"السينيفيليات" لماريا ألفاريز: شغف السينما

"السينيفيليات" لماريا ألفاريز: شغف السينما

30 مايو 2018
ماريا ألفاريز في "برليناله 2018" (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
يندر أن يكون أبطالُ فيلمٍ عجائزَ هرمين، لا يتكلّم أحدٌ منهم عن مرضٍ أو ألم أو موت، ولا يشتكون من شيء، عامةً. لا وجود للكآبة أيضًا في فيلمٍ باعثٍ على الفرح وحبّ الحياة. وفي الوقت نفسه، وإلى جانب المتعة والتشويق والتسلية والضحك، يبثّ هذا الفيلم طاقة إيجابية لا حدود لها، متأتية من ثلاث نساءٍ تخطّين الـ70 عامًا (إحداهنّ في أواخر السبعينيات) يذهبن يوميًا، منذ عشرات الأعوام، إلى السينما.

لكن، أي نشاط وأية حيوية وأي إقبال على الحياة وانتفاء لسواها؟ أية ذاكرة وأي حضور؟ هذا دافع إلى التساؤل: هل لحبّ الفن، خاصة السينما، هذا التأثير كلّه في حياة المرء؟

مع نهاية فيلم "السينيفيليات" (Las cinéphilas)، أول أفلام المخرجة الأرجنتينية ماريا ألفاريز، نحصل على إجابة. فالفيلم يناقش، من بين أمور عديدة، الحب والخسارة والافتقاد والغرور والشوق.

من أورغواي والأرجنتين وإسبانيا، اختارت ماريا ألفاريز 3 نساء، لتكنّ بطلات فيلمها، اللواتي يجمعهنّ ليس فقط حب السينما، بل الشغف بالسينما إلى درجة الهَوَس. والمولع أو المهووس بالسينما معروف بأنه "سينيفيلي"، وهو مصطلح يستمدّ الفيلم عنوانه منه.

تتنقّل ماريا ألفاريز، خلال فيلمها، بين شخصياتها، رغم بُعد المسافات بينهنّ، علمًا أنهنّ لا يعرفن بعضهن البعض، مُستعينة بالمُونتاج المُتوازي ـ المُوفَّقة فيه للغاية، في توضيحها الشخصيات، وفي خلقها التدفق والسلاسة المطلوبين ـ كي تُبيِّن إلى أي مدى هناك تقارب كبير، وأحيانًا تكامل كبير، بينهنّ، أكثر مما يُوجد من تباعد. في البداية، تركت لكلّ واحِدة منهنّ أن تحكي عن الأسباب التي جعلت هذا الشغف يتحوّل إلى هَوَس.



ربما يُخيَّل للبعض أن هذا الهَوَس يُعزى، أساسًا (خاصة مع العمر المُتقدّم)، إلى شعور بالملل بعد التقاعد، أو غيره من المُبررات المُرتبطة بالوحدة، وانفصام الروابط، وابتعاد الأهل أو انشغالهم، واستحالة العثور على شريك، إلخ. لكن، بعد مُشاهدة الفيلم، يَتَّضح أن الأمر بالنسبة إليهنّ عكس ذلك: السينما ليست مُجرّد ترفيه سلبي أو هروب من الشيخوخة. سلوكهن ليس "هروبيًا"، بل اندماج كامل في الحياة.

"السينيفيليات" تحية واضحة للسينما، وللأبواب التي تُفتح، وللصالات أو القاعات التي تمتلئ، وللمقاعد التي تُشغَل، وللإضاءة التي تُطفأ. هو أيضًا تحية للمهرجانات التي تحتضن هذا الفن وتُبَجِّله وتتسابق لتقديم جديده. قبل هذا كلّه، إنه تحية لهؤلاء الأبطال، النجوم الحقيقيين والعُشاق السريين للسينما في أنحاء العالم، الذين لا نعلم عنهم شيئًا. بالكاد نلتقيهم في الصالات، من دون أن نلتفت إليهم. لكنهم دائمًا هناك. من بينهم، نتعرّف، إلى ستيلا وبالوما ولوسيا.

ستيلا مُمسكة دائمًا بكاميرا في يدها، فهي تعشق تصوير كلّ شيء. في لقطات عديدة، تظهر مستَعدّة للمُشاهَدَة في صالات مختلفة في العاصمة الأرجنتينية، بوينس آيرس. بعد ذلك، يحين موعد مهرجان "مار ديل بلاتا"، فتبدأ ورشة العمل المُكثفة. تُغلق هاتفها المحمول، وتؤجّل مواعيدها وارتباطاتها العائلية، بعد حصولها على بطاقة المهرجان. ثم تختار الأفلام من جدول البرامج، لانتقاء ما بين 3 و5 أفلام لمشاهدتها يوميًا. رغم ذلك، تمازح صحافيين وإعلاميين، قائلةً لهم إن بطاقاتهم الخاصّة بالمهرجان تتيح لهم مُشاهدة أكبر عدد ممكن من الأفلام في أي وقت في اليوم الواحد؛ وإن الأولوية لهم، بالإضافة إلى أن كلّ شيء، بالنسبة إليهم، مجانيٌّ تقريبًا. إنها الغيرة الشديدة من امرأة، تتكدّس رفوف مكتبتها بكتب ومُجلدات سينمائية. فالولع عندها ليس فقط بالأفلام، بل بتاريخ السينما برمّته، منذ نشأتها، وبمدارسِها المُختلفة، وبأسلوب كل مُخرج، إلخ.

في منزل بالوما، بالإضافة إلى البيانو الذي تعزف عليه بين حين وآخر، هناك مُلصقات عديدة لأفلام من بلدان مختلفة، وأسطوانات كثيرة، وجهاز يُتيح لها مشاهدة الأفلام عبر شبكة "إنترنت"، إن أجبرتها ظروف معينة على عدم الخروج من منزلها، وكسر نمطها اليومي. تُمسك بخريطة، وتشرح أماكن الصالات في مدريد، التي تعرفها جيّدًا. تقول إنه بناء على الأفلام المعروضة في تلك الصالات خلال الأسبوع أو في "السينماتيك" أو في "بيوت السينما"، يتحدّد مسار أسبوعها، و"خط سيرها" اليومي. تشرح تفاصيل هذا الخطّ على الخريطة. المُثير للاهتمام، كما يظهر أثناء مُكالمة هاتفية مع ابنها، كامنٌ في أنها تُرسل إليه وإلى أصدقاء عديدين رسائل فارغة في أعياد الميلاد، إذْ تنسى كتابة الرسائل، فترسل الأوراق فارغة، لظنّها أنها كتبتها فعلاً. أما بخصوص الأفلام، فنادِرًا ما تنسى، حتى لو أغفلت ذاكرتها عنوان فيلم ما، فهي تتذكّر مَشهَدًا أو مُمثلاً أو ملابس أو حوارًا.



لوسيا، أكثر انطلاقًا وطلاقة و"أهضم" منهما، تمتلئ حيوية وحبًّا للحياة والمرح والنكات. رغم أنها الأكبر سنًّا، إلا أنها تمتلك ذاكرة أقوى. تتساءل مندهشة: "فيلم عن مُسِنَّات يذهبن إلى السينما؟ ثم ماذا بعد ذلك؟ لن يهتمّ أحدٌ، فهم ينفرون منا غالبًا، ويعتبروننا أقلّ فاعلية في المجتمع". لكنها، مع ذلك، تنطلق من صالة إلى أخرى في "مونتفيديو"، عاصمة أورغواي، لمشاهدة الأفلام التي تُريد.

في إحدى تلك الصالات، تظهر مُعَمِّرة في التسعينيات من عمرها، بالكاد تتحرك. تصفها لوسيا بـ"السينيفيلية المُفرطة" (Hyper Cinephile). تُحدّثها، قائلة بجدية: "إننا لن نجلس في المنازل كعجائز يشاهدن مُسلسلات هابطة".

قبيل انتهاء التصوير، تُبدي إعجابها بفكرة الفيلم، وبكونها الآن صارت "خالدة" على شريط سينمائي، بعد حديثها الطويل عن عشقها لمُخرجين كثيرين (رومان بولانسكي وأندره كونتشالوفسكي مثلاً)، ولمَشَاهد محدّدة. عن إنغمار برغمان وروبيرتو روسيليني، تقول: "كفى، شاهدتُ أفلامًا كثيرة لهما، بما فيه الكفاية". وبذهابها إلى الشاطئ، تستعيد المشهد الختامي لـ"400 ضربة" لفرانسوا تروفو. ختامًا، تقول إنها تحتفل بعيد ميلادها كلّ عام: "ما أزال هنا". ثم تصيح: "مادادايو"، كما فعل بطل فيلم "مادادايو" للياباني أكيرا كوروساوا.

المساهمون