لمدينة لن تكون أبداً مدينتنا

لمدينة لن تكون أبداً مدينتنا

10 مارس 2015
شوقي شمعون/ لبنان
+ الخط -

في المناطق المحيطة بالملعب
قُبيل أن تُسمع صفّارات الإنذار بدقيقة،
دلفَ جميعُ السائرين، وهم يصيحون،
إلى الملجأ الوحيد في الهواء الطّلق
حيث كان لا يزال في وسعهم الشعورُ بالأمان.

كانوا قد ردّدوا ذلك مراراً في نشرات الأخبار،
وكانت مكبراتُ صوتٍ عنيفةٌ تُعلنهُ
بينما كانوا جميعاً يتراكضون ممسكين بالتّذاكر في أيديهم
وكأنّها جوزاتُ عُبور.

الخائفون، والواهنون، والمغبونون
قد مكثوا في بيوتهم أمام التلفاز
يشاهدون كيف أنّ ذاك الرجلَ، رجلاً وحده
كان يطوف مدريدَ مُلفّعاً بالظلال،

أعمىً أمام يافطات الطرقات، ومنيعاً أمام إشارات المرور
وأمام الصرخة المُباغِتة التي بلبلتِ الطيور،
صرخةٌ انطلقت في ذات اللحظة من آلاف الحناجر
المجتمعة تقريباً: غووووووول! وكلّ شيءٍ صار صمتاً.


 
حيث ينتهي البحر
إلى إيما وبيدرو

ثمّة من لا يجد إثرَ حريقٍ
سوى الرماد
وهناك من يعرف أنّ النار
تُؤجّج العاطفة.

ثمّة من لا يبحث في أعقابِ موجةٍ
إلا عن الزبد
وهناك من هو مُستعدٌّ
ليركب البحر.

ثمّة من يبحث عن شفاهٍ مُختلفةٍ
ليروي عطشَهُ
وهناك من يبحث في الآخرين
عن الوعد بقُبلة.

ثمّة من يُعانقكَ فقط
ليتأكّد أنّكَ مُلكٌ له
وهناك من يفتح يده
كي ترافقه.

ثمّة من يبحث في عينيكَ
عن اليقين المطلق
وهناك من يحدّقُ في المستقبلِ
الذي تعكسهُ عيناك.

ربما في هذا فقط
تكمنُ السعادةُ:
في منحِ معانقاتٍ
بأيدٍ مفتوحةٍ،
في التفتيش عن نظرةِ
مَن يُرافقنا،
والإبحار في الحياة
بلا رغبةٍ أبداً في معرفة
أين ينتهي البحر.

 


شارع موسكو
*
في منتصف الطريق
بين الحياة اليوميّة
والحياة الحقيقيّة،
أُفتّش دوماً عن مأوى
في غرفة مليئة بالكتب،
لها شرفاتٌ تُطلُ على البحر
وعلى الحنين الأولمبيّ
لمدينة لن تكون أبداً مدينتنا.

نتحدّثُ عن الحبّ، بالطّبع،
وعن الاتّفاقيّات المُتداعية
التي جعلنا الحبّ نوقّعها بينما كان يرحل؛
نتحدّث عن اتّفاقيّاتنا تلك، في تلك الأيام،
وبالكاد نتعرّف فيها على أنفسنا؛
ندبّرُ حكايات غراميّة مستحيلة
مع نساءٍ مُهلِكاتٍ،
وفي كتبِ الرحلات نطوفُ أرجاءَ العالم.

على ضوء الكؤوس نحاول من جديد
أن نكتب الرواية التي رويناها لبعضنا بعضاً
في أيامٍ كثيرةٍ أخرى بين الكحول والسجائر.

كنا نُنفق سجائر مالبورو في تلك الليلة
حين ألقى عِربيدٌ ذو شعرٍ أصفرَ رديءِ الصبغة
التحيةَ على مُفوّض الشرطة مُخاطِباً إيّاه باسمه
دون أن يُزعزعه انقضاء عشرين سنة تقريباً،
الليلةُ التي رفضتْ فيها آنستان جميلتان
- ومقياسُ الجمال جِدُّ متبدِّل -
الجلوسَ على الكراسي الشاغرة
في الحانة حيث انزوى ساحرٌ هزيلٌ وشاحبٌ
فقدَ اللهفةَ حتى تجاه نفسه.

ربما كانت تلك الليلة
حين بدأنا نشعر أننا صرنا رجالاً،
وحين عرفنا أن التَّبغ يقتلُ
وأن برشلونة والصداقة تشفياننا.

* شارع في برشلونة، يقع في حيّ (بيلا أوليمبيكا) الملاصق للبحر، والذي شُيّد لاستقبال الرياضيين والوفود في الأولمبياد عام 1992.

 

وودي ألن في مواجهة فرويد
هناك أفلامٌ لِشدّة ما هي بطيئةٌ
تستطيع أن ترى فيها كيف تنمو الأعشاب،
تماماً مثل بعض المنامات التي تطول لليالٍ عديدة
كالروايات الرديئة المنشورة على دفعات
وتُمضي نهاركَ مُتثائباً
ريثما يصل الفصل التالي
من حياةٍ تُعاشُ بالتوازي.

لا يهمّ أن تفتقر المنامات إلى الألوان،
أو أن تنقصها تفاصيلُ أو أن تكون مُشوَّشة.
تبقى محاولة فهمها عديمة الجدوى
مثلما لا جدوى من تصديق أنها حقيقية.
لم تكن هناك أبداً سلالمُ تصل إلى السماء
ولا أنهارٌ لانهائيّةٌ ولا حتى هاوياتٌ سحيقةٌ
لا يمكن بُلوغ قعرها.

اكتفِ إذا استطعتَ بمشاهدة طُلوع الفجر
وبمعرفة أن الساعات تمضي في جميع الأحوال
حامِلةً إيّاكَ، بين ذراعيها، إلى ذراعيّ
الليلةِ التالية، والتعاقبِ المستمرّ
لما لا تتذكّره على الرغم من أنه ماثلٌ:

واقعٌ خفيٌّ بالأبيض والأسود
يمرّ فيه نهرٌ، يشقُّ أُخدوداً عميقاً
وينتهي في البحر، حين تستيقظ.

 

بيتر بان
ما لا ترونه منّي هو أيضاً أنا.

لقد دوَّنهُ ألبيرتي:
"وظلُّهُ ما رسمَ قطُّ
شكلَ بشرٍ".*

تحت شمسِ مُنتصفِ الظهيرة
لا تُحيّركم الصورةُ التي أُسقطُها؛
تذكرون اسمي فأستجيبُ،
تسألون فأردُّ.

وعلى الرغم من أنّ ظلّي لا يرسمني
فإنه يتبعني،
مَخيطاً بكعبَي حذائِي
أصطحبُهُ إلى كلّ مكانٍ
مثلَ بيتر بان شائِخ.

إني فحسبُ كلّ ما ترون،
الذكريات والعتمات متضمَّنةٌ أيضاً.

ليس الأمرُ عينَهُ أنْ تختبئَ
وأنْ تختفيَ عن الأنظار.

* من قصيدة "الملاك الملاك" للشاعر الإسباني رافاييل ألبيرتي.

 

ليليّةٌ مُضاءة *

إلى خُواكين بوغا
الذي يعرف عمّا نتحدّث


بعد سنواتٍ طويلةٍ من مُلاحقة غايةٍ
كانت في كلّ مرّة أكثر بُعداً، يافطةً يتعذّر الوصول إليها
سندتها كلمتان لا غير:
الطموح والعمى.

بعدما صار الأرقُ
الحالةَ الطبيعية لرجلٍ
كفَّ عن رؤية الأحلام لكي يعيش أثناء النهار.

خلفَ أفقٍ
رسمَهُ خطُّ مُوازنةٍ ماليّةٍ
مُختفٍ وراء الساعات المكتملة
حيث اجتماعاتٌ، ومآربُ
وبِذلةٌ مَكويّة بعنايةٍ
بدونما أحدٍ في داخلها،
هناكَ، أبعدُ من الضوء الاصطناعيّ
كان الليل يقبع مُنتظراً.

بين ذراعيه، عُدتَ ورأيتَ الحُباحِب.

* Nocturno: ليليّة؛ قطعة موسيقيّة ذات طبيعة حالمة وحزينة.

 

* Javier Bozalongo شاعر إسبانيّ من مواليد تارّاغونا، 1961.


الترجمة عن الإسبانية: كاميران حاج محمود

المساهمون