موسم "التهجير" إلى الشمال

موسم "التهجير" إلى الشمال

28 يناير 2016
هل يوجد في الحافلة خبز طازج؟ (فيسبوك)
+ الخط -
يحمل رأسه بين كفيه المتعبتين، ويحدّق في الأرض التي وضع عليها قدميه اللتين ستنسحبان، قسراً، خارج هذا المكان..إلى ذاك المنفى القصي.


عيناه المسمّرتان بحبات الرمل التي سيشتاق إليها، بدأتا تمطران قهراً وحنيناً.. الأصوات حوله تختلط بكل شيء، لكنّه لم يعد يستطيع تمييز صوته الذي تحول إلى نشيج خافت .. ثم جاء الحوت الأخضر، الذي سيبتلعه بشراهة ليعصره بين فكي التهجير، والخذلان، ليلفظه بعدها إلى ذاك المنفى..

عندما كنا صغاراً، كان لنا ذكريات طويلة مع هذا الحوت الأخضر الذي يعمل على نقل الناس إلى أماكن عملها، وكنا نحن الصغار نجعله تسليتنا شبه اليومية .. نصعد من الباب الخلفي متسللين خوفاً من إلقاء القبض علينا، من خلال مرآة السائق، لأننا لم نكن نملك بطاقة الصعود إلى الحافلة .. هذه الرحلة داخل المدينة كانت آنذاك بمثابة المهرجان، ونحن نحتفي بالشوارع، التي تمسح العجلات شوارعها المليئة بالطين.. من خلال زجاج النافذة المتسخ بغبار الصيف، ووحل الشتاء.. كانت المدينة تشبه لوحة سريالية.. كنا نعتقد أن شوارع المدينة، من وراء زجاج الحافلة الخضراء، تختلف عن تلك الشوارع التي نركض فيها لاهثين وراء سيارات دخان طرد الحشرات.. أو تلك العربات بثلاث عجلات.. لهذا كنا نلهث وراء الصعود إليها لدقائق..

كان للحافلة الخضراء سحر الكواكب التي نسمع عنها، أو ربما كانت جزءاً من حكايات ألف ليلة وليلة، التي لم تحكَ بعد.. أما الآن..

بدأت الحيتان الخضراء تأخذ مكانها لابتلاع المهجرين، المنتظرين اكتمال فصل الخذلان من الجميع.. أشعل سيجارته واضعاً رأسه على راحة يده اليسرى، كان طفله يقف إلى جانبه سعيداً، يضحك ملء فمه: (بابا .. هل سنركب تلك الحافلة؟).

يهز رأسه بالموافقة، فيعيد طفله طرح الأسئلة: (بابا.. هل يوجد في الحافلة خبز طازج؟) يحاول الأب أن يهز رأسه بحركة آلية، لكنه يقف عند السؤال حائراً، هل سيكون صادقاً مع ولده وهو يعده بالخبز الطازج .. يحضنه (في هذه الحافلة كل شيء عدا شيء واحد .. الحياة) الطفل يضحك، يفرك يديه من البرد والسعادة (يعني رح ناكل خبز تازة؟).

رجل خمسيني يشق صفوف الجمهرة بخطى متثاقلة، وهو يتأكد من أوراق ملكيته للبيت والدكان اللذين بذل فيهما حياته حتى امتلكهما، يطوي أوراقه، يضعها في جيب سترته الداخلي، ويتأكد من إغلاق الجيب (بالسحاب المعدني).. يربّت على سترته متأكداً من وجود الأوراق للمرة العاشرة، ثم يدسّ يده في جيب بنطاله.. يتحّسس مفاتيح أملاكه .. يطمئن لوجود كل ما يثبت أن له في هذا المكان وطنا صغيرا، بناه حجراً فوق حجر.. ترتسم ابتسامة حزينة على شفتيه، ثم يخرج دخاناً أبيضَ من بين شفتيه، بسبب البرد القارس الذي لفح وجهه الحزين..

صور.. هي كل ما يمكن أن يجتاحني في ذاك اليوم الأغبر.. تنبش هذه الصور في ذاكرتي القريبة.. ذات المشهد يتكرر منذ عامين، ومن ذات المكان، وهذه الحيتان الخضراء ذاتها، وهذا الترحيل القسري ذاته .. المشهد يتكرر بظروف متطابقة، لعلها النكبة الثانية..

كانت هذه الصور تنبش في ذاكرتي وتعود بي إلى الوراء عشرين عاماً، عندما شاهدت فيلم (ناجي العلي) للمرّة الأولى.. مشاهد التهجير والهروب.. بدأتُ بالبحث عن حنظلة بين الصور، أما من أحد يدير لنا ظهره ويضع يديه خلف ظهره احتجاجاً؟؟ الصور كثيرة وجدت أول حنظلة، ثم وجدت الثاني والثالث .... حنظلة هنا ليس استثناء!

بين نكبة 1948 واحتلال يدّعي حقه في الأرض.. ونكبة 2015 واحتلال يدّعي الشرعية والوطنية، هناك تفصيل واحد يطغى على كل شيء .. تهجير وتطهير عرقي .. ماذا يعني أن يسلب اليهودي بيت الفلسطيني في فلسطين الحبيبة؟؟ وماذا يعني أن يسلب الإيراني - بيد الأسد - أهل حمص الحبيبة بيوتهم؟

ابتلعت الحيتان الخضراء المهجّرين في موسم هجرة إلى الشمال، ربما ستمتد طويلاً لسنوات من التعب، والذكريات، وحكايا من خرجوا يوم الطوفان العظيم.. قبل أن تعود الطيور المهاجرة إلى أعشاشها .. قد طغى الكفن الأخضر على كلّ شيء، وسلخ من الطيور أجنحتها لتفقد الأمل بالعودة.. أو أنه حق العودة مرة أخرى!

(سورية)

المساهمون