفسي والتربوي التابعة لجامعة بيت لحم: "لم أجد عملاً في مجالي، فقررت التوجه إلى داخل الخط الأخضر حيث عملت هناك في مجال دهان الحوائط الذي أتاح لي تحصيل مبلغ 110 دولارات يوميا.
ويعمل معظم الفلسطينيين داخل الورش الإسرائيلية على ضمانة ما يسمى بـ "المناهيل" أي "الكفيل" ويكون في الأغلب عربياً "درزياً"، ويجري العمل بين الطرفين على أساس اتفاق يقر فيه العمال الفلسطينيون أن "الكفيل" غير مسؤول عن أي أذى يتعرضون له خلال تواجدهم في ورش العمل الإسرائيلية، ولا يحق لهم طلب أي تعويض أو حتى تكاليف علاج، فيما لو رفضوا التوقيع يسحب منهم "التصريح" على الفور.
ويذكر أن عدداً كبيراً من العمال لاقوا حتفهم جراء حوادث أثناء عملهم في البناء، أو مطاردةً من قبل جنود إسرائيليين فقط لأنهم "فلسطينيون".
وأضاف خالد لمراسلة "العربي الجديد": "عذاب الانتظار على الحواجز ليس شيئاً أمام عنصرية التعامل معنا داخل ورشة البناء أو في وسائل النقل "الإسرائيلية" التي لا يستطيع ركوبها منا إلا من أتقن العبرية، فيما يتم تخصيص وسائل نقل خاصة بعمال الداخل تحت ذريعة إسرائيلية تقضي بـ "توفير سبل الراحة لهم"، لكن يبقى السبب الحقيقيّ أمنياً بامتياز".
ووصل عدد العاطلين عن العمل حسب تعريف منظمة العمل الدولية في فلسطين ككل حوالي 234 ألف شخص، منهم حوالي 126 ألف في الضفة الغربية، التي تعد بؤرة الاتجاه نحو العمل في الداخل المحتل.

بدون تصريح؟
ويموت الكثير من العمال بعد مطاردات طويلة من جنود الاحتلال بسبب محاولتهم الوصول إلى الأراضي المحتلة دون تصاريح عمل رسمية، وأغلبهم من الشباب ما دون الـ 24 عاماً.
"شرط أساسي للحصول على التصريح أن تكون أباً فوق الـ 24 عاماً، هم يلعبون على وترٍ حساس اعتقاداً منهم بأن الأب لن يضحي بأبنائه وزوجته لأجل عملٍ يعدونه "إرهابياً" في مدنهم"، هكذا يقول ياسر (21 عاماً) وهو أحد عمال العمال الفلسطيني الذي يعمل داخل الأراضي المحتلة بدون تصريح.
وقال ل"العربي الجديد": "شروط الحصول على التصريح لا تتماشى مع ظرفي..هذا ما يضطرني إلى دخول الأراضي المحتلة للعمل بطرقٍ غير رسمية مع مجموعة من أصدقائي، من خلال الأراضي الواسعة، التي يعدّها الإسرائيليون محميات طبيعية، فلا يمرّ من خلالها الجدار".
وأوضح أنه تمّ اكتشاف أمره أكثر من مرة مع مجموعة من رفاقه، وتعرضوا للضرب من قبل الجنود الإسرائيليين، حتى أن بعض رفاقه قُتلوا حينما حاولوا الهرب من كمين الجنود.
ويقول ياسر وهو طالبٌ جامعي، إنه لم يدخر جهداً للحصول على فرصة عمل في مدينته نابلس، إلا أنه كان في أحسن الأحوال يتلقى أجر عاملٍ لا يتعدى 15 دولارا في اليوم.

كل شيء وله ثمنه
يتهم راتب الجبور، أمين سر اتحاد العمال الفلسطينيين، في حديثه للعربي الجديد "عصابات" من الفلسطينيين والإسرائيليين والمخابرات الإسرائيلية على حد سواء، بابتزاز مئات العمال مقابل العمل لتوفير لقمة العيش، مركزاً على أهم أشكالها وهي "عرض التعاون مع إسرائيل" على أصحاب التصاريح كشرط للحصول عليها.
وأضاف: "لا يحق لإسرائيل أبداً، وفق المعايير والاتفاقيات الدولية، تقييد حرية أي مواطن في التنقل، بما في ذلك حرية ممارسته حقه في العمل والتعليم والعلاج"، واصفاً إجراءات الاحتلال التعسفية بأنها ترتقي لمستوى "الجريمة"، فيما تنتهك اتفاقية جنيف الرابعة التي تمنع الاحتلال من ابتزاز الفلسطينيين لدفعهم من أجل خدمة "إسرائيل" من خلال الضغط عليهم نفسياً ومساومتهم بلقمة عيشهم.
وتابع: "حوالي 65 ألف عامل يعملون داخل المستوطنات الإسرائيلية، وهذا يعني أن هؤلاء كلهم يخضعون لعذابات كثيرة قبل الوصول إلى مناطق عملهم، ناهيك عن تعامل المستوطنين معهم بأساليب عنصرية وطريقة بذيئة".
وتقول وزارة العمل الفلسطينية إن نحو 45 ألف فلسطيني من خريجي الجامعات، وغيرهم ينضمون سنويا إلى طابور الباحثين عن العمل، فيما لا تستوعب السوق إلا قرابة الخمسة آلاف منهم.
ويقول رئيس قسم الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة النجاح، عبد الفتاح أبو شكر، إن الاقتصاد الفلسطيني قائم على المساعدات الخارجية، بينما القاعدة الإنتاجية المتوفرة في الضفة الغربية هي خدماتية بحتة، ولا يوجد أي استثمار حقيقي للزراعة أو الصناعة، الأمر الذي أضعف توفر فرص عمل، ودفع بالشباب سيما خريجي الجامعات للبحث عن عمل في المستوطنات الإسرائيلية.
وطالب أبو شكر، السلطة الوطنية الفلسطينية بضرورة خلق فرص عمل جديدة للشباب الفلسطيني، حفظاً لكرامتهم وإنسانيتهم من العبث الإسرائيلي.

المساهمون