"البراءة جهل"

"البراءة جهل"

21 يناير 2016
كيف تنجح ثورة يتصدى لها مجموعة من العدميين؟ (فيسبوك)
+ الخط -
كنا في ميريت، أنا والعايدي وإبراهيم داود وآخرون، وفيما أتذكر، طرح داود سؤالا بدت لنا إجابته بديهية: "ماذا تفعل لو حاول لص سرقتك بالإكراه؟!". أجبنا أنا والعايدي "سنقاوم".


هز إبراهيم كتفيه وقال كمن يقرر حقيقة كونية "لا طبعا، سأعطيه المحفظة". وأمام استحسان البعض لرد داود، نظرنا أنا والعايدي لبعضينا وصمتنا. تملكني هذا السؤال، وطفقت أفكر فيه بين كل حين وآخر، في أوروبا وأميركا يعطون الحافظات، بل حتى ينصحونك بوضع ورقة مالية من فئة معقولة، حتى لا يغضب السارق، الذي هو في حالتهم سيكون غالبا من المدمنين، فيقتلك غيظا. بدا الموضوع حكيما، ولكنني قلت لنفسي "وهل من يسرق عندنا من المدمنين فحسب؟".

وباعتبار أنه لم يسبق لي الوقوع في ذات المأزق قبلا، فقد كنت أحاول تخيل ما الذي يمكنني حقا فعله، تذكرت الخناقات المتباعدة التي تورطت فيها، سواء في مصر أو في أوروبا، وغالبا ضد أكثر من فرد في ذات اللحظة، بحماقة بالغة، ولكنني نجوت بدون إصابات حقيقية أو خسائر، وقبل أن أشكر "شجاعتي"، تذكرت ما قاله لي تيم، صديق إنجليزي يضرب الآن في أطناب شنغهاي، عن مدى حماقة المصريين الذين يتورطون في خناقات مع من يفوقهم عددا وقوة في الشوارع، أثنى بدافع من أدب إنجليزي مجامل ومعهود على هذه "الشجاعة"، ولكنه سأل سؤالا مستحقا عن النتيجة الاحتمالية لموقف كهذا. يجب، إذن. أن أشكر حظي الحسن؟! هل ألوم داود الملك؟! أم ألوم من علمني قصته؟!

وعندما كنت أصغر من عمري الحالي بخمسة عشر عاما تقريبا، رأيت روائيا لا يسعفني الزمن بتذكر اسمه، ولكنني أتذكر ما صدّر به روايته الصادرة عن هيئة قصور الثقافة؛ لقد كتب أن البراءة جهل. وظللت، أيضًا، أفكر في العبارة. في يوم بعيد آخر، كان بلال فضل يجلس معي، محاولا شرح ما يعتنقه من عدمية إيجابية كما سماها: الكل للعدم، فافعل ما تحب، فسألت نفسي أهناك إيجاب وسلب في عدم؟ أيوجد معنى في استحالته؟! أي عبث هذا؟!

وهكذا، وجدنا أنفسنا نعتبر أن البراءة جهل، وأن الشيطان روح تواقة للمعرفة، وأن الإيمان يعني الدوغمائية، وأن العدم هو الوجود، وأن اللطافة ضعف، وأن السخرية، بل التهكم المر الكريه، هي قوة، هكذا وجدنا أن الشر هو من يرث الدنيا، هكذا وجدنا أن الشرير هو الملك، هكذا فكرنا في عالم الحيوان باعتباره الكتاب الأسمى للحياة، هكذا قلنا إن الحياة لا تدين لنا بشيء، هكذا قلنا إن النجاح يعني الفساد أو بعضه، والثراء يعني السرقة أو بعضها، هكذا قلنا إنه لا عدل.

وكلما هيئ لنا أننا قد ابتعدنا عن الدين، يمكننا أن نذكر أنفسنا بأن المسيح قد قال "الشيطان إله هذا العالم"، وأن القرآن قد قال "ولا تلقوا بانفسكم إلى التهلكة".

لم نفكك المعاني لننزع القداسة، أو نخفف الحدية؛ لم نسلم بالعدم، بل صرنا مؤمنين به.
حتى عندما فاجأنا أنفسنا، في اليوم الثامن والعشرين، وكنا أفضل من أحلامنا، وجدنا بعضنا يعتذر لا للناس، بل لنفسه، عن ذلك اليوم.

أعلم أننا فيما تبع السطوع قلنا لأنفسنا "نحن أفضل جيل"، وها نحن فيما يشبه الانطفاء نقول لأنفسنا "نحن أسوأ جيل"، نعم، هذا معتاد. أعلم أن الخطاب حال، ففي النصر نرفع رايات المعنى، وفي الهزيمة نرفع رايات العدم. نعم. هذا معتاد.

ولكن، أخبرني: كيف تنجح ثورة يتصدى لها مجموعة من العدميين؟!
أخبرني: كيف يمكن لإسماعيل الإسكندراني النجاة من جلاديه، ونحن بهذا الشكل؟!

(مصر)

المساهمون