ليس مهماً إلى أين تمضي

ليس مهماً إلى أين تمضي

25 فبراير 2015
فائقة حسن / البحرين
+ الخط -

اعتذارات
لم أفكّر أنني سأضعُ
تماثلات بين أقربائي
وبين ذاتي في مستنقعات فلوريدا
إلى أن شاهدتُ عشّ طيور البلشون الثلجية البياض
أحدها يقتل الآخر
في هيجان أعناقها المهزولة
لينال عطف أمّهِ
وتحت الشجرة ينتظر
تمساحٌ فاتحاً فكيهِ
جاهزاً لالتقاط الطائر المرفوض.


حفنة سماء

الجذورُ أشياءٌ غريبة، أصابعُ بعقدٍ
في الظلمة، مجعدة على شكل قبضة.
رافضةً السماح لهذه التربة السجينة
أن تتحرر.
نقول "سيكون عليكم انتزاعها من يديّ الميتتين، الباردتين"
ونأمر أبناءنا
وبناتنا بغرس أقدامهم في الطين الزلق
ليحفروا عميقاً بقدر ما يسمح النهار.
هذه هي النقطة التي جعلناها موقفاً لنا
القطعة التي جعلناها قابلة للحياة.
حلقة، اثنتان، ثلاث، أنت لا تستطيع عدّ
عمر هذه الشجرة. أغصانها ضائعة في الغيوم
وكذلك نحن، ومع ذلك لا تزال عقولنا تقيم تحتها
متطامنة في ظلها، مجنونة بالزراعة.
فوقنا الجذور العملاقة، قارّية الحجم،
كما لو أنها تود القبض على حفنة سماء. كشتبان ضياء.
يمكنك قضاء حياتك كلها متتبعاً
شاطئاً مفرداً ولا تجد نهايته أبداً.
وعليّ معرفة أن جلدي تلوث باحثاً
في الوحل بما فيه الكفاية. جنباته متصلبة
مثخنة بالجراح والشقوق المتعمدة.
النهايات الممزقة مشتركة
في هذه الذكريات القذرة
وستجدها إن بحثت.
منذ عصرٍ مضى، أخذ جدّي فأسه إلى شجرته
ثقبا أنفه ملتدغان بسبب باليه الدخان
ناشرين نهايته في الهواء. أخذه مع رغبة
وعضلاته المفتولة مشدودة بقوة
ولم تتحرك الشجرة.
ذراعاه راشتهما شظايا الخشب
فسلم بالأمر، وفرّ عبرَ البحر
مع كسرٍ من تاريخنا وُضعت بعناية في قدرٍ
جاهزة ليعاد غرسها.
وما أن صار هناك، وجداول حمراء تومض في جلده،
حتى اقتنى حديقةً مرةً أخرى، وتحت أشجار الكينيا
والجاكراندا، سمع طيوراً تضحك،
وأغنية أوراق الشجر. لا شيء مثل صفير
قنابل غيمة تغوص في التراب، أو سعال
طلقات مدافع يتخلل الشوارع
جرثومة بلا ترياق، صوتٌ
هو ذاته اعتاد عليه، ماسورة البندقية حنجرته،
منظارُ أفق رؤاه. هنا في هذه الصحراء الجديدة
سمع العالم وتحدث معه باثني عشر لساناً.
واعتدتُ التساؤل: ماذا كان يقول؟ بماذا سيهمس
بعربيته المشغولة من رمل وحصى، بتعازيمه الإيقاعية السحرية؟
ولكنني أعرف الآن. كان يحاول إقناعها بأن تُنتج،
أن تأخذه إلى قاع نهرها الجاف، ووديانها الوعرة.
غذاها بدمهِ، بدموعهِ بزوجهِ،
وبحفيدٍ لم يبلغ سوى ساعات من عمره. لم تتكلم
بلغاتهِ، لم تسمع بكاءه، إلى أن 
سقط صامتاً، ملفوفاً بالكتان، منحدراً
إلى قلبها. هناك، أودُّ أن أعتقد، أدركَ
أنها كانت تصغي طيلة الوقت. رأى أنه تحت قشرة
القارات تمتد ملايين وملايين الجذور
في مصفوفات بلا تمييز، وبألوان أكثر مما نعرف.
حين تكون رؤوسنا في الغيوم، من الصعب رؤية
أننا جزء من الشجرة نفسها، ولا يهم أية براعم
ولا على أي غصن. كلنا نرتاح تحت
ظلّتها. ليس مهماً إلى أين تمضي
أو أي تراب تستخدم لتغرس قدميكَ، سنكون إلى الأبد
بعضنا متصلٌ ببعض، فوق أو تحت، بينما تشكل أغصاننا
قماشة لوحة السماء.

 

أغنية مألوفة
سيداتي وسادتي
لو أحظى بانتباهكم، رجاءً..
(صوته قوي يحملُ
العربة على طول الخط،
حاضر في هدير وطقطقةِ
قطار على سكّته.
يجيء صوتاً لاجسدَ له، لهذا
منذ البداية يمكن أن يكون صوت أي شخص يتحدث،
حتى الله ذاته)
اسمي هو ....
وأنا متشرد،
سمعتُ هذه الأغنية من قبل
عادة خلال موسيقاي المتنافرة،
بأنفاس قصيرة، ونبضات جاز بلا معنى،
اللازمة هي ذاتها
حتى لو تغيرت كلمات الأغنية أحياناً:
اصغوا: اعتدتُ امتلاك عربة بسكويت
كانت الحياة طيبة إلى أن ضربتني سيارة
في السنة الماضية، وأخذ المستشفى
كل شيء لقاء صحتي.
والآن بالكاد استطيع الوقوف. أسيرُ
مع هذه العصا، وأكافح لأحصل على عمل.
لو تعلق الأمر بي، لما همّني
ولكن لديّ طفلة صغيرة
بنت عمرها أربعه سنوات لا أتحمل
أن تراني أستجدي. أنا إنسان ذو كبرياء،
كنتُ إنساناً ذا كبرياء، أكره أن أستجدي
ولكن، رجاءً، أي شيء يمكن أن توفروه،
رجاءً، سيتخذ طريقاً طويلاً.
(والآن يجيء صوتُ جرّ قدمين بطيء، وجلبة
الكوب، وطرقةُ العصا،
والغيابُ الأصم للصوتِ
من قبلنا)

اصغوا: اسمي هو ...
مرضُ عظام نادر يحفر ثقباً
في جانبي الأيمن. زوجي تعمل
في وظيفتين محاولة مساعدتي،
ولا يزال عملها غير كافٍ لاجراء العملية
التي أحتاجها. وطيلة 30 عاماً عملتُ بجد
ولم يكن هذا كافياً، أنا آسف،
بالغ الأسف، لأنني أفسدُ عليكم يومكم
ولكن لاخيارات لديّ، أكره أن أستجدي.
أنا إنسانٌ ذو كبرياء. كنتُ
إنساناً ذا كبرياء.
(تبدأ الجوقة بالغناء، تقاطعها
أبوابٌ تُفتح، جيشانٌ
وانفجار صوت من غير جسد، هذا الموقف
في الشارع الرابع والثلاثين، الموقف التالي
في بريانت الثاني والأربعين)

ثم تجيء مسيرة الجثة، سيماء المنكسر،
يتسلل أنبوبُ مصل طبيّ
من حقيبةِ  الظهر، يختفي تحت
قميصه. اصغوا: الجندي الذي خدم في العراق
هو التالي، ثم الجندي الملتحي من كابول،
أصواتهم حادة مثل شظايا قنبلة
ولكن كل واحد منهم تلتمع عيناه الآن
ويصبح سماع أصواتهم أصعب.
من خدم في فيتنام أصابه اليأس منذ زمن طويل،
وهو يحاول موازنة جسده في النفق: إنه يتلبث
على الأرصفة طلباً للدفء، إلى أن يأتي
أحدهم فيطرده ويرميه خارجاً في عز البرد.
الجنود السابقون لايتحدث أحدهم إلى الآخر؛
إنهم يتنافسون على القطعة نفسها من الجمهور.
هنا المرأة المهاجرة أيضاً، تلك التي
لا تتكلّم، ترفع لافتة بيدٍ واحدةٍ فحسب، ورضيع مكتئب
معلقٌ باليد الأخرى، رأسٌ يتدلى، تتحدثُ
بيننا بصمت، شبحاً رافضاً،
أرملةً ربما، أمّاً، أختاً ربما.
(لاأعرف، أنا لم أقرأ اللافتة)
وسكونها يلح على المخيلة بقوة،
يدعو إلى التأمل، يبدو أنها لا تثق بقدرتها
على الكلام، على فتح فمها، كي تحّرر
الصرخة المكتومة طويلا في داخلها. أعطاها
صديقي بعض القطع النقدية قائلا "هذا أمر من الصعب تجاهله"
قبل أن يسترخي عائداً إلى حالة الحياد،
بينما يندفع مغني آخر بلا اسم ويدفع
الجوقة للغناء مرة أخرى، وأدركُ أن أصابع
يديّ مشدودة، والصرخة المكتومة هي صرختي
لأنني شاعر مُفقرٌ تماماً
ليس لديّ ما أعطيه
مجرد قول هذا.
اصغوا: اسمي هو... 


Omar J. Sakr شاعر أسترالي من أصل عربي  

ترجمة عن الإنجليزية: محمد الأسعد

المساهمون