"إحنا شعب واحد": الحلم الذي أصبح سجناً

"إحنا شعب واحد": الحلم الذي أصبح سجناً

20 ديسمبر 2015
(تصوير: محمد عابد، غزة)
+ الخط -

"احنا شعب واحد" شعار ذو حدين، فهو يعبّر عن طموح وطني وعن تحدٍ لمنظومة الاحتلال التي تشرذمنا جغرافياً وسياسياً، ويلقي في الوقت نفسه بستارة على أعيننا ويمنعنا من مواجهة الواقع ويدفعنا، إن صح التعبير، للعيش في حالة "إنكار".

إنكار التنوّع الجغرافي والفكري والسياسي والاجتماعي وكل صور الاختلاف الموجودة، بل والتعامل مع هذا الاختلاف كنقمة، وليس كرافعة إيجابية تساهم في بناء الممارسة التحررية.

حالة الإنكار هذه من أخطر ما يمكن أن يصيب أي شعبٍ محتَل، لأنها بكل بساطة تختصر المصلحة الوطنية بشعاراتٍ وخطاباتٍ جميلة، توصلنا إلى القمر وتتركنا هناك من دون أي أفق سياسي. وبالتالي فإن حالة الإنكار هذه تمنعنا من التواصل الحقيقي بين مكونات شعبنا الفلسطيني.

ما يحتّم علينا الوقوف بشجاعة في محاولة لإخراج "نحن شعب واحد" من دائرتها الرومانسية التي تأسرنا بجماليتها، إلى دائرة البحث والنقد، بسؤالنا: عن المعنى حول كوننا شعباً واحداً. في هذا المقال نطرح تحديين أساسيين لكوننا شعباً واحداً، وبناءً عليهما نقترح التمعّن بالربط بين الخاص والعام الفلسطيني.


النكبة والعودة إلى البداية
رسّخ اتفاق أوسلو فكرة وجود فلسطين بحدود الضفة وقطاع غزة فقط، وهكذا أعاد تحديد "فلسطين"، وتحديد المواطن الفلسطيني ضمن حدودٍ جغرافية، وعليه تم إسقاط النكبة من السياق السياسي واختصارها كحدث تاريخي يتوجّب تركه في الماضي من أجل بناء المستقبل.

وهذا يتناقض كلياً مع حالة "المنكوبين" اليومية، التي يعيشها جميع الفلسطينيين، وهي نتاج النكبة المستمرة المنعكسة باستمرار الاحتلال وحصار غزة والاستمرار في محو كل المعالم الفلسطينية من تراث وثقافة. النكبة فعلياً هي المفصل الأساسي في حياة كل فلسطيني، ومصطلحي "قبل وبعد النكبة"، هما جزء أساسي في القاموس الفلسطيني، ليس لأنهما يشيران إلى حدث تاريخي بقدر ما يشيران إلى حالة تكوّن وتحوّل. الفلسطيني قبل النكبة ليس مثل الفلسطيني بعدها، وهو أمر مشترك لجميع الفلسطينيين.

من هنا، فإن الاعتراف بالنكبة والغبن الواقع على الفلسطينيين منذ عام 1948 حتى يومنا هذا، هو مدخل لبناء مطلب وطني جماعي، إضافة لكونه اعترافاً بالضحية وبحقوقها المترتبة على هذا الاعتراف.

للأسف، هذا المطلب لم يكن ضمن التسوية السياسية، وهو غير مطروح أساساً حتى الآن، بالرغم من أهميته الأخلاقية وتداعياته السياسية. وعدم انتزاع اعتراف واعتذار رسمي يقضي بمسؤولية الحركة الصهيونية و"إسرائيل" عن النكبة وإرهاصاتها، حرر "إسرائيل" من كونها كياناً احتلاليا، استعماريا - استيطانياً. وحوّل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى قضية تحسين ظروف معيشية واقتصادية.

وعليه، فإن المطالبة بالاعتراف بالنكبة وتقديم اعتذار رسمي - من شأنه توحيد الفلسطينيين حوله من خلال العمل المشترك والتنسيق بين المجموعات في السياقات والساحات المختلفة. لكن قبل ذلك، يتوجب على القيادة الفلسطينية أن تفهم بأن الحقيقة التاريخية - النكبة في حالتنا - غير قابلة للمساومة والتفاوض مثل التسوية السياسية.


وحدانية الاستراتيجيات ومأزق الـ"أو"
أسفرت النكبة عن خلق ثلاث مجموعات فلسطينية موزعة جغرافياً على كلٍ من: الضفة وقطاع غزة، فلسطين الأراضي المحتلة عام 1948، والشتات. لكل مجموعةٍ منها واقع مُعاش خاص بها وتخضع لنظام سياسي مختلف، ما ساهم في تبلور "خاصية سياسية" تتضمن أهدافاً خاصة مختلفة تصوغها كل مجموعة بشكل فردي أو مستقل تتم عبره الممارسة السياسية.

إضافة لذلك، تملك كل مجموعة إرثاً نضالياً خاصاً بها وتجربة تراكمية، يتوجب علينا دراستها وطرحها ضمن الاستراتيجيات التي يمكن تبنيها للخروج من مأزق "وحدانية الاستراتيجيات"، ومن مأزق الـ"أو"، الذي يطرح المقاومة الشعبية، أو الكفاح المسلح، أو النضال السياسي أو المفاوضات بوصفها وسيلة وحيدة وواحدة للتعامل مع القضية الفلسطينية بجميع مركباتها، ما يضعنا دائماً في مأزق "إسقاط" إحدى مركبات الشعب الفلسطيني.

والأنكى من ذلك أنه ينقلنا بسلاسة من "شرعية المقاومة" إلى "المقاومة الشرعية"، لتصبح المقاومة مشروعاً فئوياً، بدل أن تكون مشروعاً تحررياً جماعياً، يندرج ضمنه الفلسطينيون، كل حسب سياقه. هذا لا يعني طبعاً عدم مناقشة سبل المقاومة وخطوطها الحمراء التي تتلاءم مع الأهداف السياسية - ما أعنيه هو التشديد على شرعية المقاومة ليس كحق للضحية فقط، بل كواجب أساسي نحو تحمّل المسؤولية وانتزاع الحقوق وعدم الغرق في دور الضحية.

هذا لا يعني عدم بناء سلّم أولويات، كما لا يمكن التحدث عن التحرر والعودة كشعار من دون الخوض في تفاصيل التفاصيل التي تشكل الخطوات الأساسية نحو تغيير الواقع ضمن رؤية شمولية تضمن تواجد جميع المجموعات، من دون إسقاط أي واحدة منها عن جدول الأعمال الفلسطيني.

إن التجربة الفلسطينية التي استفردت بداية بالكفاح المسلح كاستراتيجية وحيدة والمقاومة الشعبية والمفاوضات، واليوم نشهد المقاومة الفردية غير المؤطرة – تعلمنا أننا سنكون الطرف الخاسر إذا ما استمرينا في تشتيت سبل المقاومة وتجزئتها، وهذا يتطلب بناء إطار تنسيقي جامع لا يضم سياسيين فحسب، إنما ناشطين في مؤسسات المجتمع المدني حقيقة. لا أملك تصوراً واضحاً لمثل هذا الإطار، لكنه من الواضح بالنسبة لي، أنه لا يقتصر فقط على حزبيين بل على فعالين وناشطين مجتمعياً كذلك.


الخروج عن الثلم: الخاص والعام الفلسطيني
لا أرى أي تناقض بين الخاص والعام - فالخاص الفلسطيني يعكس النضال الفعلي من أجل تحقيق العام وهو بمثابة النضال المكمل على جميع الجبهات - الساحة العربية والدولية من خلال الشتات، داخل "إسرائيل" من خلال فلسطينيي 48، والساحة الفلسطينية من خلال النضال ضد الانقسام وضد السلطة الفلسطينية التي هي أداة تحكم عن بعد للاحتلال، والاحتلال نفسه. إن التحديد الجغرافي لا يمنع العمل المشترك على جبهات مختلفة، لكنه مهم لفهم أنواع التحديات واسترتيجيات المقاومة التي تتبناها كل مجموعة.

إذا أمعنّا في المجموعات وفي الخط المركزي الذي تناضل من أجله، نستطيع أن نلاحظ القوة الكامنة في إمكانية الدمج ما بين الخاص والعام. على سبيل المثال:

• يعيش الشتات أو اللجوء الفلسطيني حالةً من الإهمال والتهميش السياسي نتيجة لإخراجه من الاعتبارات السياسية، طبعاً ليس على مستوى الخطاب السياسي الفلسطيني الذي شكّل دائماً صورة عكسية للممارسة السياسية. يعيش الشتات الفلسطيني، بغض النظر عن أوضاعه المادية والاجتماعية، في "المؤقت"، من دون أي تصوّر مستقبلي لوضعهم ومكانتهم القانونية، ومن غير أي جهة تمثيلية فلسطينية تستطيع حمل قضيتهم وإرجاعها إلى المركز الفلسطيني والرأي العام العالمي، والشتات بلا حماية فعلياً في ظل متغيّرات سياسية دائمة في الدول المستضيفة، وعلى سبيل المثال يظهر الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون في ظل الحرب في سورية. موضع القوة يكمن في عددهم الكبير وفي القدرة على حشدهم وتنظيمهم في حال تمت إعادة بناء إطار سياسي يمثلهم، إضافة إلى أنهم إحدى الأوراق الفلسطينية المؤثرة التي يجب تذكير العالم بها دائماً.

• الضفة الغربية وقطاع غزة: ما زال الاحتلال الإسرائيلي يتحكم بحياة الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بوساطة الحكم الذاتي الذي "مأسس" الاحتلال بشكل ثابت بصيغته الجديدة، التي ترتكز على منظومة الاحتلال اللطيف وغير المكلف سياسياً واقتصادياً، لكي تصبح الضفة الغربية الساحة الخلفية للسوق الإسرائيلي وغزة الساحة الخلفية للصراع الفلسطيني - الفلسطيني. يتمحور النضال اليوم في الأراضي الفلسطينية حول ثلاث نقاط:

الأولى: محاربة الاحتلال الذي ما زال يسيطر فعلياً.
الثانية: المصالحة الفلسطينية: في ظل الانقسام الجغرافي، السياسي والمؤسساتي، أصبح هنالك عملياً سلطتان فلسطينيتان: السلطة الأولى في الضفة بقيادة حركة فتح، والثانية في غزة بقيادة حماس، وحتى هذه اللحظة لا يوجد حسم نهائي بالنسبة للمصالحة، ما يشكل عائقاً أمام إعادة تشكيل الحركة الوطنية الفلسطينية.
الثالثة: النضال أمام السلطة الفلسطينية.

• الفلسطينيون في فلسطين المحتلة عام 1948 "إسرائيل": يحملون المواطنة الإسرائيلية ويشاركون في النظام السياسي الإسرائيلي من أجل تحقيق الأهداف المتعلقة بالحفاظ على حقوقهم القومية مطالبين بالاعتراف بهم "كأقلية قومية فلسطينية" في البلاد. ويناضلون من أجل حقوقهم المدنية كمواطنين في هذا الإطار السياسي. يتقن معظمهم اللغة العبرية وعلى دراية بالعقلية الصهيونية الإسرائيلية - يجب التعامل مع هاتين الصفتين كنقاط قوة، ومن الممكن توظيفها في النضال السياسي. نقطة أخرى مهمة تكمن في مقدرة هذه المجموعة على فضح الوجه الحقيقي لديمقراطية "إسرائيل" و"العنصرية المقوننة"، التي وصفها إيهود براك متفاخراً على أنها "الفيللا المتواجدة بالجونغل أي (الغابة)"، نسبة إلى الشرق الأوسط والمحيط العربي.

هذه التركبية الخاصة لكل مجموعة تعكس بشكل مبسّط الحالة الجماعية للوضعية الفلسطينية اليوم، بمعنى آخر أن "الاختلاف هو العامل المشترك". لذلك، من المهم التعامل مع هذا الاختلاف كونه تنوعاً إيجابياً عند بناء أي استراتيجية عمل.

فعليا، ما زال الاحتلال الإسرائيلي يسيطر بشكلٍ تامٍ على الأراضي المحتلة عام 1967، وما زال الفلسطينيون في فلسطين المحتلة عام 1948 "إسرائيل" يعانون من العنصرية وهضم الحقوق ومصادرة الأراضي وضرب وجودهم الفلسطيني، وما زال معظم اللاجئين في مخيمات اللجوء. ماذا تغيّر إذاً؟ لم يتغيّر شيء، إنما أضيفت تحديات جديدة وهي: الاقتتال الداخلي، ونشوء فئة متنفذة ومنتفعة اقتصادياً على أثر اتفاق أوسلو، وهي التي تتحكم اليوم بالقرار الفلسطيني، ما يشكل تحدياً أساسياً لإرجاع الثقة بين الفلسطينيين وبين أي مشروع وطني.

إذاً ما الذي يجعلنا "شعباً واحداً"؟ باختصار شديد: أولاً. كوننا "منكوبين"، وثانياً: واجب المقاومة. المشترك بين هذين العاملين أنهما لا يخضعان للمساومة السياسية. حقيقة كوننا "منكوبين" لن تتغيّر ما دامت "إسرائيل" مستمرة، وبالتالي فإن المقاومة تصبح ممارسة يومية وطبيعية. من هنا، فإن المشروع الوطني الجامع بحاجة إلى أرض خصبة يتم من خلالها: تحويل الشرذمة الجغرافية، والتجربة المختلفة وسياسات الاحتلال إلى سياق يتقاطع به الخاص والعام الفلسطيني.


(باحثة فلسطينية وطالبة دكتوراه في جامعة أوتاغو/ نيوزيلندا)


اقرأ أيضاً: مخلص برغال.. شهادة الأسير على حريته

دلالات