"الضرب" في صناديق الاقتراع

"الضرب" في صناديق الاقتراع

14 يونيو 2020
+ الخط -
"أنا أفهم غضبكم. ولكن كما قيل من قبل، أشك في أن غضبكم يصل إلى نصف غضبي. لست هنا لأقوم بأعمال وحشية، لا أقوم بحرق وتفجير الممتلكات، ولا أعبث في مجتمعي، فماذا تفعلون؟ أنتم لا تفعلون أي شيء، لأن ذلك لن يعيد أخي على الإطلاق .. قد يبدو الأمر مريحا لحظة، تماما مثل احتساء الخمر، ولكن عندما تستيقظ سوف تتساءل عما فعلته. (...) في كل حالةٍ من عنف الشرطة، حدث الشيء ذاته: أنتم تحتجون. تدمرون الممتلكات وهم لا يتحرّكون. هل تعلمون لماذا هم لا يتحرّكون؟ لأنها ليست ممتلكاتهم وهي ممتلكاتنا. (...) دعونا نتوقف عن التفكير في أن أصواتنا لا تهم ونقوم بالتصويت. ليس فقط التصويت للرئيس، بل خلال الانتخابات التمهيدية. صوّتوا على الجميع، ثقفوا أنفسكم، ثقفوا أنفسكم! لا تنتظروا من شخصٍ آخر أن يخبركم من هو من ... ثقفوا أنفسكم واعرفوا لمن تصوّتون. (...)".
ليس كلاما لعالم في السياسة أو لأستاذ جامعي. إنه الكلام التلقائي الذي توجه به شقيق جورج فلويد إلى الجموع المحتشدة في مكان وقوع جريمة قتل شقيقه بالضغط على العنق نحو تسع دقائق من شرطي معروف بتوجهاته العنصرية. يفتح هذا الكلام الواعي والهادئ، من جديد، ملف الانخراط في العمل السياسي المحلي أو الوطني، أو على الأقل، محاولة التأثير في السياسات العامة من خلال ممارسة الحق الذي كفلته كل دساتير الدول الديمقراطية والمتمثل بالاقتراع على كل المستويات من بلدية إلى محلية إلى وطنية.
وقد أشارت الدراسات الاجتماعية، خصوصاً في السنوات الأخيرة، والمتعلقة بنسب التصويت أو الامتناع عن التصويت لدى المواطنين من أصول مهاجرة في الغرب، إلى ضعفٍ شديد في 
الأرقام والنسب، إضافة الى ميلٍ شبه شامل للامتناع عن التصويت إهمالاً من جهة، أو لعدم القناعة بالدور والثقل الذي يمكن أن يلعبه الصوت في تغيير مسار سياسي يعتقد غالبيتهم أنه غير مواتٍ لهم ولمستقبلهم من جهة أخرى. ويبدو هذا الميل غالباً أيضاً وبشدة أكبر لدى من يحملون أصولاً عربية أو أفريقية، فغالبية المهاجرين من هذه الجهات الجغرافية، خصوصاً من هم من الجيل الأول أو الثاني المتأثر بتربية الأول، ترعرعوا إما في بلادٍ لم تعرف تجربة ديمقراطية بالنسبة للجيل الأول، أو هم ترعرعوا في كنف عائلاتهم التي تنهاهم عن الخوض في السياسة لحمولةٍ من الرهاب التي ما فتئت تذكره، وحملته معها في حقائب هجرتها الاقتصادية أساساً بالنسبة للجيل الثاني. وبالتأكيد، يمكن التمييز بين الهجرة الاقتصادية وما حملته معها من قواعد تدعو إلى الحياد والانصراف عن الخوض في الحياة العامة في البلد المستضيف، والوقوف موقف المتفرج لمتابعة التحصيل المعيشي من دون قلق متوّهم، وتلك الناجمة عن لجوء سياسي أصحابه مسيّسون من منبتهم، وهم بالتالي أكثر ميلاً إلى الاهتمام بمشهد بلد اللجوء السياسي الجديد، ومحاولة المشاركة في تعبيراته على مختلف أشكالها.
يعاني المواطنون الغربيون، من أصولٍ عربية أو أفريقية خاصة، من الإجحاف الذي يعتبرون جزءاً كبيراً منه مرتبطا بعنصرية مجتمعات الاستقبال، ويعطون أمثلة عليها من خلال تعامل رجال الشرطة معهم أو من خلال التمييز في التوظيف وفي إيجاد سكن، إلخ. ويرد الحديث عن هذه "العنصرية" بنسبٍ وتعريفاتٍ متفاوتة، ويحتاج الأمر دراسات موسعة، تمكننا من الدخول في تفاصيل بنيتها المكونة من الوهم أو من الحقيقة أو كليهما معا. وهم يعبرون عن هذه المعاناة بسرديةٍ تحمل جرعة هائلة من المظلومية المستندة إلى وقائع وشهادات وتجارب مُعاشة، أو إلى مروياتٍ وإشاعاتٍ ما فتئت تُثري وسائل التواصل الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، يمتنعون في غالبيتهم عن الخوض في أي نشاط سياسيٍّ محلي أو وطني. كما أنهم ضعيفو الاهتمام بالعمل المدني حتى، فوجودهم في منظمات المجتمع المدني، عدا تلك المرتبطة بالعمل الخيري الديني، تكاد تكون نادرة.
هذه العلاقة الإشكالية مع العمل العام مركّبة، وتحتوي في ثناياها ميراثاً أشرنا إليه، أو خيبةً تعود إلى انهيار حلم مثالي منتظر، أو إلى شعورٍ حقيقي بعدم أهمية التأثير في العمل العام في تغيير 
مسار حياتهم. وعندما يكون الاندماج كاملاً، فغالبية المندمجين فعلاً في بلاد الاستقبال يحاولون التمايز عن أترابهم بالانخراط في عمل عام لا يفيد المجموعة، بل تعود فوائده فردياً عليهم. كما أنه صار من المتاح أن نجد أقلية منهم تنخرط في المنظمات والأحزاب المعادية أصلاً لوجودهم، مغذّين بالتالي مفهوم "كره الذات". وبالنتيجة، فالمحتاجون حقيقةً للتأثير في القرار السياسي بعيدون واقعاً وغالباً عن التمكّن من الأدوات التي تسمح لهذا التأثير أن يكون فاعلاً. وعلى الرغم من شقّ بعض الأفراد طريقاً في هذا المجال، إلا أن التجارب الفردية لا تبني تياراً، ولا تحسب لها القوى السياسية أي حساب.
العمل السياسي متاح في الأنظمة الديمقراطية لكل المواطنين، من دون أي شكل من التمييز، والأحزاب القادرة على تمثيل تطلعات أصحاب الأصول الأجنبية وترجمتها هي التي يغلب عليها التأثير التقدمي اليساري/ البيئي. وأذرعها مفتوحة غالباً، لكنها تُصاب بالخيبة من عزوف من هم في أشد الحاجة للتأثير في السياسات العامة. شقيق جورج فلويد دعا المتظاهرين إلى عدم ضرب المخازن والممتلكات العامة، وناداهم إلى الضرب المعنوي عبر صناديق الاقتراع، فهل من يتّعظ ليعدل عن مجرد الشكوى، مغادراً رحابها السهلة نحو حقول التأثير والتفاعل؟