وجدي معوّض في مغالطات الواقع والتاريخ

وجدي معوّض في مغالطات الواقع والتاريخ

19 مايو 2024
+ الخط -

إيضاحات وردود غير مقنعة ومواربة، أفصح عنها المسرحيّ الكنديّ، من أصل لبنانيّ، وجدي معوّض، وهو كاتب ومخرج معروف في الغرب، حيث له مكانة وتقدير في الأوساط الفنية والثقافية. ففي مقابلة (متوافرة على "يوتيوب ")، عبر شاشة "إل بي سي إنترناشونال" اللبنانية، حاول معوّض التعمية على حقيقة مواقفه من التطبيع مع الكيان الإسرائيلي الذي يحرّمه القانون اللبناني، نافياً التهمة التي وُجّهت إليه من جهات مناهضة للتطبيع في لبنان، وأفضت إلى إيقاف عرض مسرحيته "وليمة عرس لدى أهل الكهف"، في أحد مسارح بيروت. واستند متّهموه إلى تعاون له سابق في باريس مع مُمثّلَين إسرائيليَّين شاركا في مسرحيته "الكلّ عصافير"، التي حظيت عام 2019 بدعم وتمويل من القسم الثقافي في السفارة الإسرائيلية في باريس، ومن مسرح " كاميري" في تل أبيب. وبذكاء لا ينقصه، ينفي معوّض تأثّره الشخصي بالتهمة، معتبراً أنّ ما حصل في بيروت من إيقاف لعرض مسرحيته هو "صراع انتقامي" بين بعض المسارح والقيّمين عليها في العاصمة اللبنانية، وأن لا علاقة له بذلك، ولا تعني له تهمة التطبيع شيئاً لكونها غير صحيحة في عُرفه. بينما يكشف في ما تبقى من سياق المقابلة عن حقيقة ما يفكر فيه بشأن العداء مع "إسرائيل" وشعبها، إذ يساوي مراراً وتكراراً بين إنسانية الإسرائيلي والفلسطيني، مستنكراً بتعبيره الحرفيّ إقدام حركة حماس على " بَقْر بطون نساء حوامل" في "7 أكتوبر"، مُؤكّداً "عدم فهم حَدَث ذاك اليوم"، مُصعّداً مغالطاته إلى جذور المأساة الفلسطينية بقوله، إنّ أصحاب الأرض باعوا أرضهم لليهود، وبالغاً الذروة بتساؤله :"ما المطلوب؟ هل طرد شعب بأكمله من بلده" مثبّتاً بكلامه أنّ أرض فلسطين المحتلّة هي اليوم وطن اليهود، وبالتالي لا يكون طرد الشعب الفلسطيني بالمجازر والتهجير القسري عام 1948 طرداً لشعب من وطنه، في حين أنّ أي تفكير في استرداد أرض احتُلّت بالقوة أمر مثير لاستغراب وجدي معوّض وتساؤله "اليقينيّ" (!)

يقول مُعوّض إنّه لا يستطيع أن يفهم (ويتفهّم) ما حدث في 7 أكتوبر (2023)، ليبدو وكأنّه قادرٌ على أن يفهم (ويتفهّم) الحصار المطبق على قطاع غزّة منذ عقود!

في ما يتعلق باللحظة التاريخية الراهنة في غزّة، يقول مُعوّض إنّه لا يستطيع أن يفهم (ويتفهّم) ما حدث في 7 أكتوبر (2023)، فيبدو كأنّه قادرٌ على أن يفهم (ويتفهّم) الحصار المطبق على قطاع غزّة منذ عقود، وجولات القتل الإباديّ للمدنيين المحاصرين بالطيران الإسرائيلي في الأعوام 2008 و2009 و2012 و2014 و2022، وكلّها مجازر مرعبة بحق الأطفال والنساء والشيوخ، ضحاياها بالمئات والآلاف، قبل فعل 7 أكتوبر التحرّري. كلّ هذه الجولات الإباديّة الصهيونية يستطيع وجدي معوّض فهمها، وربما تفهّمها، ولا يعصى على فهمه و" تفهّمه" وإدراكه المحدود، إلّا فعل "حماس"، الطالع من ظلم وقهر مستفحلَين، الفعل الذي ينظر إليه العالم كلّه، وطلاب أرقى الجامعات الغربية، بعين الفهم وإدراك ما يحصل على أرض غزة من فظائع... إلّا وجدي معوّض، الذي لم يتوصّل بعد إلى فهم لماذا حصل ما حصل في "7 أكتوبر"، ولا يشاركه في عدم القدرة على الفهم إلّا نتنياهو الذي يتقاسم وإياه مشقّة الفهم (!) يستغرب معوض: لِمَ فعلت "حماس" هذا؟ ولِمَ اخترق المسجون المحاصر أسوار سجّانه الإلكترونية والإسمنتية؟ وهل يجوز أن يقتل السجين الثائر قتلة أهله وشعبه؟ في منطق وجدي معوض المقلوب والمعوجّ، قد يكون ما لا يفهمه أنّ غزّة كانت تحاصر الكيان الصهيونيّ وترتكب المجازر فيه، وهي التي بنت السياج وفتحته بمفاتيحها لتدخل على مستعمري الكيان المحاصر وتقتلهم (!)

"إنسانويّات" معوّض وتكراره أنّه يؤمن بالإنسان وبالحبّ، بمعزل عن أيّ هوية أو دين، طوباويّات وإنشائيات ساذجة

أمّا الزعم، الكليشيه المتعلّق ببيع الفلسطينيين أرضهم، والذي يتبنّاه وجدي معوّض، عن عدم اطّلاع على ألوف الوثائق والدراسات في هذا الشأن، أو عمداً للمساهمة في ترويج الزعم القديم والاتهام السهل للفلسطيني بأنّه باع أرضه، وهو قول باطل مائة في المائة، تُؤكّده تفاصيل الوقائع التاريخية المدوّنة والمثبّتة بالأرقام والمساحات والتعداد السكاني. وإذ يستحيل اختزال هذه القضية في عجالة، أكتفي بتذكير السيد معوض بأنّ الأراضي الفلسطينية كانت في أثناء الحكم العثماني تتبع جهات عديدة لناحية الملكية، هي: ملكيات إقطاعية يتقاسمها ملّاكٌ كبار فلسطينيون وعرب غير فلسطينيين، ثم أراضي الوقف الإسلامي، وأراضي الكنائس المسيحية، والأراضي الخاصة لصغار الملّاك الفلسطينيين، أمّا الملكيات الكبيرة فقد تقاسمها ملّاك كبار من الفلسطينيين أو من العرب السوريين واللبنانيين الذين تجمعت في أيديهم الأراضي غالباً في ظلّ وحدة الأرض أيام الخلافة العثمانية. استطاعت عائلات شامية ولبنانية امتلاك مساحات شاسعة من أراضي فلسطين، كعائلات سرسق والعمري والقباني والعكراوي، وكانت عائلة سرسق اللبنانية، المتحدّرة من أصول يونانية، صاحبة النصيب الأكبر في تملّك الدونمات التي باعتها لاحقاً للتخلّص من ضرائبها الباهظة وسداد ديون خاصة. حالة فريدة، محدودة، لا يمكن تعميمها، علماً بأنّ السلطات العثمانية كانت تحرّم بيع أراضي فلسطين لليهود كي لا تفقد سيطرتها عليها، واتخذ السلطان عبد الحميد الثاني التدابير اللازمة لمنع بيع الأراضي لليهود، وكي لا يتغلّبوا عدداً ومساحة على الشعب الفلسطيني. لكنّ الأمر لم يدُم كثيراً، حتّى تمكن الثري اليهودي البريطاني مونتيفيوري عام 1849 من تملّك أول قطعة أرض يهودية في فلسطين، نتيجة تدخّل بريطانيا لدى السلطات العثمانية، فأصدر السلطان فرماناً يجيز لليهود شراء الأراضي في الديار المقدسة، وشيّد مونتيفيوري أول مستعمرة يهودية على أرض تقع خارج سور البلدة القديمة في القدس، ولم تلبث السلطات العثمانية أن اعترفت بها رسمياً مع صدور قانون استملاك الأجانب عام 1869، لتوضع بتلك المستعمرة نواة أول حيّ يهودي في فلسطين. إذن، الاحتلالان العثماني والبريطاني هما "المجيّران" المتآمران لملكية بعض الأراضي في فلسطين للمستوطنين اليهود والصهاينة المتسلّلين والمتمددين كالأخطبوط، ولم يكن قرار التمليك أو البيع بيد الشعب الفلسطيني الذي نبّه ممثلوه وعلماؤه السلطات العثمانية إلى خطر الاستيطان اليهودي وطالبوها بإجراءات صارمة لمواجهته، وترأس الشيخ محمد طاهر الحسيني مفتي القدس سنة 1897 هيئة محلّية ذات صلاحيات حكومية للتدقيق في طلبات نقل الملكية من متصرفية بيت المقدس، فحال دون انتقال أراضٍ كثيرة لليهود، وكان للشيخ سليمان التاجي الفاروقي دوره في التحذير من الخطر الصهيوني، وكذلك فعل يوسف الخالدي ورومي الخالدي وسعيد الحسيني ونجيب نصار. كذلك شاركت الصحف الفلسطينية، أيضاً، في فضح المؤامرة العثمانية البريطانية المشتركة بنقل ملكية بعض الأراضي إلى اليهود، وبينها صحف "الكرمل" و"الدفاع" و"الجامعة العربية" و"فلسطين"... بذلك، هل يكون الشعب الفلسطيني المنبّه والرافض والمشتكي ورافع الصوت هو الذي باع أرضه يا وجدي معوّض؟

"إنسانويّات" معوّض في هذه المقابلة، وتكراره أنّه يؤمن بالإنسان وبالحبّ، بمعزل عن أيّ هوية أو دين، لا تعدو كونها طوباويّات وإنشائيات لا محلّ لها في زمن الإبادة والوحشية الهائلتين. فمن يحفل لخطاب طَهريّ كهذا وكلام زهريّ منمّق، شعاراتيّ، مثاليّ، بدائيّ، لا صدى له في الواقع، ولا يُصرف في عالم البشر؟ ليس هذا وقت المثاليات غير اللصيقة بالواقع، بل وقت البطولة والصمود والنضال.