"الأطلسي" شريكاً أوروبياً في محاربة الإرهاب

"الأطلسي" شريكاً أوروبياً في محاربة الإرهاب

02 يوليو 2017

ترامب وقادة أوروبيون في قمة بروكسل (25/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -
لا يخفي الكرملين قلقه من تنامي رقعة نفوذ حلف شمال الأطلسي (الناتو) في شرق أوروبا، ليس بعيدًا عن حدود روسيا، عشية انضمام جمهورية الجبل الأسود إلى الحلف، لتصبح الدولة التاسعة والعشرين في هذا التكتّل العسكري. ويعتبر الكرملين العلاقات المشتركة مع الأطلسي في الوقت الراهن الأسوأ منذ انتهاء الحرب الباردة، ويرى إمكانية ارتفاع حدّة النزاعات في الإقليم. أمّا بشأن تمحورها حول الحلف، لا ترى الدول الغربية بديلا عن هذا الخيار، وقد لا يكون موجّهًا بالضرورة ضدّ روسيا، وخصوصا أنّ شبح الإرهاب الذي بات همًا أوروبيًا مشتركًا يشغل بال القادة الأوروبيين الذين أبدوا كذلك رغبة كبيرة بشراكة جادّة للحلف في الحرب ضدّ الإرهاب على الجبهات كافة.
يأتي بيان وزارة الخارجية الروسية بالتزامن مع موافقة دول المنظومة الأوروبية على العضوية الكاملة لحلف شمال الأطلسي في التحالف الدولي ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، علمًا أنّ واشنطن طالبت بذلك منذ قرابة العام، وهذا ليس جديدا.

التزامات دول المنظومة الأوروبية
تبلغ قيمة موازنة الدفاع الأوروبية نحو 50% من الموازنة التي تخصّصها الولايات المتحدة في مجالات الدفاع، لكنّها تمتلك قرابة 15% من المقدّرات العسكرية للجيش الأميركي فقط. تؤكّد المعاني الكامنة لهذه البيانات وجود خلل كبير في توظيف رؤوس الأموال الأوروبية، ما يعود إلى تضخّم الأجهزة الإدارية في وزارات الدفاع، عدم وجود سياسة استراتيجية موحّدة ورؤية دفاعية متكاملة، ما يحول دون تحقيق آليات دفاعٍ مجدية، مقارنةً بقدرات الجيش الأميركي وفاعليته. تدرك أوروبا بالطبع هذه الحقائق جيّدًا، لكنّها عاجزةٌ عن اتخاذ قراراتٍ موحّدة قادرة على تجاوز هذه العقبات. وفي البال اختلاف السياسات الخارجية لدول المنظومة، المرهونة، في نهاية المطاف، بتوجهات الأحزاب الحاكمة، يمينية، يسارية أو قومية، ولكلّ منها ولاءاتها وارتباطاتها الخارجية. مثالا، يدعم اليسار الأوروبي بصورة عامّة الأنظمة المستبدّة والتدخّل الروسي في سورية، ما يضمن له استمرار مكانته السابقة في إقليم الشرق الأوسط، في الوقت الذي يرغب فيه اليمين بتغيير جذريٍّ في الإقليم.
والمعروف أنّ الولايات المتحدة الأميركية تتحمّل 70% من موازنة "الأطلسي"، وهذا ليس جديدا، ولم يلجأ إلى التأكيد على هذا الواقع أكثر من مرّة رئيس أميركي، كما فعل ويفعل
الرئيس الحالي، دونالد ترامب. فردّا على سؤالٍ عما إذا كانت أميركا ستدافع عن دولة عضو في حلف الناتو، أجاب إنّ الجيش الأميركي سيقوم بواجب الدفاع، لكن على الدول الأعضاء دفع التزاماتها المالية كاملة تجاه موازنة الحلف. وقد يتعارض هذا الشرط مع المادّة الخامسة من معاهدة التأسيس التي تعتبر أيّ اعتداء على دولة عضو بمثابة اعتداء على الأعضاء كافة على الفور، ومن دون قيد أو شرط.
ولكن، ليس متوقعا أن يتمكّن ترامب من الضغط على الدول الأعضاء لدفع القيمة الهائلة من الأموال المترتبة على الدول الأعضاء بنسبة 2% مقارنة بدخلها القومي بأثر رجعي. عمليًا، لا تتجاوز قدرات الحلف العسكرية، من دون الولايات المتحدة، التجهيزات العسكرية التي شهدتها في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية. ولا يوجد رادع للقوى العسكرية المتنامية، مثل روسيا والصين، سوى منظومة القتال الدفاعية والهجومية الأميركية، فمعظم قطعات الطيران العسكري في دول أوروبا الشرقية فاقدة لصلاحيتها، وتحتاج هذه المقاتلات صيانة عاجلة لمحركاتها النفاثة وأنظمة التوجيه وما شابه، أو تبدو على وشك أن تفقد صلاحيتها، وهذه إجراءات مكلفة للغاية، كما توجد ضرورة لشراء مقاتلات حديثة قادرة على المناورة، في وقتٍ لا تقوى فيه موازناتها على الوفاء بهذه المطالب. عديد من هذه الدول تمتلك مقاتلاتٍ من طراز ميغ 29 الروسية، ذات الأداء المحدود والمختلف، وغير قادرة على تنسيق عملياتها ومناوراتها مع الطيران العسكري الغربي.
تعدّ قمّة دول حلف شمال الأطلسي التي عقدت في مايو/ أيار الماضي في بروكسل، تاريخية، فالحلف بحاجة ماسّة لمعرفة ما إذا كان ترامب يعني ما يقول، حيث صرّح، في حملته الإعلامية، بأنّ الوقت قد حان ليذهب "الناتو" إلى مزبلة التاريخ، لكنّ السياسة الأميركية الخارجية، في نهاية المطاف، لا تعتمد على تصريحات الرئيس، وهناك مستشارون أمنيون يدركون جيّدًا أهمية الأمن والاستقرار في القارة الأوروبية، وضرورة الحفاظ على النفوذ الأميركي هناك، وأنّ روسيا على أتمّ الاستعداد لملء الفراغ الذي قد تتركه أميركا في القارة الأوروبية على الفور، وقد حقّق الحلف نجاحًا بالتوسّع في الجناح الشرقي لأوروبا بصورة ملحوظة أخيرا.
تختلف أولويات الاتحاد الأوروبي المعاصرة عمّا كانت عليه قبل عقد، فقد أثّرت الأوضاع المتفجّرة في الشرق الأوسط، وتحديدًا تبعات الحرب السورية، وموجات الهجرة التي تزامنت مع اندلاعها، وتعرّض العواصم والمدن الأوروبية لسلسلةٍ من التفجيرات والهجمات الإرهابية. وقد أثر ذلك كله على توجّهات السياسة الأوروبية الداخلية والخارجية، وبات هاجس الأمن يشغل بال الحكومات الأوروبية بصورة دائمة. لذا، من المتوقّع أن تخضع دولٌ أوروبية كثيرة لضغوط الرئيس الأميركي ومطالبه، وستضخّ مزيداً من المقدّرات المالية لصالح موازنات الدفاع و"الناتو"، لتحقيق الأمن المنشود، أملا بالتحاق الحلف في الحرب ضدّ الإرهاب التي تبدو أحيانًا هلامية، لعدم وجود مواجهة مباشرة مع قوات عسكرية منتظمة. الحرب ضدّ الإرهاب في إطاره وهيكليته الحالية مكلفة للغاية، وبات من المألوف مشاهدة قوات أمن واستخبارات كبيرة ترابط أمام محطّات مترو الأنفاق، وفي المرافق الحيوية، وعلى الرغم من هذه الاحتياطات الأمنية الكبيرة، ينجح أفراد في تنفيذ عملياتٍ موجعة، ويسارع "داعش" إلى تبنّيها، مهما كانت دوافع الجهات المعنية وانتماءاتها.

الجيش الأوروبي هدف عصيّ
ليس الحديث عن تأسيس جيش أوروبي مشترك فكرة جديدة، لكنّ تداولها بات أكثر إلحاحًا في
قمم "الأطلسي" ولقاءات وزراء دفاع دول المنظومة. أمّا التنسيق الأمني بين دول المنظومة فقد أصبح حقيقة وواقعا، وتمّ بناء شبكة معلوماتية استخباراتية متينة لتبادل المعلومات والبيانات ومراقبة المشبوهين المتنقّلين بين دول المنظومة، خصوصا العائدين من إقليم الشرق الأوسط. تشكيل فكرة الجيش الأوروبي وتفعيلها، وإن بدت حاليًا طوباوية، إلا أنّها قابلة للتنفيذ على المستوى البعيد، فمن كان يتوقّع يومًا إلغاء الحدود بين ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا؟ دول قدّمت عشرات الملايين في المواجهات التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، لكنّها تمكّنت من تخطّي تبعات هذه المأساة، وأصبحت أعضاء في منظومة واحدة، حتّى خروج بريطانيا من المنظومة مرهونٌ بضماناتٍ عديدة، ورغبة بريطانية بالإبقاء على حضورها الاقتصادي واللوجستي في الاتحاد الأوروبي.
يرى الخبراء كذلك أنّ التزام الدول الأعضاء في "الناتو" برفع موازنات دفاعها بنسبة 2% من قيمة دخلها القومي حتى العام 2024، يعني عمليًا رفع مستوى أداء جيوشها، لكن تأسيس جيشٍ مشترك سيلغي الإطارات الإدارية والقيادية التي تستهلك نسبةً كبيرة من الموازنات، وتقليص حجم القيادة المركزية لقوى 29 دولة عضو في حلف الناتو.
ذكر الرئيس الأميركي، ترامب، روسيا، في خطابه القصير، مؤكّدًا أنّها مصدر للخطر لا يقلّ عن مخاطر الإرهاب وأزمة اللجوء، لكنّه أكّد على ضرورة دفع الالتزامات المالية المترتبة على دول الأعضاء، وكان في وسع حلف الناتو الحصول على 119 مليار دولار إضافية، لو التزمت الدول الأعضاء بدفع حصصها خلال العام الماضي 2016. وقد اعتبر تقييم ترامب لروسيا مصدرًا لتهديد أمن القارة الأوروبية بمثابة هدية للمنظومة الأوروبية، قدّمها ترامب في قمة "الناتو" في بروكسل أخيرا. وقد تمكّن ترامب من إحراج المؤتمرين في هذه القمة، بصورة غير مباشرة، وتجنّب المعنيون، في الختام، إصدار بيان نهائي بعد انتهاء أعمال القمّة المصغّرة، لتجنّب سخط الرئيس الأميركي ولسانه اللاذع، كما تقدّم رؤساء وفود الدول الأعضاء في الحلف بوعود للرئيس الأميركي برفع حصّتهم لصالح موازنة "الناتو"، حتى بلوغ القيمة المطلوبة 2% من معدّلات الدخل القومي.
وأوضح الأمين العام لحلف الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، أنّ تطوير إمكانات الحلف سيتم على ثلاث مراحل، لضمان تنفيذ الوعود المقدّمة للرئيس الأميركي. تتركّز الأولى في رفع موازنة القدرات الدفاعية للحلف. تشمل الثانية استثمار هذه الأموال وتوظيفها في القدرات الهجومية. والثالثة، تحديد آليات توظيف قوى "الناتو" المحدّثة في عمليات التحالف الدولية. حاليًا هناك خمس دول تفي بشروط "الناتو" وتوظّف 2% من دخلها القومي لقضايا الدفاع، وهي أميركا، بريطانيا، بولندا، اليونان وإستونيا. كما وعدت ثلاث دول أخرى برفع موازنات دفاعها إلى القدر المطلوب، وهي لاتفيا، ليتوانيا ورومانيا.

التزام بمكافحة الإرهاب
أبقت قيادة حلف شمال الأطلسي في المقرّ الجديد في بروكسل على رموزٍ لم تغب سابقًا، وأهمّها نصب تذكاري لمبنى التجارة العالمي في نيويورك، والذي دمّر خلال هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وطالبت أميركا، على أثرها، بتفعيل المادّة الخامسة من معاهدة الحلف لمواجهة المخاطر غير التقليدية لما وراء الأطلسي في تلك الآونة. يرمز نصب مبنى التجارة العالمي إلى التعاون والتضامن ما بين دول حلف الناتو لمكافحة مخاطر الإرهاب، وبمثابة رسالة غير مباشرة، وجّهها ستولتنبرغ إلى الرئيس ترامب.
في سياق مكافحة الإرهاب، تقدّم "الناتو" بوعودٍ لرفع مستوى حضور قواته في أفغانستان،
والمشاركة في البعثات العسكرية الخارجية لتدريب القوات العسكرية المحلية لمكافحة الإرهاب، والمقصود العراق وليبيا. باعتبار ذلك أفضل الآليات المتاحة للقضاء على جذور الإرهاب في معاقله. كما وعد الحلف بدفع مزيدٍ من الوحدات العسكرية لمواجهة "داعش"، خصوصا طائرات الاستطلاع والإنذار والقيادة والسيطرة AWACS، وصهاريج الوقود الطائرة لشحن المقاتلات في السماء. كما سيتم تأسيس دائرة عسكرية جديدة لتبادل المعلومات والبيانات الاستخباراتية، وتهدف، بصورة أساسية، إلى مراقبة (ومتابعة) المقاتلين العائدين إلى أوروبا من أفغانستان والعراق وسورية وليبيا وغيرها من الدول التي تشهد نزاعات مسلّحة.
وبشأن المشاركة المباشرة لقوات "الناتو" في الحرب ضدّ "داعش"، وحسب معلومات غير رسمية نشرت في موقع صحيفة كابيتال البلغارية، بقيت هذه المسألة مصدر خلاف بين أميركا من جهة وألمانيا وفرنسا من جهة أخرى، لأنّ الأخيرتين ترغبان بمشاركة قوات "الناتو" في عمليات التنسيق والمهام اللوجستية، من دون خوض قتال مسلّح ومباشر مع "داعش".
موقف الرئيس الأميركي أقرب ما يكون إلى التفاؤل الحذر بشأن مستقبل التعاون مع حلف الناتو، وهذا أفضل من موقفه العدائيّ السابق، لكنّه مع ذلك موقفٌ غير واضح. وقد أعرب الطرف الأوروبي عن رضاه، في نهاية المطاف، لأنّ أميركا لن تقدم على سحب قواتها المرابطة فوق الأراضي الأوروبية.
سعت ألمانيا إلى تهدئة الأوضاع وتجاوز الخلاف، حيث وعدت برفع التزاماتها تجاه حلف الناتو، ومن المتوقع، حسب تصريحات وزيرة الدفاع الألمانية، أورسولا لاين، شراء ألمانيا مقاتلات أميركية من طراز F-35 الحديثة، على الرغم من معارضة قادة سياسيين كثيرين في البلاد. إذا نفّذت ألمانيا هذه الوعود، فإنّ القيمة التي ستضخّ في مقدّرات الدفاع الألمانية ستبلغ نحو 30 مليار يورو. وتعني مشاركة ترامب في قمة "الناتو" كذلك أنّه يعتبر الحلف مهما للغاية، ولا يمكن تجاهله، وليس في مصلحة الولايات المتحدة التخلّي عنه، على الرغم من الفارق الكبير في المقدّرات العسكرية لكلّ من الطرفين. ومن المتوقع أن يطرح ترامب الشروط والمطالب الأميركية لتنشيط العلاقة مع الحلف، لتشمل رفع موازنات الدول الأعضاء، المشاركة في القتال المندلع في إقليم الشرق الأوسط، ووضع آلية لتقييم المشاركة العسكرية لكلّ دولة على حدة، وبهذا سيتم توزيع عبء المهام التي تتحملها القوات الأميركية بين الدول الأعضاء في حلف الناتو، وعدم الاعتماد بصورة خاصّة على القوات الأميركية لحسم النزاع في مناطق التوتّر حول العالم.
هناك قناعة كاملة لدى دول المنظومة الأوروبية بضرورة مكافحة الإرهاب، ووقف العنف الذي تشهده العواصم الأوروبية بأيّ ثمن. لذا امتدح ستولتنبرغ موقف ترامب، على الرغم من سلاطة لسانه، أخذًا بالاعتبار أنّ ترامب قد نوّه، في حملته الانتخابية السابقة، بأنّ 2% هو الحدّ الأدنى فقط، وقيمة لا تكفي لمواجهة مخاطر الإرهاب. لذا، يعتبر الاكتفاء بهذه القيمة في الوقت الراهن تنازلا من الرئاسة الأميركية.
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح