"التجمّع": سيرة ملاحقة وتجريم سياسي

"التجمّع": سيرة ملاحقة وتجريم سياسي

27 سبتمبر 2016
(من صفحة التجمّع على فيسبوك)
+ الخط -

يتعرّض "التجمّع الوطني الديمقراطي" في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 إلى حملة اعتقالات قد تكون الأشرس في تاريخه؛ إذ تداهم في الأيام الأخيرة، تحديداً في ساعات الفجر المبكّرة، قوات كبيرة من الشرطة الصهيونية القرى والمدن العربية، وتعتقل القيادات في كافة هيئات الحزب في جوّ من الترهيب، كما تحقّق الشرطة الإسرائيلية مع المئات من أعضائه ومؤيديه، إذ تنسب المؤسسة الإسرائيلية للحزب ومعتقليه تهماً تتعلّق بـ "غسيل أموال"، والحصول على تمويل خارجي من دون التبليغ عنه.

يَعتبر "التجمّع" هذه الحملة جزءاً آخر من مسلسل الملاحقة السياسية، واستهداف الحركة الوطنية في الداخل، تحديداً في السياق السياسي الإسرائيلي الراهن؛ إذ لطالما واجهت الحركات السياسية في الداخل بمختلف تياراتها القمع والملاحقة، ومحاولات متتالية لتجريم العمل السياسي، وعلى رأسها "التجمّع الوطني الديمقراطي"، والذي بدأت محاولات القضاء عليه منذ تأسيسه، تارة بصبغة تهم سياسية أمنية، وتارة أخرى بتهم جنائية.

تأسس التجمّع عام 1995 في أعقاب اتفاقية أوسلو، في محاولة لإعادة بناء الحركة الوطنية في الداخل. صاغ الحزب برنامجه السياسي على أساس تحدّي الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، والدعوة إلى تفكيك المشروع الصهيوني، وطرح دولة المواطنين، والحكم الذاتي الثقافي.

واجه التجمّع، مرة تلو المرة، محاولات لتقويض وجوده بسبب خطابه المتحدي كيان الاحتلال، ابتداءً من الملاحقة السياسية التقليدية ضد شبابه وقياداته، مروراً بمحاولات تجريمه وتصويره حزباً متطرّفاً لمنعه من النشاط السياسي، ووصولًا إلى محاولات تحويله لعصابة كما يبدو في هذه الحملة الشرسة، بهدف ضرب قاعدته الشعبية، وهذا ما يميز هذه الحملة من الملاحقة؛ أي التحول في آليات الاستهداف واستخدام التهم المالية بهدف دمغ العمل السياسي بالطابع الجنائي.

كانت المحاولات الأولى لاستهداف الحزب في بداياته بمبادرة أحزاب وحركات صهيونية يمينينة تركّزت في مجابهة التحدي الأيديولوجي ليهودية الدولة من قبل التجمع، قد بدأت في عام 1995، حينما تم تقديم العشرات من الطلبات لمسجل الأحزاب لمنع تسجيل "التجمع" كحزب سياسي.

في عام 1999، قدّم اليمين الصهيوني طلباً لشطب مؤسس الحزب وقائده عزمي بشارة من القائمة الانتخابية للتجمع، لكنّ المستشار القضائي للحكومة حينها، الياكيم روبنشتاين، عارض الطلب. ثم جاءت الهبة الشعبية داخل الخط الأخضر في أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، وتلاحم فلسطينيو الداخل مع فلسطينيي الضفة وقطاع غزة كردّ على القمع الوحشي للانتفاضة الثانية، وكتعبير عن حالة التهميش والإقصاء والتمييز العنصري.

رأت إسرائيل في "التجمع الوطني الديمقراطي"، في أعقاب الانتفاضة الثانية، التهديد الذي يشكله من خلال تغيير الوعي والفعل السياسي للفلسطينيين في الداخل. هكذا، بدأت المؤسسة الأمنية بتشخيص التجمع كخطر أيديولوجي وسياسي على أسسها وتوجهاتها الصهيونية، فقد شكّل الحزب تحديّاً ثقافيّاً وسياسيّاً لأيديولوجيا "الدولة اليهودية"، وساهم في إحداث تغيير جذري على مستوى رفع التطلعات السياسية للفلسطينيين في الداخل.

وكان تصريح رئيس الشاباك، يوفال ديسكن، في عام 2007 بخصوص "الخطر الاستراتيجي" لتطرف الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 أصدق تعبير عن هذا العداء، إضافة إلى تحميل لجنة أور "القيادات السياسية الفلسطينية مسؤولية التحريض على العنف لتحقيق مكاسب سياسية"، وعلى رأسهم عزمي بشارة، وذلك بعد استشهاد الفلسطينيين "المواطنين" خلال الانتفاضة الثانية.

بعد هبة أكتوبر، أخذت الملاحقة الإسرائيلية للحزب شكلاً أمنياً، وقادتها المؤسسة القضائية والأمنية بنفسها عبر تقديم طلبات الشطب ومحاكم التجريم، والتي تمركزت في قضايا متعلقة بدعم المقاومة والتواصل مع سورية.

وقدم المستشار القضائي للحكومة في حينه إلياكيم روبنشتاين بنفسه طلباً لشطب التجمع، مرتكزاً على ادعاءين: الأول هو أن طرح التجمع يلغي أو يناهض يهودية الدولة، أما الادعاء الثاني فمفاده أن التجمع يدعم الكفاح المسلح من خلال جعمه لتنظيم إرهابي ضد إسرائيل.

أقرّ الكنيست، وما يزال، تعديلات على "قانون الأساس: الكنيست" لتوسِّع المؤسسة الإسرائيلية برمتها إمكانية شطب التجمع، منها التعديل المتعلّق بدعم أي حزب لسياسة الكفاح المسلح، والذي تم تعديله في أعقاب محاكمة بشارة الجنائية في عام 2001، حول خطابيه في سورية وأم الفحم الفلسطينية دعماً لمقاومة الاحتلال.

استمرت هذه المحاولات حتّى عام 2006، إذ تم التحقيق مع بشارة وزميليه من قيادة حزب التجمع، جمال زحالقة وواصل طه، في أعقاب زيارتهم سورية، إذ كان الكنيست قد مرّر قانوناً يقضي بمنع أعضاء الكنيست من زيارة "دولة عدو".

فشلت محاولات شطب التجمع ومحاكمة صاحب "أن تكون عربيّاً في أيامنا"؛ لأن شطب حزب وتجريم خطاب سياسي لعضو برلمان لم يكونا قابلين للتسويغ والتسويق كخطوات "تتنافى مع الديمقراطية" من قبل الجهاز القضائي الإسرائيلي، والذي يحاول لعب الدور "الليبرالي" في المؤسسة الصهيوينة.

انتهت هذه المرحلة في تصعيد محاولات التجريم للعمل السياسي، فقد لفقت المؤسسسة الإسرائيلية لعزمي بشارة في 2006 ملفاً أمنياً تمت حياكته بشكل أخطر بالمقارنةً مع الملفات السابقة، وقدم بشارة في أعقابه استقالته من الكنيست واختار المنفى القسري.

تحوّل شكل وأدوات الملاحقة السياسية للحركة الوطنية في الداخل في السنوات الأخيرة بعد سيطرة اليمين الصهيوني الفاشي على المشهد السياسي الإسرائيلي؛ فقد اتسمت المرحلة بهستيريا القوانين العنصرية، والتي تحاصر الوجود والذاكرة الفلسطينية، وتضيق حدود العمل السياسي والمدني.

من جملة هذه القوانين، قانون النكبة وقانون المقاطعة، واقتراحات لقوانين تستهدف الحد الأدنى من الحريات السياسية لقيادات التيار الوطني كمحاولة تمرير قانون لمنع ترشح كل من زار "دولة عدو" للانتخابات، أو محاولة تعديل قانون المواطنة بهدف سحب مواطنة كل من تتهمه إسرائيل بـ "خرق الولاء للدولة"، وقوانين أخرى تستهدف منظمات المجتمع المدني والأهلي. كل هذا وسط تحولات جديّة لدى المجتمع الإسرائيلي نحو الفاشية والعنف، بفعل تلقيه الشرعية من المناخ السياسي الفاشي السائد وتغول القمع الأمني.

فيما تمسّكت المؤسسات الإسرائيلية بعنصرية "ليبرالية" منمقة سابقاً. أدى هذا التحول السياسي إلى تصعيد الملاحقة السياسية، وتضييق حيز العمل السياسي للحركة الوطنية، وانعكست الشعبوية والغوغائية الفاشية في الأدوات المؤسساتية المستخدمة لقمع الحركة الوطنية.

تحاول المؤسسة الإسرائيلية، بكافة أذرعها، إعادة رسم قواعد اللعبة السياسية، ورسم حدود أكثر صرامة وضيقاً للممارسة السياسية المسموح بها؛ فنال التجمع وأعضاؤه نصيباً وافراً من هذه الملاحقة. لقد واجه نشطاء الحركة الوطنية، الشباب منهم تحديداً، موجات من الاعتقالات، منها الاحترازية، والتحقيقات المخابراتية، وواجهت قيادتهم الملاحقة والمحاكمات، منها محاكمة رائد صلاح، وجميل صفوري، والنواب محمد بركة وسعيد نفاع وحنين زعبي.

في الملاحقة التي تعرضت لها النائبة حنين زعبي منذ مشاركتها في سفينة مرمرة لكسر الحصار المفروض على غزة مثلاً، يمكن للمراقب أن يفهم درجة الهستيريا التي أصابت المؤسسة الإسرائيلية في مواجهة الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل.

فإلى جانب الغوغائية والعنف اللذين وجّها ضدها من المجتمع الإسرائيلي؛ بدءاً من التهديدات بالقتل ووصولاً إلى الاعتداء الجسدي عليها، قامت أذرع إسرائيل المختلفة من البرلمان حتى الجهاز القضائي والشرطة بمحاولة إبعادها عن العمل السياسي، واستخدامها لمحاولة إعادة رسم حدود الخطاب السياسي المسموح به.

فبعد أن كانت ملفات الشطب تتمحور حول دعم المقاومة أصبح مجرد رفض التساوق مع الخطاب الإسرائيلي، أو رفض وصف النضال الوطني الفلسطيني بالإرهاب، يعتبر ذريعةً صالحة للشطب. واجهت زعبي المحاكمة، وتم إبعادها عن الكنيست مرات عدة لأطول فترة يجيزها القانون الداخلي للكنيست، الأمر الذي صادقت عليه المحكمة الإسرائيلية العليا في عام 2014. وكانت محاكمة النائب السابق عن التجمّع، سعيد نفاع، بخصوص زيارته إلى سورية، مؤشراً إضافياً للتحول في الجهاز القضائي؛ إذ إن التهم التي واجهها مثيلة لتلك المنسوبة إلى عزمي بشارة في 2001، إلا أن الجهاز القضائي قرّر الحكم عليه بالسجن الفعلي.

تزامنت هذه المحاولات مع رفع نسبة الحسم في الانتخابات البرلمانية في عام 2014، كمحاولة لمنع المشاركة الفلسطينية في الانتخابات. لم تنجح المؤسسة في سعيها هذا، فقد تم تشكيل القائمة المشتركة التي تمكنت من عبور نسبة الحسم بأحزابها الأربعة.

لم يكف التحريض الأرعن بعد هذه الخطوة، إذ طاول نواب التجمع؛ جمال زحالقة وحنين زعبي وباسل غطاس، فأُبعدوا عن الكنيست لزيارتهم عائلات الشهداء الفلسطينيين الذين يحتجز الاحتلال جثامينهم لأشهر طويلة، في محاولة لتثبيت مقولة إن أي تماهٍ مع الضحية الفلسطينية بالحد الأدنى هو خارج إطار اللعبة السياسية المسموحة.

سعت هذه الحملة إلى فرز النواب بين "المتطرف" و"المعتدل"، من بين النواب العرب أنفسهم، بهدف إخراج نواب التجمع حتى في وعي جمهورهم عن حدود المشروع. في أعقاب الزيارة سُنّ قانون يمكنه فعلياً إبطال نتائج انتخابات الكنيست؛ إذ يتيح لأغلبية في البرلمان إبعاد أي نائب عن الكنيست بدعوى قيامه بتصرفات "غير لائقة"، وفي الفترة ذاتها قدم اقتراح ما يسمى بـ "قانون زعبي"، والذي يتيح لأعضاء الكنيست "إبعاد عضو كنيست يعبّر عن دعمه لتنظيم إرهابي أو دولة تحارب إسرائيل".

كان حظر الحركة الإسلامية الشمالية في عام 2015 إشهاراً إسرائيلياً آخر بإعلان الحرب على أي عمل سياسي لا يقع ضمن حدود المشروع الذي أعيد ترسيمه، وتأتي الحملة الحالية للتجمع ضمن هذه المحاولة.

فبعد إفلاس وسائل الملاحقة السياسية التقليدية للتجمع وتوسع قاعدته الشعبية، خصوصاً بين قطاع الشباب، قررت المؤسسة اللجوء إلى تلفيق تهم مالية للحزب؛ فتمّ تحويل الملف من المسار التقليدي المتبع لدى مراقب الدولة إلى الذراع الأمنية للمؤسسة.

وأجمعت القوى السياسية في الداخل والمجتمع المدني على كون الحملة سياسية تستهدف كافة الفلسطينيين وقيادتهم، وعلى ضرورة التصدي لها، إذ يبدو هذا الهدف جلياً من طبيعة التحقيق التي تتمحور حول طبيعة ومضمون نشاطات التجمع، خصوصاً بين الشبيبة، لا حول تمويلها.

هذا التصعيد الأخير غير المسبوق ضد التجمع الذي يسعى إلى ضرب قاعدته الشعبية وتحويله وقيادته وأعضائه إلى عصابة في نظر أبناء شعبهم يضعنا أمام أسئلة وتحديات عديدة، ليس هذا التقرير مكاناً لخوضها، إذ إنه لا يحاول إلّا إيضاح التحولات في أدوات الملاحقة السياسية الإسرائيلية للفلسطينيين في الداخل ولنضالهم السياسي من خلال تتبع ملاحقة التجمع منذ تأسيسه، ولا يقدم قراءة حول جدوى ومشروعية المشاركة في البرلمان، أو نقداً لأدوات العمل السياسي للحركة الوطنية في الداخل، إلا أنه مكان للإشارة إلى أن هذا التحول في أدوات قمع الحراك السياسي والتغيير الحاد في قواعد اللعبة يضع الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل أمام تحدّيات جديدة، ويفتح أسئلة جدية حول مفهوم وطبيعة العمل السياسي وأدواته.

(فلسطين)

المساهمون