محاورة: في دوامات الأسئلة واحتمالات الإجابات

محاورة: في دوامات الأسئلة واحتمالات الإجابات

18 مايو 2024
+ الخط -

(هذا النص هو الأوّل من أربعةِ نصوصٍ، تشكّلُ بمجموعِها محاورةً بين الروائيةِ السورية روزا ياسين حسن والروائية المصرية، منصورة عز الدين، وتتمحورُ حول الكتابة وجدواها في عالمٍ فقدَ إنسانيته)

عزيزتي منصورة:

على سبيلِ الاعتراف سأقولُ لكِ، ليست المرّة الأولى التي تتمكّن فيها الفجيعة منّي، وليست المرّة الأولى التي أخونُ فيها كتابتي، أكفر، بفقدانِ إيماني بها! الكتابة التي خلقتني من حيث اعتقدتُ يوماً بأنّي أخلقها. مررتُ بهذا قبلاً، ومراراً، سقطتُ في هوّةِ العجز، هوّة من عبثٍ سائلٍ يغرقكِ في حموضته المتعفّنة. وسواس إنْ أتى قضى عليكِ وجرّدكِ من كلِّ قوتك، كأنّ هناك من نشل عصاك السحرية، عصا اللغة، منك، وتركك ساحرة بلا عصاها السحرية، أشبه بكائنٍ نافلٍ لا لزوم له ولا فعل. ما أهمية الكتابة؟ وفي خضمّ كلّ ما نعيشه لماذا أكتب؟ على الرغم من قناعتي بأنّنا في الكتابة نعرف أنفسنا قبل أن نعرف الآخر، رحلة اكتشاف لأعماقنا واكتشاف للعالم. وعلى الرغم من أنّ الروايات صنعت الجزء الأكبر من روحي! لأقل الروايات والسينما، باعتبار الرواية سينما مكتوبة والسينما رواية مشهدية.

آه تذكرت شيئاً، مثلاً في الفيلم البديع Poor Things، المأخوذ عن روايةِ الإسكتلندي "ألاسدير جراي" 1992، يقول "هاري أستلي" لـ"بيلا باكستر"، التي ذهبتْ في رحلتها لاكتشافِ العالم فاكتشفتْ نفسها: "لا يمكنك تحسين العالم، هذه هي النقطة الفاصلة. لا تقبلي كذبة الدين، الاشتراكية والرأسمالية، نحن أجناس هالكة. الأمل قابل للكسر، لكن الواقعية ليست كذلك.. لذا احمِ نفسك بالحقيقة".

هنا تجيبه بيلا: "أنا أعرف ما أنتَ عليه الآن يا هاري، مجرّد طفل صغير محطّم لا يستطيع تحمّل آلام العالم".

حسناً لأقل لكِ، هذا الحوار يكثّف الكثير مما شعرتُ به في رحلة الكتابة، تلك الدوامة من الأسئلةِ المتناقضة واحتمالاتِ الإجاباتِ المتناقضة التي وضعتني مراراً في عينِ الإعصار: مجرّد طفل صغير محطّم لا يستطيع تحمّل آلام العالم!

 إيجادُ أجوبةٍ منجزةٍ عن سببِ الكتابة وجدواها أمر يشبه الإجابة عن معنى الوجود والحياة والله، ستظلّ ما ظلّ الكون موجوداً

المرّة الأولى كانت حين رأيتُ أوّل مقبرة جماعية في داريّا في ريف دمشق. ثمّة رجل كان يديرُ خرطوم المياه ليغسل مئات الجثث المصطفّة بجانبِ بعضها البعض، كمن يسقي أشجاراً في حقل. رفاهية غسل كلّ ميّت على حدة، ودفنه في قبرٍ مخصّصٍ له، كانت حلماً في تلك البقعة وذلك الزمان. حين رأيتُ ألبوم صور القتلى الذي يتأبّطه طيلة الوقت، كي يستطيع أحدٌ ما نجا بمعجزةٍ أن يعرف إن كانت جثث أحبابه مرميّةً في تلك الحفرة الكبيرة الغميقة، سقطَ كلّ إيماني بجدوى الكتابة وفجأة، كطفلةٍ عابثةٍ رمتْ كرة كريستال على الأرض وتشظّت ألف قطعة. السوريون يوغلون في الموت، ولا أحد يحرّك ساكناً! موتٌ يوميٌ عبثيٌ فجائعيٌ كملحمةِ القيامة. ما جدوى الكتابة إذاً؟ كيف أصفُ لكِ مشاعر اللا لزوم، اللا فعل، العار. بداخلي طغى موتُ كلَّ شيءٍ، موت الأدب، موت الكتابة، موت الفن.. كلّ أشكالِ الموت عشّشت داخلي يا صديقتي.

كنت أقنع نفسي قبلاً بأنّ الكتابةَ شكلٌ من أحد أشكال مقاومةِ النسيان، التدوين كي لا ننسى، وكي لا ينسى من سيأتي فتضيعُ الحكاية. ولكن لا، هناك طرق أخرى لنقشِ الذاكرة. في تلك البقعةِ من العالم، وذلك الزمان، بَدَتْ لي الكتابة مثقوبة الذاكرة، متلعثمة، واهنة لا قدرة لها على نقشِ أيِّ شيءٍ في الحجر. في تلك البقعةِ من العالم، وذلك الزمان كنت "التي رأت"، شاهدةً على المجزرة، ومن واجبي تجاه من رحلوا أن أحكي حكاياتهم، وهذا ما قضيت سنوات في فعله. لكن هل كان لديّ إيمان عميق بجدوى ذلك؟ صراحة لا. كنت شاهدة تُحتّم عليها أخلاقها أن تسردَ الحكاية بـ"أجمل" ما يمكن كي لا تُنسى.

أمسكتْ يدا النظام السوري بالبشر، هزّتهم كما يهزّ لاعبٌ طاولةَ نردين، ورمتهم في هذا العالم

ولكن أليست الكتابة حفراً بطيئاً وبعيداً في حجرِ الذاكرة كي لا تتبدّد مع مرورِ الزمن، حفرا بأدواتِ المتعة والفن؟ أعود لأذكّر نفسي.

حاولتُ أن أستعين بكتّابٍ عاشوا ما أعيشه. أتسوّل كلماتهم وتجاربهم كمن يتسوّل ساعةً أخرى من ملكِ الموت، أن اتركني أرجوك أعش ساعة أخرى. الكاتب والروائي، بول أوستر، حاول أن يساعدني، فقال إنّه يشعر أحياناً "مثلي تماماً"، بأنّ ما يقوم به بلا جدوى. ثم يعود ليدرك أنّ جمال الفن وقوّته يكمنان في لا جدواه تلك. حسناً.. ربّما. السؤال الآن هل يمكنني أن أسفح عمري في شيءٍ لا جدوى منه؟ أشبه بقدرٍ محتومٍ وليس بقرار. في أوقاتٍ كثيرة كان جوابي نعم، هو الحبّ اللا مشروط، فليس بالضرورة أن يكون لكلِّ شيءٍ نحبّه جدوى. الوهم أكثر جمالاً من الحقيقة. ثم مَنْ قرّر أنّ هذا وهم وهذه حقيقة؟ كان عليّ أن أحاربَ ذلك الشعور كمن يحارب ملوك الظلام بيدين عاريتين. حاولت أن أكتب عن كلِّ شيءٍ عشته في سورية، عن كلِّ من عرفته، عن كلِّ تفصيلٍ، عن كلِّ شعورٍ اختلجَ في قلبِ شخصيةٍ. ألفيتُ نفسي في متاهةِ الكتابة، والكتابة كما تعلمين يا صديقتي عالم من المتاهات، لا يمكنك أحياناً أن تعرفي بدايتها من نهايتها. تدورين فيها فحسب كممسوسةٍ!

لم أكنْ قد بدأت أستعيد إيماني جزئياً بالكتابة حتى بدأ سفر الخروج السوري Exodus! وما أدراكِ ما سفر الخروج! 

الآلاف يموتون على الهواء مباشرة، يُقصفون في بثّ حي، ويتم الاعتداء على من يشعل شموعاً على قارعةِ شارعٍ حداداً عليهم

أمسكتْ يدا النظام السوري بالبشر، هزّتهم كما يهزّ لاعبٌ طاولةَ نردين، ورمتهم في هذا العالم: شتات، تغريبة، هروب.. سمّها ما شئت. لوهلةٍ كانت السلطةُ والمال وقذارات السياسة أهم بكثيرٍ من البشر. هذا هو سفر الخروج. لجّة المتوسط تبتلع جثث المهاجرين كلّ ليلةٍ. لا أدري من كان يصوّر في يومٍ ما بشراً فضّلوا الغرق على البقاءِ في جحيمِ بلدانهم. صراخُهم، حشرجةُ الماء في أحلاقهم، الرعبُ في العيونِ المفتوحة، والأيدي التي تُلوّح وهي تغرق! الفجيعة. كلُّ شيءٍ، كلُّ شيءٍ في ذلك الفيديو جعلني أختنق. حلمتُ بقاعِ المتوسط وجثثِ الحالمين تتوسّده بأمان. ما جدوى الكتابة أمام كلّ هذا الخراب؟

يمرُّ الوقت ونتخلّص شيئاً فشيئاً من أوهامنا فيما يخصّ اعتبار الكتابة أداةً للتغيير. لكن أليستْ الكلمة سلاحاً في وجهِ العنف؟ ألّا يخافُ الطغاةُ من الكلمات؟ نعم بالتأكيد. إذاً ها أنا أملك سلاحاً جباراً هو كلمتي. الكتابة كتمرّد، ثورة ثانية ولكنها شخصية بحتة... أحاولُ إقناعَ نفسي عبثاً!

لم أكدْ أخرج قليلاً، ومن جديدٍ، من كفري بالكتابة، حتى فجعني فيديو عن مجموعةٍ من أطفالِ غزّة يرقصون فرحاً في أكفانهم. يا صغاري! ظنّوها جاكيتات بيضاء تقيهم البرد! هل هناك فجيعة أكثر من هذا! كيف يستطيع فيديو قصير، لا يتجاوز نصف الدقيقة، أن يشلعَ قلبكِ من مكانه ويقذفه في نارٍ مستعرة! فيديو قصير يقول ما تجاهد كتبٌ كاملةٌ لقوله. إذاً ما فائدة كلّ ما أفعله؟ وما هذا العالم القذر الذي سقطت عنه ورقة التوت: ادّعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبات (العالم) عارياً مكشوفاً في قبحه وصفاقته. الآلاف يموتون على الهواء مباشرة، يُقصفون في بثٍّ حي، ويتم الاعتداء على من يشعل شموعاً على قارعةِ شارعٍ حداداً عليهم. لا أحد يمكنه إيقاف المجزرة، والفلسطينيون لا يكفّون عن الموت!

لا أحد يمكنه إيقاف المجزرة، والفلسطينيون لا يكفّون عن الموت! 

"حسناً، لكن دوركِ ككاتبة هو أن تُقلقي المطمئنين البؤساء، لا تكتبين لكي تهدّئي من روعِ القارئ، ولا لكي تحاربي الموت، كما يزعمُ البعض، بل تكتبين لكي توقظي"، قال لي الكاتب والروائي خوسيه ساراماغو، سمعته يخاطبني وأنا أبحث عمّن ينشلني من جحيمي. أضاف الكاتب بيتر هاندكه، قائلاً: "الكتابة شعور بمآسي العالم، أن نقتنع بأنّها طريقة أخرى في عيشِ الحياة والصمود أمام معوّقاتها. إنّها رسالة في البحر يجب أن نوصلها إلى الشاطئ، تلك مهمتنا ومسؤوليتنا!". وهزّ رأسه مؤكداً.

أنصتّ إليهما، ولكن هل هي الكتابة مسؤولية ومهمة! أتأرجح بين إيماني وكفري، بين عجزي وفاعليتي، بين العبثِ والجدوى. أسئلةٌ لا تنتهي، وقلقٌ لا يجعلني أستقرّ فوقه. فإيجادُ أجوبةٍ مُنجزةٍ عن سببِ الكتابة وجدواها أمر يشبهُ الإجابة عن معنى الوجود والحياة والله، ستظلّ ما ظلّ الكون موجوداً.

اليوم أفكّر، ربّما عملت الكتابة على إيقاظِ الوعي الجمعي لكن ببطءِ بزّاقةٍ. ربما تحرّض الجمال والأسئلة في عالمٍ يُوغلُ في البشاعةِ والتسليم كمسرنمٍ لقوى المال والسياسة. تثير الشك وتهزّ الراكد. وربّما كانت الكتابة بريئةً من كلّ تلك التنظيرات، وما هي إلّا مجرّد خلاصٍ فردي.

أعتقد يا صديقتي بأنّ الأسئلة والإجابات ستبقى تتناهشني على الدوام فيما يخصّ الكتابة، سيبقى القلق ما بقي الإبداع، لكنّي أميل في هذه اللحظة بالذات، وربّما سيتغيّر رأيي غداً، إلى الاقتناعِ بأنّها أقرب إلى سيناريو آخر وملوّن وأكثر رأفة لعيشِ هذه الحياة الفقيرة والبشعة للغاية بدونها.

ما رأيك؟

ولك مني كلّ الحبِّ والسلامات.

(روزا)

تستضيف مدونة "محاورة" في كلّ شهر كاتبين أو كاتبتين يتحاوران/تتحاوران حول مسألة تهمهما، وذلك في محاولة للاحتفاء بالحوار والاختلاف والرأي الآخر.
روزا ياسين حسن
روزا ياسين حسن
روزا ياسين حسن
روائية وكاتبة سورية، درست الهندسة المعمارية ومن ثم تفرّغت للكتابة. صدر لها عدد من الأعمال الروائية منها: "أبنوس" (2004)، و"حرّاس الهواء" (2009) و"الذين مسّهم سحر" (2016) و"بحثا عن كرة الصوف/ ثلاثة أيام من متاهة المنفى" (2022) وترجمت عدد من رواياتها إلى الألمانية، الفرنسية والإيطالية، وهي عضو في نادي القلم الدولي وتقيم حاليا في ألمانيا/ هامبورغ.
روزا ياسين حسن