أن تكون مجبرًا على السقوط في الفخ

أن تكون مجبرًا على السقوط في الفخ

26 مايو 2016
(في سوق عمّان القديمة، تصوير: راشيل لويس)
+ الخط -

يرى المختصون في الشأن الاقتصادي الأردني، أنه ثمة صلة وثيقة بين اعتماد الشباب على القروض البنكية، وتوجه الدولة الاقتصادي القائم منذ أكثر من عقدين، على تطبيق جملة من السياسات الرأسمالية؛ إذ إن ارتفاع نسبة القروض بين الشباب يعكس شكلًا من الرأسمالية القائمة على الإنفاق الاستهلاكي، والذي بدروه ينهك موازنة الأسرة ويرتّب عليها كلفًا عاليةً لا تتناسب ومستويات الدخل.

تجربة رامز فريج، وهو شاب أردني استعان بأحد البنوك ليتمكن من الزواج، تعكس ما يكمن أن يتسبب به نظام التسهيلات المتّبع حاليًا في معظم البنوك، من وضع القيود في أيدي الشباب منذ بداية طريقهم، فيتحدث إلى "جيل العربي الجديد" عن تجربته: "لم يكن لدي ما يكفي من مال لتوفير مستلزمات الزواج، ولم يكن ممكنًا لأي شاب أن يتزوج خلال سنوات قليلة من العمل، البنك كان المصباح السحري الذي لا يمكن أن تعرف مع قروضه المستحيل".

في عام 2009، سُرّح رامز من عمله وفقد مصدر دخله الوحيد؛ فتراكمت أقساط القرض وفوائده، ولم يعرف حتى الآن كيف تحوّلت ثمانية آلاف دينار، مجمل القرض الذي استلفه، إلى عشرين ألفًا خلال سنتين، وكان عدم قدرته على السداد؛ أقصر الطرق إلى السجن.

يعمل رامز الآن ليلًا نهارًا من دون أن يسأل عمّا إذا كان هذا العمل من تخصّصه أم لا، أو إن كان يحظى بقبول اجتماعي أو يناسب مستواه التعليمي وخبرته العملية، كل ما يفكر فيه هو تأمين المال اللازم للتخلص من الدين أولًا، ثم لتوفير حياة كريمة لأسرته، وهكذا فرض البنك نفسه أولويّة على مخططاته.

يرى الخبير الاقتصادي محمد البشير، أن ما حدثَ مع رامز، وكثيرين غيره، يعطي مؤشرًا على غياب الدور الفاعل للبنك المركزي بصفته أداة رقابيّة في القطاع المصرفي. فيقول في حديثه إلى "جيل العربي الجديد": "منذ دخول الأردن في اتفاقية التجارة الحرة (1993) والدور الحكومي في هذا السياق محدود جدًا، واعتماد الحكومة وتبنّيها لسياسات رأسمالية يفرضها صندوق النقد الدولي، أوصلنا إلى هذه الحالة من الفوضى والإرهاق الاقتصادي".

يؤكّد البشير أنه ثمة تحالفٌ بين رأس المال والسلطة في الأردن، تكرّس بعد تراجع الدولة عن عملية الإصلاح السياسي؛ ما أدى إلى إضعاف أدوات الرقابة الحكومية، وأعطى أفضلية لأصحاب المال على حساب المواطن.

هذا التحالف يتجلّى في الكيفيّة التي تستفيد منها البنوك من الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الأردن؛ إذ تصب معظم البنوك تركيزها على فئة الشباب، من خلال توظيف أحلامهم بتلقي التعليم الجامعي أو امتلاك سيارة الأحلام لصالح بيعهم أكبر قدر ممكن من الوهم.

يخبرنا فادي، وهو اسم مستعار لمسؤول عن فريق مبيعات القروض في أحد البنوك الأردنية، طلب عدم الكشف عن اسمه، عن الكيفية التي يخطط لها البنك لإقناع الشباب بالقروض. يقول: "يبدأ عمل موظف المبيعات في البنك من خلال تشكيل دائرة من العلاقات تبدأ بأقربائه، الذين سيخبرون أصدقاءهم وأقرباءهم، وهكذا حتى يصل إلى خلق دائرة كبيرة لا بد أن يكون فيها الكثير من المهتمين بالحصول على قرض".

إلا أن هذه الشبكة من العلاقات ليست إلا إحدى التجليات الظاهرة لفكرة أعمق تقوم، بحسب فادي، على أساس فهم أصحاب القرار في البنوك لواقع المجتمع الأردني؛ إذ إن تدني الأجور وانخفاض مستوى الدخل من ناحية، وعفوية تفكير الشباب في المراحل المبكرة من عمرهم، واهتمامهم بالرفاهية على حساب الخطط المستقبلية من ناحية أخرى، يشكّل نقطة التقاء تبدو كأنها صممت خصيصًا لهذه الغاية، إذ تقّدمُ القروض لهم بناءً على فهم نمط التفكير الاجتماعي السائد.

يضيف فادي في هذا السياق: "نبحث عادة على الشخص المفتاح (Key Person) وهو من يقوم بالتسويق لقروضنا بشكل تلقائي، من دون معرفته بذلك، لمجرد حصوله على خدمة ممتازة من قبلنا والتعامل معه كما يُحب، وهذا الشخص موجود في كافة الدوائر الاجتماعية التي ينشئها كل موظف مبيعات يعمل هنا".

يظهر تحالف السلطة ورأس المال بشكل واضح في الخطوة الأخيرة التي تتبعها البنوك لتسويق قروضها؛ إذ يعمد صنّاع القرار في البنك على إنتاج إعلانات إذاعية، يصارُ إلى بثّها من خلال البرامج الصباحية الخدماتيّة، ويوضّح فادي هذا الموضوع بالقول: "ندرك أن أكبر نسبة من مستمعي البرامج الخدماتية هي من أصحاب الدخل المحدود، والذين يحلمون بالتعليم أو شراء سيارة أو توفير مسكن محترم، فنقوم باستهدافهم من خلال إنتاج إعلانات تبث في الوقت المناسب".

محمد طرخان، شاب في الثلاثين من عمره، يؤمن بأن الدخول إلى عالم القروض البنكية لا يمكن الخروج منه، وهو يمتلك تجربة في هذا المجال تتمثل بحصوله على قرض سكني لأسرته، ينتظر بفارغ الصبر الخلاص منه، ولكنه مقتنع بأنه عاجلًا أم آجلًا سيتقدّم على قرضٍ آخر، فيطلعنا على تجربته قائلًاً: "لا يمكن تحقيق ما ترغب به ن دون القروض، لو لم آخذ قرض لأسرتي كنت أخطط لشراء سيارة بالآلية نفسها، كل ما حصل هو تغير الأولويّات، ولكن طريقة التنفيذ واحدة، ولا يوجد سواها".

تكاليف القرض العالية، والتي تشكل 30% من دخل محمد الشهري، اضطرته إلى إعادة التخطيط لمستقبله، فانخفضت مصاريفه الشخصية ومدّخراته، وأصبح سداد القرض أولويته القصوى وكل ما عدا ذلك بات رفاهية بالنسبة إليه، إلا أن هذا الحماس تجاه القروض لا يخلو من مخاوف. يضيف: "لا تفارقني فكرة مخاطر عدم السداد، إنها تشكّل هاجسًا لي، ودائمًا ما أطرح أسئلة على نفسي وعلى من حولي، ماذا لو فقدت عملي، ماذا لو دخلت السجن".

يجد خبراء الاقتصاد في توغّل البنوك في حياة المواطن، وانتشار القروض بهذه الطريقة غير المدروسة، انعكاسات سلبية على المجتمع تتمثل بانتشار العنف والجريمة، وتوريط المواطن بقضايا وملاحقات قانونية، ويرسّخ غياب الإنتاجيّة والتركيز على تغطية النفقات والاستهلاك.

وفي ظل زيادة نسبة الودائع المالية في البنوك الأردنية (32.5 مليار دينار) مقارنة بنسبة التسهيلات البنكية (ديون القروض)؛ يرى البشير أن الحلول تتركز بتشجيع الاستثمار ودفع أصحاب رأس المال للإفراج عن الودائع البنكية لصالح تنفيذ مشاريع اقتصادية تغطي الفجوة التي تدفع الشباب للتوجه نحو القروض، كما يرى ضرورة عودة الدولة للإصلاح السياسي؛ ما يضمن وجود فريق اقتصادي يعبّر عن تطلّعات المجتمع وليس تحالف السلطة ورأس المال، وضرورة إعادة توزيع الثروة وتخفيف الضرائب على المستهلك، مقابل رفع ضريبة الدخل، وإن كان ولا بد للقروض أن تكون موجودة في حياتنا؛ فلتكن بصورتها الأقل سوءًا المتمثّلة بتقديم قروض إنتاجيّة للشباب، تتيح لهم فرصة إنشاء مشاريع توفر لهم القدرة على الابتكار ومساعدة أقرانهم في توفير فرص عمل.


(الأردن)

المساهمون