"الشخصيّ سياسيّ": عن المرأة والحجاب وكاتمي الصوت

"الشخصيّ سياسيّ": عن المرأة والحجاب وكاتمي الصوت

07 اغسطس 2017
(عايش طحيمر)
+ الخط -

حقّ أصيل للمرأة، من جملة حقوق مستلبة وبداهات غير محقّقة، غيّبته عقود من السرديّات الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة وصيّرته إلى حقّ جمعيّ للرّجال في حياة المرأة وحتّى لمن هم بعيدون عنها نسبًا وقرابة – حقّ السّيادة على جسدها. يتجلّى استلاب هذا الحقّ في حيوات وخبرات النساء الشخصيّة في حيّزهنّ الخاص، وفي المجال العام أيضًا، ويبرز أكثر – لكن ليس حصرًا بالقطع– فيما يتعلّق بزيّ المرأة، في حقّها في اختيار ما تلبس في الفضاء العام، وعلى وجه خاص في حقّها في ارتداء "الحجاب" أو التخلّي عنه.

تزايدت وتيرة النقاش حول "الحجاب" كأحد أبرز تمظهرات حقّ المرأة في جسدها من أكثر من منظور في السنوات الأخيرة، خاصّة بعد الحراك الثوريّ العربيّ المندلع من أواخر العام 2010، وبرز الحقّ في الجسد الأنثويّ كحقّ خالصٍ للمرأة وحدها ضمن الحقوق والحريّات الشخصيّة التي نُودي بها في خضمّ الزخم الثوريّ العربيّ وعُلّقت آمال عريضة على استعادتها.

يتمثّل استلاب حقّ المرأة في جسدها وملبسها في عدّة صور، منها قمع الحقّ في الاختلاف في الرؤى فيما يخصّ التأويل الديني لمسألة الـ"حجاب" وتقبّل تأويلات أخرى مغايرة للسائد، بل إنّ مجرّد طرح رؤية أخرى حول الموضوع يلقى رفضًا قاطعًا من أعداد غير قليلة من الرجال، والنساء أيضًا، ويصل الأمر في صورته القصوى إلى حدّ تأثيم -وأحيانًا تكفير- القائلين والمؤمنين بخلاف السائد، ما يحيل إلى قضايا مهمّة كمقاربة النص الديني، وقيم الحرّيّة، والاختلاف والتعدديّة، وواقع ممارستها. ومن صور هذا الاستلاب أيضًا الاستهجان المعلن والضمنيّ، لكن الملموس رغم ذلك، والوصم الجمعيّ لمن تمارس حريّتها في عدم ارتداء "الحجاب" (وأحيانًا في ارتدائه أو ارتداء شكل معين من الحجاب) أو حريّتها في التخلّي عنه بعد ارتدائه.

يتجلّى استلاب هذا الحقّ الإنسانيّ بصورة أخرى في استحقاق الرجال والمجتمع عامّة لسؤال المرأة عن "الحجاب"، استحقاق يُمنح ضمنًا حتّى لمن لا تربطهم بالمرأة صلة شخصيّة قويّة، كأن يستنكر جار أو زميل في العمل تخلّي جارته أو زميلة له عن "الحجاب"، أو أن يسأل جمهور فنّانته المحبوبة لم نزعت حجابها بعد فترة من ارتدائه، أو أن ينشغل محبّو فنان أو رياضيّ شهير بسؤال – يتجاوز التساؤل إلى الاستنكار والغضب عادةً– عن أسباب تخلّي زوجته عن "الحجاب".

إنّ استحقاق التساؤل هنا هو في ذاته استلاب لحقّ شخصي، بما فيه من استباحة للخصوصيّة والحريّة، وعنف تجاه المسؤولة وذويها ممّن يُسألون عن الأمر نيابةً عنها – استباحة وعنف يُعاد إنتاجهم مرارًا انطلاقًا من اعتقاد الحقّ في الوصاية على المرأة والحقّ في السؤال والاستنكار في حال خالفت معتقدًا سائدًا أو ممارسة سائدة، فبينما لا يجد السائلون أيّة غضاضة في إبداء الرأي بشأن تخلّي فنّانتهم المفضّلة عن حجابها، أو سؤالها عن أسباب التخلّي، فإنّهم يستنكفون عادة عن سؤالها عن سنّها أو كم تقاضت عن آخر عمل لها، أو غير ذلك ممّا يعدّ شأنًا شخصيًّا محضًا.

فوق هذا كلّه، ثمّة قمع آخر لصوت المرأة المطالب باستعادة حقوقها، قمعٌ ذكوريّ بالأساس يتمثّل النزعة الأبويّة في إسكات النساء وكتم أصواتهنّ التي تستدعي فعل الحكي كفعل مقاوم. يظهر هذا النوع من القمع بصورة جليّة أكثر عبر وسائل التواصل الاجتماعي (ربّما بسبب خاصيّتها في عرض وتكثيف صور الاتّصال والتفاعل بين مستخدميها).

يُبدي البعض على سبيل المثال استياءً غير مبرّر من سرد امرأة التجربة التي مرّت أو تمرّ بها في تخلّيها عن "الحجاب"، ومن حديث النساء حول الموضوع وإبداء رأي فيه. يحتجّ بعض هؤلاء بالخوف من "تحريض" نساء أخريات على القيام بفعل مماثل، في افتراض ذكوريّ بقصور عقول النساء وتقليدهنّ لبعضهنّ بالضرورة دون إعمال فكر أو عقل، فضلًا عمّا فيه من فعل الوصاية على النساء الأبويّ بامتياز، وما ينطوي عليه من هيمنة فكريّة تنطلق من افتراض واحديّة المعنى والتأويل للنصّ الدينيّ، وصوابيّة القول السائد فيما يخصّ وجوب "الحجاب" للمرأة المسلمة بالضرورة.

يُحاجج آخرون أنّ حسب المرأة أن تفعل ما تشاء، لكن لا داعيَ أن "تزعجهم"– الرجال ومجتمع "الفضاء الإلكترونيّ" عامّة– بتحليلات وتأويلات حول الموضوع، في تمثّل ذكوريّ لصورة "الرجل" المانح والمانع لحقّ المرأة في جسدها وصوتها كيفما يشاء. وتشي هاتان الحجّتان بأنّ صوت المرأة المقاوم يثير حفيظة الكثيرين حول ما استعادته وبإمكانها أن تستعيده من حقوق وحريّات، وما في ذلك من تهديد لمكتسباتهم وامتيازتهم الذكوريّة. ثمّة من قالوا أيضًا إنّ أمرًا كالتخلّي عن الحجاب هو شأن شخصيّ على المرأة ألّا تتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو المنطق الأكثر إشكاليّة في كلّ ما طرح ربّما، لأنّه يناقض جوهر سرديّة "الحجاب" كما هي قائمة فعلًا حيث الشخصيّ فيها سياسيّ بامتياز.

ارتبطت مقولة "الشخصيّ سياسيّ" The personal is political ارتباطًا وثيقًا بالموجة الثانية للحركة النسويّة في الستّينات والسبعينات. على خلاف الموجة النسويّة الأولى التي انشغلت بصورة رئيسة باكتساب النساء للسلطة السياسيّة، والتحصّل على حقّ الاقتراع والمشاركة السياسيّة وغيرها من الحقوق السياسيّة والاجتماعيّة كسبيل للمساواة، ركّزت الموجة الثانية على إنهاء التمييز ضدّ المرأة وعلى النقد النسويّ للنظام البطريركيّ وتفكيك ارتباطه بالعوامل السياسيّة والتاريخيّة. تفيد مقولة "الشخصيّ سياسيّ" بأنّ التجارب والمشكلات الشخصيّة لا تنفصل عن البنى السياسيّة والاجتماعيّة على نطاق أكبر، فـ موضوع مثل مشاركة الزوج زوجته في عمل المنزل مثلًا ليس أمرًا شخصيًّا بحتًا أو مشكلة فرديّة بين زوج وزوجة، إذ أنّه يرتبط بعلاقات القوّة بين المرأة والرجل والبنى الاجتماعيّة والسياسيّة والتاريخيّة التي شكّلت هذه العلاقات وتساهم في إعادة إنتاجها، ما يجعل أمرًا كهذا، كما كلّ تمظهرات السلطة الأبويّة، عمليّة ممنهجة وليست محض أمر شخصيّ.

كذلك فإنّ "الحجاب" وملبس المرأة وحقّها في السّيادة على جسدها وما انبنى عليهم من سرديّات ليست أمورًا شخصية – كما ينبغي لها أن تكون – إنّما هي مسائل وثيقة الصلة بالبنى السياسيّة والاجتماعيّة والخطابيّة التي أنتجتها. لذا فإنّ فعل الحكي/ السرد النسائيّ/ النسويّ حول "الحجاب" وحقّ المرأة في الاختيار وحقّها في حيازة جسدها هو فعل سياسيّ ها هنا، فعل استعادة هذه الحقوق إلى حيّزها الشخصيّ، فعل تفكيك ونقض للسياسيّ لاسترجاع الشخصيّ إلى كنه المفترض.

وعلى ذلك، فإن إسكات المرأة وكتم صوتها هو ممارسة لعنف أبويّ تضاف إلى أوجه العنف الرمزيّ والماديّ الواقعة عليها: عنف التحديق الذكوريّ، عنف الوصاية الأبويّة على جسد المرأة والرغبة في ضبطه وامتلاك حقّها فيه، عنف وصم الاختلاف والخروج على السائد، عنف التمييز اللغويّ الجندريّ، عنف التحرّش والاعتداء الجسديّ/ الجنسيّ على النساء وعنف لوم الضحيّة، من ضمن صور أخرى عديدة ومتقاطعة.

وممّا يثير الانتباه هنا هو أنّ المرأة تتعرّض لعنفين متناقضين: عنف المساءلة وعنف الإسكات. فبينما يسائلها الجميع عن خياراتها فيما يخصّ جسدها، فإنّهم يريدون إسكاتها إن شاءت أن تروي تجاربها حول استعادة تملّكها له.

كانت جدّاتنا – خاصّةً إن ابتغين دعاءً مُلحًّا وإجابةً عاجلة – تبدأن أدعيتهنّ بفعل كشف الرأس، قائلات "كشفت راسي ودعيت ....". ألا نبدو أصدق وأقرب للسماء دون أغطية على رؤوسنا؟ وإن كان الله يقبلنا برؤوس مكشوفة وغير مكشوفة، وبأصواتنا وصورنا كافة، أيقمعنا من هم/ نّ مثلنا، من لحم ودم؟

المساهمون