"الشحرورة" صباح... ثلاث سنوات على الرحيل

"الشحرورة" صباح... ثلاث سنوات على الرحيل

26 نوفمبر 2017
الفنانة الراحلة صباح (باتريك باز/ فرانس برس)
+ الخط -
قبل ثلاث سنوات رحلت الفنانة اللبنانية، صباح، عن عمر قارب التسعين عاماً. لم تكن صباح أو جانيت فغالي (اسمها الأصلي)، فنانة عادية. إذْ لأكثر من خمسين عاماً شغلت هذه المرأة العالم والناس. منذ طفولتها، حاولت صباح البحث عن مُتنفَّس من قرية جميلة تُدعى بدادون في جبل لبنان، فثارت على محيطها العائلي، أمام تشدُّد والدها من جهة، وحياته الخاصة التي غلب عليها الترف والنزوات من جهة أخرى. حتى تزعزعت أجواء العائلة، ورحلت والدتها، لتبدأ جانيت فغالي بعدها الانتفاضة على العائلة، لتحقيق حلمها في أن تصبح الشحرورة، وتتخذ من الفن ملاذاً لمسيرة لم تعرف الهدوء يوماً.

لا مبالغة إن قلنا إنَّه على الرغم من زيجات "الشحرورة" الثماني، والتي لم تُعمّر كثيراً، فقد تزوجت صباح الغناء والفن والشهرة. عاصرت صباح أم كلثوم وفيروز وفايزة أحمد وسعاد محمد وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، لكنها اختلفت كثيراً عنهم. محاولات كثيرة أصابت فيها، وأخرى أحزنتها، لكنها لم تُساوم، بداية من الثورة على الأهل، ثم الزواج، فالطلاق، والإنجاب الذي لم يقف عقبة أمام ماضٍ عصيب، على الرغم من الأمل بنجاح محدود، فأعطت "الصبوحة" كل ما عندها وأكثر من موهبة، وتحوّلت إلى نجمة تغيير في الأسلوب والمضمون من دون خوف.


فنّ صباح أشبه بمغامرة محسومة النتائج، ولو بعد وقت من إطلاق فيلم (80 فيلم) أو إصدار أغنية (3200 أغنية) وغيرها من المناسبات التي كانت تشدّها، وتحضرها برحابة صدر، والعلاقات السياسية والاجتماعية وغيرها، ما شكّل لها قاعدة جماهيرية اجتماعية وشعبية تتنافس على محبتها.

في مرحلة الخمسينيات والستينيات أولت صباح كامل اهتمامها للسينما. ويُقال إنّها كانت تشمّ رائحة النجاح من بعيد، وتمتّعت بحدسٍ استباقي في أي عمل فني تُقدم عليه في عصر السينما الذهبي. استطاعت "الصبوحة" منافسة جميلات الشاشة في القاهرة، فوقفت أمام أنور وجدي وأحمد مظهر وعبد الحليم حافظ. وأثبتت أنّ الفنّ لا ينحصر بلهجة عربية، ولا بيئة مختلفة، بل علمت على بناء قاعدة للمواهب اللبنانية الأخرى التي وصلت القاهرة بعدها.



القاهرة، أسهمت إلى حد كبير في رسم ملامح ونجاح صباح القادمة من لبنان، لكن ذلك لم يبعدها عن موطنها الأول. عادت بعد القاهرة وتعاونت مع الأخوين رحباني، عاصي ومنصور، وشكلت إلى جانب زميلتها السيدة فيروز، والفنان وديع الصافي، "تريو" لبناني، تحول مع الوقت إلى مدارس فنية تخطَّت لبنان إلى العالم. ومن دون شك كانت لمدرسة صباح في الغناء وحتى التمثيل أبعاد أخرى لا تقف عند حدود الصوت المختلف الذي حملته ولا الأسلوب الغنائي الذي انسجم مع اللون الجبلي (الموال وميجانا والعتابا، على العكس، ففي عزّ بعض الأعمال المسرحية التي صُبِغَت بالطابع اللبناني المحض كانت صباح تقف على أعتاب أبرز الملحنين المصريين الذين ما بخلوا يوماً أمام الصوت والسحر، وقدموا لها جملة جديدة في الغناء. بعد مجموعة من الأفلام، طبع بليغ حمدي (يانا يانا) ومحمد عبد الوهاب (عالضيعة) صوت صباح بلون يحاكي "كاركتير" صباح المُختلف. نجحت هذه المجموعة من الأغاني، وأصبحت مع الوقت مرجعاً للمواهب الغنائية الناشئة، وما زالت حتى اليوم.

لا نبالغ لو قلنا إن فترة الحرب الأهلية اللبنانية كانت الأسوأ على الصعيد الشخصي لصباح. على الرغم من هجرتها من لبنان إلى باريس وإقامتها في القاهرة لم تهدأ ولم تحبط. ما دفع الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات إلى منحها الجنسية المصرية، كذلك عرض عليها الإقامة الدائمة في القاهرة، لكنها رفضت.



لم يُغر النجاح "الصبوحة"، بل كان يزيدها تواضعاً والتزاماً تجاه وسائل الإعلام تحديداً. عُرف عنها أنها أكثر الفنانات التزماً بمواعيد المقابلات التلفزيونية، وكانت تنتظر من دون ملل أو تذمّر، حتى إتمام المقابلة أو اللقاء. كذلك عُرفت بأنها من أكثر المغنيات في العالم العربي أناقة، لما كانت تختزنه ريشة أشهر مصممي الأزياء من لبنان والعالم من مخيلة تليق بقوام "الصبوحة" الذي حافظت عليه إيماناً منها بالنجومية التي تجب مراعاتها، والتعاطي معها بالمحافظة على رشاقة النجمة المثال، بسبب تأثر الناس بهذا النجم بعيداً عن التزلّف أو التكلف.

في العائلة، اعترفت صباح مراراً بأنها لم تكن أماً مثالية لولد وبنت، هما صباح شميس وهويدا منسي. لكنها في المقابل كانت تغدق على ابنتها هويدا المال، وتحاول أن تعيدها إلى كنفها بعد هجرة هويدا إلى الولايات المتحدة الأميركية في منتصف التسعينيات بشكل نهائي. لكن "الشحرورة" لم تُفلح في ذلك، وظلت العلاقة بين الأم وابنتها متباعدة، بسبب ظروف كثيرة عاشتها هويدا في طفولتها، وشكلت أمامها حاجزاً ضد والدتها، التي رحلت من دون وداعها.

تحولات كثيرة لازمت صباح قبل وفاتها بسنوات؛ تراجع صحتها، وانتكاسات مالية، بسبب كرمها على محيطها العائلي والأصدقاء، لتصبح أسيرة غرفة موحشة في فندق قريب من بيروت. لكنها، طوال الوقت، لم تستسلم لوابل من الشائعات التي تحدثت بشكل دائم عن وفاتها. سؤال واحد كانت تطرحه، لماذا يستعجلون رحيلي؟ وهي التي لم تقف طوال مسيرتها الفنية على قول أو ردة فعل سلبية، وتجردت من مواجهة الحروب بالحكمة والعمل الفني كرد ضروري لمن تمتع بكل هذه النجومية واستحقت بالفعل لقب "الأسطورة".


المساهمون