السرُّ الكبير في كتابةِ "الحي الخطير"

السرُّ الكبير في كتابةِ "الحي الخطير"

18 مايو 2024
+ الخط -

اعتقدتُ فيما مضى أنّ عددَ قرّاء الرواياتِ والأدب في المغرب لا يتجاوزُ ألفًا أو ألفين. لكن التجربة تثبتُ لي العكس يوميًا. فمنذ نشرتُ روايتي "الحي الخطير" تصلني رسائل حولها بشكلٍ مستمرٍ من مختلفِ المدن في المغرب، ومن خارجه أيضًا، إلى حدِّ اليوم. ورغم أنّها أصبحتْ بالنسبةِ إليّ روايةً قديمةً جدًّا، ورغم أنّي لا آخذ الكتابة بالجديّة اللازمة حتى، كما قد يبدو، حيث إنّي لم أنجزْ بعد أيّ روايةٍ أخرى كما يفعلُ كثير من الكتّاب الذين يستطيعون نشرَ روايةٍ على الأقل كلّ سنة، إضافة إلى دواوين شعرية ومجاميع قصصية، وهذا شيء جيّد في نظري، أي أن يجتهد الكتاّب، وأن يُمتِّعوا القرّاء بأعمالٍ جديدة باستمرار. الكاتب الذي يستطيعُ صناعةَ تراكمٍ في نظري هو كاتب جاد في عمله ومُجتهد بغضّ النظر عن جودةِ تلك الكتب، فذلك أمر يظلّ نسبيًا. نفسيّات الكتّاب أيضًا تختلفُ حسب ظروفهم الحياتية، وحسب نظرتهم إلى الكتابةِ، وإلى العالمِ إلخ.. هناك من يكتبُ بسهولةٍ وتدفقٍ، ودون كثيرٍ من الرقابة الذاتية، وهناك من لا يكتبُ باستمرار، خاضعًا لرقابةٍ تفرضُ نفسها عليه، سواء سلبًا أو إيجابًا. هناك من يحوّل الكتابة إلى عادةٍ يوميةٍ، بالتالي إلى عملٍ واضحٍ، مسطّر ومخطّط له، وهناك من لا يكتبُ سوى وفق مزاجٍ خاصٍ به، موقنًا أنّ الإبداع ليس هو تدبيج الأوراق فقط كما في وظيفةٍ، بل ينبعُ من طاقةٍ نفسيةٍ وروحيةٍ مختلفة، لا تنشطُ كلّ يوم إلخ.. في النهاية تأتي الطبخة مطابقةً لمحتوياتها المسبقة، ولمزاجِ كاتبها، وطريقةِ اشتغاله، ووعيه الخاص، وهذا هو ما يميّز تجربةً عن أخرى. 

بالنسبة إليّ، أفرّق بين أن أكتبُ منشورًا على "فيسبوك"، أو قصةً قصيرةً، وبين مشروعٍ روائي. هذا الأخير، يحتاجُ أكثر من أن تحمل ورقةً وتبدأ بملءِ الأوراق. إنّه مثل الطلقة الوحيدة في البندقية التي يجب عليك التركيز أكثر قبل إطلاقها. الروايةُ عملٌ متشعبٌ للغاية، بناءً وموضوعًا. عملٌ هندسيٌ كبير. أمّا أساسه، فهو التكثيف رغم طوله، التكثيف وليس الإسهاب، عكس ظاهره. الحذف هو سرّ نجاح العمل وتماسكه، وليس الإضافة والإشباع. يجب أن تحصل في النهايةِ على قطعةٍ واحدةٍ، صلبةٍ ومتجانسة. عالم متكامل ومتواشج. بوابةُ الدخول شبيهةٌ ببوابةِ الخروج. كلّ هذا قبل تحقيقه يحتاج كثيرًا من تجمّع الغيوم في الأفق قبل أن تمطر. قبل أن تمطر بقوّة، ببروقٍ ورعودٍ وسيولٍ. على العقل الباطن أن يشتغلَ طويلًا أوّلًا. أن يشتغل أيامًا طويلة، شهورًا، وربّما سنوات. بالنسبة إليّ المصدر الحقيقي للإبداع هو العقل الباطن الذي يتفوّق حتى على المبدع نفسه. إنّه المهندس الأكبر للعملِ الفنّي بعد أن تزوّده بالموادِ الخام. 

المصدر الحقيقي للإبداع هو العقل الباطن الذي يتفوّق حتى على المبدع نفسه

أثناء اشتغالي على روايتي الأولى لم أكن أكتب صفحةً أو صفحتين يوميًا، رغم أنّي أسعى إلى ذلك كلّ يومٍ، دون أن أستطيع تحقيقه، بل الطريقة الوحيدة التي اشتغلتُ بها هي كتابة عشرين صفحة دفعةً واحدة، ثم عدم القدرة على الكتابةِ إلّا بعد أسبوعٍ أو شهرٍ، أو أكثر حتى، باستثناء إعادتي المستمرّة لقراءةِ ما كتبتُ لاستيعابه أكثر، وتنقيحه، وهضمه. بعد ذلك أكتبُ عشرين أو ثلاثين صفحة أخرى دفعةً واحدة بعد أن أشعر أنّ غيومًا كثيرة قد تجمّعت داخلي. وهكذا إلى أن أنهيت الرواية. كتبتها على دفعاتٍ معدودات، لكن في مدّةٍ زمنيةٍ طويلةٍ ومؤرقةٍ للغاية. حين تنقطع عن المواصلة يسكنك قلقٌ مستمرٌ بالمواصلة. ذلك القلق هو ما يدفع اللاوعي إلى العملِ باحثًا عن حلولٍ ومسالك.. 

حسنا وماذا بعد؟ القارئ يهمه كلّ هذا؟ طبعا لا. إنّه يريدُ عملًا جاهزًا، وفقط. هل هناك قرّاء أصلا؟ نعم هناك قرّاء كثيرون داخل المغرب، وفي كلّ الدول الناطقة بالعربية، يبحثون عن الكتاب، يشترونه، ويقرأونه، ويتفاعلون معه، سواء سلبًا أو إيجابًا. لماذا لا تكتبُ عملًا جديدًا بسرعة إذن؟ هل هذا صعب؟

عليك أن تبدعَ أوّلًا قبل أن تفكّر في القرّاء أو الكتّاب أو النقاد، أن تبدعَ شيئًا يعجبك أنت، ويُرضي طموحك الشخصي تجاه ما تريد التعبير عنه، حتى وإن خالف الجميع

أن أكتب عملًا جديدًا بسرعةٍ فقط من أجل بيعه، مستغلًا لهفةَ القراء هذا أمرٌ سهلٌ للغاية. لقد تدربت على كتابةِ منشوراتِ طويلةٍ ويوميةٍ على "فيسبوك" بسهولة. الصعب في الأمر، هو أن تحترم أولئك القرّاء، وأن لا تكتب روايةً إلّا حين تشعرُ أنّك تكتب روايةً، وليس لأنّ هناك من ينتظرها. عليك صناعة عمل إبداعي وليس صناعة الصابون، رغم أنّ حاجتنا إلى الصابون قد تكون أكبر، إلا أنّها ليست مهمتك. عليك أن تبدع أولًا قبل أن تفكّر في القرّاء، أو الكتّاب، أو النقاد، أن تبدع شيئًا يعجبك أنت، ويُرضي طموحك الشخصي تجاه ما تريد التعبير عنه، حتى وإن خالف الجميع. 

هكذا فقط تنجزُ عملًا جيّدًا يحترم القارئ، (سواء بهذه الطريقة في الكتابة أو بطريقة أخرى، سريعًا، أو بطيئًا)، وسيسعى إليه ذلك القارئ دون شك، سواء اليوم أو غدا، وسواء كان قديمًا أم جديدًا.

قرأتُ هذه السطور على بطةٍ في بركةِ سانت كاثرين، فوافقتني الرأي، محرّكةً منقارها بالإيجاب.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.