الخالدية.. حين يقلد الواقع الأدب

الخالدية.. حين يقلد الواقع الأدب

21 ابريل 2015
+ الخط -
يحضر سالم لوحًا من خشب، ويعمد لصنع مدينته: علي جانب النيل الشرقي توجد المدينة القديمة، مدينة الفقراء، مدينة المهمّشين والخانعين. وعلى جانب النيل الغربي توجد المدينة الجديدة، مدينة الباشوات، المتجبّرين، الفاسدين، المدينة التي تضمّ قسم الشرطة التي تسمّى باسم اختاره سالم "الخالدية الجديدة".
يصنع سالم، الموظف في وزارة الداخلية، صاحب السلطة الذي يعيش متقشفًا، مدينةً وكأنها الآلاف من المدن والقرى عبر وادي النيل، بنصفيها، تبدو وكأنها الفارق الذي أشهده بنفسي ما بين بولاق أبو العلا وحي الزمالك الأنيق. بينما يعيش مأمور الخالدية الذي صنعه سالم في هاجس عبور الفقراء والمقهورين لتدمير مدينة الأغنياء، رأيتُ أنا هذا بنفسي في شتاء الغضب، في الثامن والعشرين من يناير، لكن العابرين لم يكونوا ينتوون التدمير، كما هو هاجس المأمور الذي يعيش في بارانويا مستمرّة وخانقة، وضعها فيه الروائي الفذّ محمّد البساطي، في رواية لامعة ومنسية، كان من الطبيعي أن تحمل اسم مدينتها المتخيلة: الخالدية.
يصنع سالم خالديته، ذات الاسم غير المميز، من الفراغ والوهم، يستخدمها لصرف مئتي ألف جنيه شهريًا من حسابات وزارة الداخلية، كمكافآت لقسم شرطة الخالدية الجديدة المصطنع، ويستعين بيونس، الموظف البسيط، كمسؤول صرف لهذا الشيك. يمنحه خمسمئة جنيه شهريًا، ويحتفظ بالباقي في حسابات فتحها في البنوك. هكذا تحوّل الخيال الى واقع، واقع يرضي صاحبه، بل ويكافئه.
وطفقت شخصيات الخالدية، التي تخيّلها سالم، تعيش حياة تخصّها، فمن المأمور الموتور دائمًا، العنيف دومًا، الذي يستدعي قوات الأمن المركزي لأي شاردة او واردة - وهكذا تُصرف مكافآت أكبر- إلى نجوى القوّادة الأرستقراطية، إلى زوجة العامل البسيط التي يشتهيها المأمور، زوجه المأمور المتقزّزة منه دومًا، الخادمة التي تغتصب أجنبيا. هكذا هي الخالدية الجديدة التي انطلقت من عقالها، فيتألّق فسادها في حياة أضحت الحقيقة؛ حين يحتفظ المأمور بكميات من الحشيش بين حين وآخر ليصنع بها قضية وهمية؛ وهم داخل الوهم، وهذا الوهم الملتفّ على ذاته، يترجم لمكافآت تصرفها الدولة القمعية لجيب سالم.
لكن الوهم أخذ يطارد الحقيقة، هكذا يتماهى سالم نفسه مع بطله المتخيل، سبب نعمته ومصدر نقمته، المأمور. لا نجد فارقًا بينهما ونحن نوغل في الرواية برفق وحذق، ميّزا كاتبًا كبيرًا بحجم البساطي، هكذا تستطيل حكايات الخالدية لتلتهم الواقع، سواء بإفساده بالنقود كما فعلت مع يونس، او إفساده بحلولها محلّ الحياة نفسها كما فعلت بسالم. هكذا يصحو سالم في يوم من النوم ليجد أنفه نازفًا، ففي دوامة من دوامات تخيّله/حلمه، يلكمه المأمور على وجهه. هكذا تحوّلت الأفكار إلى حقيقة، وكما خادعت السلطة نفسها، وصنعت واقعًا بديلًا يسمح بفسادها، تابعها هذا الواقع البديع بهراوتها الثقيلة نفسها. يبدو كأن الكاتب الكبير قد استشّف لعبة السلطة في كلّ زمان ومكان، اللعبة التي يقع فيها الكاتب مكانًا مركزيًا، فالأديان جاءت بكتب، والعلوم جاءت بكتب، وعبر الكتب تتشكّل صورة الحقيقة الرسمية التي تريدها كلّ سلطة مهما تنوعت أسمائها ومواقعها، هكذا يُصور الديكتاتور حاميًا لشعبه من أخطار وجودية متخيّلة، هكذا تُصاغ أرقام النمو بدلًا من التنمية، هكذا تصير إشارات العلاقات العامة كإنجازات راسخة رصينة، هكذا تصير الوحشية إشاعات، أو هي في أحيان لزوم قيام الدولة بمهامها، هكذا يتحوّل فشل السلطة إلى سبب بقائها.
والروائي، على عكس ما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، دوره أعمق وأشرس من الصحافي في لعبة كهذه. فبينما يجيء الصحافي من مكان أثير، بوصفه ناقل الأخبار التي تشكّل الواقع، فإنه مأزوم دائمًا بافتراض الخفّة، وافتراض المصلحة. أما الروائي، الفنّان في عزلته وزهده المفترضين، البعيد، كما يبدو، عن لعبة المصالح، المستفيد بثقل مفهوم الأدب وإن ادّعى أحيانًا العكس، فكلماته وحكاياته تمثّل معينًا على مستويين: مستوى القارئ البسيط ومستوى الباحثين؛ هكذا تقلّد الطبيعة الفنان، أو هكذا يمكن أن نفهم عبارة أوسكار وايلد الشهيرة، ويمكننا هكذا أن نفهم سبب البارانويا المقيمة لدى كلّ سلطة إزاء الروائيين.
لم يختر البساطي ديكتاتورًا يعيش في واقع متخيل، أو في عزلة أملتها سلطة مطلقة (وهي لعبة جرّبها غابرييل غارسيا ماركيز)، بل اختار مكوّنًا من السلطة؛ لا هو خارجها فعلًا، ولا هو قائدها فعلًا، سالم الموظف الإداري البسيط في وزارة الداخلية. المال بداية هو من يحرّك كلّ دوافعه وأمنياته، قبل أن يصطاده خياله وأحلامه.
هكذا يبتعد الروائي عن الرواية السياسية الواضحة، ليلقي بنفسه في عمق السياسة فعلًا، وكأنه باختياره لظروف سالم ودوافعه يريد أن يقول إن واقع الفساد هو من صنع فساد السلطة. لكن غرق سالم في أحلامه التي صارت كوابيس يقول أيضًا إن فساد السلطة يصنع فساد الواقع، أو بعبارة أخرى وعلى صعيد أدبي آخر، يبدو أن البساطي قد كتب الفانتازيا هذه المرّة أيضًا كما يكتب رواياته الواقعية. فالفانتازيا لم تعدُ أن تكون صنيعة للواقع، قبل أن تتحول بدورها لواقع يصنع فانتازيته الخاصة.
هكذا انسل البساطي من لعبة السلطة وواقعها ليصنعها، ليعري كيف يمكن السلطة ليس فقط خداع شعوبها، بل خداع نفسها، كيف يمكنها أن تموت برصاصة هي أطلقتها.

المساهمون