"الجوع" يغيّر خارطة المدن الجزائرية في رمضان

"الجوع" يغيّر خارطة المدن الجزائرية في رمضان

09 يونيو 2016
(بائع حلويات في الجزائر، تصوير: مهدي فدواش)
+ الخط -

لا تستغرب إن كنت تتجوّل في شوارع العاصمة الجزائرية، أياماً قليلة قبل حلول شهر رمضان، ودخلت محلّا تجارياً اعتدت على التبضّع منه، ووجدته يعجّ بأسراب من النّحل والذّباب، تحوم حول أطباق الحلويّات التقليدية وبقع العسل المتساقط على الأرضية. في البداية، تعتقد أنك أخطأت المحل، تخرج وتتفحّص الشارع، وتُفاجأ بأنك في المكان الصحيح، وربما صاحب المحل هو الشخص نفسه، ولكن تغيّرت اللافتة والبضاعة، وتغيّر معها زبائن التّاجر.

ينتظر كثير من الشباب هذا الشهر بفارغ الصّبر ويتجنّدون لحجز أماكنهم في الأسواق بمشاريع صغيرة، فهي "فرصة العام" التي تدرّ عليهم أرباحاً كبيرة، بمجهود أقل وبإمكانات بسيطة، بسبب الطلب المتزايد على لوازم الإفطار، وارتفاع أسعار السّلع إلى أضعاف ثمنها.

يغيّر "الجوع" في رمضان خارطة الشوارع الجزائرية، وتنتعش تجارة الأسواق الشعبيّة، ويتضاعف تجّار الأرصفة، ويظهر في كل سنة مضاربون جدد في السوق لتلبية الطلب المتزايد على المأكولات والأطعمة، فكثير من الشّباب يُظهر مهارات أخرى بعيداً عن وظيفته الأصلية، وكثير من المخابز والمقاهي وحتى الورّاقات والمكاتب، تتحوّل إلى محلّات لبيع العصائر والشواء والمكسّرات والألبان والتّمور.


بين التأقلم والإفلاس
محمد أو "موح" كما يُطلق عليه زبائنه في حيّ العاشور في العاصمة، صاحب محل لبيع البيتزا، كان يقوم بتغيير ديكور محلّه الصغير وإعادة تأثيثه، أسبوعاً قبل شهر رمضان كما جرت العادة في كل سنة؛ حيث يمتهن شراء الحلويّات التقليدية وإعادة بيعها في هذا الشهر، يؤكد في حديث لـ "جيل العربي الجديد" أنه لا يستطيع أخذ عطلة سنوية بسبب تراجع زبائنه في رمضان والانتظار مكتوف اليدين، ولذلك يضطر لتغيير نشاطه التّجاري رغم العقوبات المترتّبة عن ذلك.

ويتساءل المتحدّث عن كيفية تحصيله ثمن الإيجار في هذا الشهر إن لم يقم بالعمل في أيّ مهنة كانت، ويشرح "موح" طبيعة عمله في رمضان، حيث يقطع يومياً حوالي 80 كم ذهاباً وإياباً إلى محافظة البليدة وسط الجزائر، لاقتناء "زلابية بوفاريك" التي تشتهر بها المنطقة، وإعادة بيعها في العاصمة لكثرة الطلب عليها.

ليس بعيداً عن الشارع الذي يشتغل فيه محمد بحي العاشور، تحوّلت ورّاقة قبل أسبوع إلى محلّ لبيع الحلويات التقليدية، مباشرة بعد انتهاء الموسم الدراسي، وأصبح المحلّ الذي كانت تؤثثه الكتب والأدوات المدرسية والأقلام، إلى واجهة كبيرة عرضت عليها أصناف الحلوى. صاحب هذا المحل، مارس نشاطه كبائع حلويات في رمضان الماضي قبل أن يعود مجدداً بعد تجربة مختلفة.


من الملابس إلى المثلّجات
تغيير النشاط التجاري ليس ممنوعاً في الجزائر، فمن حقّ التّاجر أن يغيّر نشاطه، ولكن قبل ذلك؛ عليه استصدار رخصة من مركز السجلّ التجاري، هذا ما يؤكّده رئيس الجمعية الوطنية للتجّار والحرفيين، محمد العربي بولنوار في حديث إلى "جيل العربي الجديد" موضّحاً أن باستطاعة التّاجر أن يضيف نشاطات تجارية أخرى مشابهة لنشاطه، مثل إضافة نشاط بيع الحلويّات إلى صناعة الخبز.

يشير بولنوار إلى أن سبب تغيير التجّار لنشاطاتهم، هو السّعي إلى تحقيق الربح السريع في المناسبات، بسبب تهافت الزبائن على التبضّع وبالتالي زيادة النّفقات، في ظل غياب أجهزة رقابية صارمة تطبّق القانون على المخالفين، ويستشهد المتحدّث بأحد المحلّات المخصّصة لبيع الملابس الجاهزة، حوّله صاحبه إلى محل لبيع المثلّجات في فصل الصّيف.

الإحصائيات الرسمية حسب رئيس جمعية التجّار والحرفيين، تقول إن عدد المحلّات التي تغيّر نشاطاتها لا يتجاوز رقم 2 % في كل الوطن، مستطرداً: أن تقديرات الجمعية تعتبر أن أعداد الذين يغيّرون نشاطاتهم تتجاوز هذا الرقم بكثير.

ويرى المتحّدث أن هذه الظاهرة "تشوّه" النشاط التجاري، وتُلحق الضرر بالتّجار الآخرين، بسبب عدم احترام المسافة القانونية بين المحلّات التي تمارس النشاط نفسه، مؤكداً في سياق آخر، أن الأسواق "الفوضوية"، ساهمت بدورها في ظهور منتوجات مجهولة المصدر، غالباً ما تكون هذه السّلع سريعة التلف، وتباع في ظروف غير صحيّة، بعيداً عن أعين الأجهزة الرقابية، وهو ما يهدد صحة المستهلك المتردد على تجّار الأرصفة الذين يعتمدون على تخفيض الأسعار مقارنة بأسعار المحلّات القانونية. والمشكلة، يضيف بولنوار، أن أجهزة الرقابة ليس بإمكانها مراقبة هؤلاء الباعة وفرض غرامات مالية عليهم، لأنهم لا يملكون سجلّا تجارياً أصلاً.


تجّار الموت
من جهته، يدافع مصطفى زبدي، رئيس جمعية حماية وإرشاد المستهلك عن تجّار الأرصفة، مؤكداً أنّه طالب السلطات بتسهيل منح السجلّات التجّارية لهؤلاء "الحرفيين"، واعتبر زبدي في حديث إلى "جيل العربي الجديد" أن ظهور هذا النوع من النشاطات، سببه نقص المنتوجات التي تقدّمها "التّجارة النظامية"، والإقبال الكبير على المنتوج المحلي مثل "الديول"، و"خبز الطاجين"، وغيرها.. مبرراً دفاعه عن التجّار؛ بأنهم يساهمون في تلبية طلبات المستهلك، ويجب تقنين هذه المهن وتنظيمها بدل محاربتها، يضيف زبدي.

في مقابل ذلك ينبّه المتحدّث، من خطورة ظهور منتوجات مصنعة في شهر رمضان، من شأنها أن تتسبب في تسمّمات غذائية، موضّحاً أن زيادة الاستهلاك في هذا الشهر، تشجّع على ظهور منتوجات مصنعة مجهولة المصدر، أسهل طريقة لترويجها هي عرضها في الأسواق الجوارية في ظل غياب الرّقابة. ويستشهد زبدي بحالات التسمم الغذائي في شهر رمضان الماضي، والتي بلغت 5600 حالة معلنة، من بينها 11 حالة وفاة. ويرجع المتحدّث سبب هذه الحوادث، إلى غياب ثقافة استهلاكية لدى المواطن الجزائري، والأسعار التنافسية للمواد التي تعرض في هذه الأسواق.


نساء خارج المطبخ
لا يُعتبر شهر رمضان فرصة فقط للشباب الباحث عن الكسب السريع، بل هو فرصة أيضاً بالنسبة للنساء الماكثات في البيت، أو اللاتي لم يُكملن مسيرتهّن الدراسية، وذلك لتهافت الزبائن على المنتوجات المحليّة الصنع، أمّا الشباب فغالباً ما تكون مهمّتهم عرضها في الأسواق وتحمّل مسؤولية بيعها، ومن أشهر المأكولات التي تُعرض في  شهر رمضان على الأرصفة ، وحتى على حافّة "الطّرقات السّريعة"، هي الخبز التقليدي "المطلوع"، وعصير الليمون "الشاربات"،  والحلوى المحشوّة بالمكسّراتّ "قلب اللّوز"، وحلوى "الزلابية"، حيث تشتغل النساء وربّات البيوت في إعدادها بمنازلهنّ، ويقوم زوجها وأبناؤها (من بينهم تلاميذ مدارس) بعرضها في الشارع، خصوصاً أن الشهر يتزامن مع العطلة السّنوية لتلاميذ المدارس في جميع الأطوار، وقد تتحوّل أسرٌ بكاملها في رمضان، إلى ورشات عمل كبيرة، يتقاسم فيها أفرادها الأدوار والوظائف، حسب مجهود كل فرد.

صحيح أن شهر رمضان، يفتح شهيّة كثير من الشباب لدخول غمار التجارة، بسبب تزايد استهلاك المنتجات الغذائية، ويعودون إلى مناصب عملهم بعد نهاية هذا الشهر، ولكن هناك شباب يحترفون "التجارة الموسمية"، ويقتنصون فرص عملهم في الأسواق الجوارية على مدار السنة ولا يكتفون بما يجنونه في رمضان، فرغم تعرضهم  لمطاردات الشرطة والأجهزة الرقابية، ومصادرة ممتلكاتهم وبضائعهم في كثير من الأحيان، فإن هؤلاء الشباب، ترتبط مداخيلهم بالمناسبات الدينية والاجتماعية، تجدهم يعرضون الحلويات في رمضان، ويبيعون الكباش قبل أيام قليلة من عيد الأضحى، والألعاب النارية والمفرقعات في المولد النبّوي، ويؤجّرون الشّمسيات على شاطئ البّحر في فصل الصيف، والأدوات المدرسية مع بداية الدخول المدرسي، ويعرضون المطريات في أيّام الشتاء الماطرة، قبل العودة مجدداً  للعمل في شهر رمضان.

 

المساهمون