البقاء على الحديدة

البقاء على الحديدة

14 ابريل 2015
+ الخط -
كان الخبر الطازج، المثير للفضول، الواقع مثل صخرة من فضاءٍ بعيد، هو التهديد الذي طال جلال ملك. التهديد الذي يعني بالدرجة الرئيسية فاطمة وولديها سامي ورامي، وهو أكثر ما كان يهم النساء المتجمعات في المحل. محل جميلة له قصة طويلة تعرفها جيداً نساء شارع الدير والمناطق المجاورة. ورثته عن أختها أم حيدر، وأم حيدر لم تمت إنما رحلت مع زوجها إلى دمشق، واستقرا هناك بعد أن وجدا لهما بيتاً مناسباً في ريف العاصمة، وتحديداً في وادي بردى. جميلة ترسل لها ثلاثمئة دولار من ربح المحل كل شهر، حسب الاتفاق، ويقبض أبو حيدر حوالي أربعمئة دولار كل ثلاثة أشهر باعتباره متقاعداً، وتصله المبالغ عن طريق البنك التجاري العراقي في دمشق.
هما يعيشان عيشة معقولة، تقول جميلة كلما سئلت عن وضع أختها وزوجها، هما يسكنان في منطقة تقع في وادي بردى تبعد حوالي عشرين كيلومتراً عن دمشق باتجاه لبنان، وفي بيت يقع على نهر بردى مباشرة، وسط غابات الحور والسرو والصفصاف، ويمتلكان علاقة جيدة مع أهالي المنطقة. أبو حيدر لا يرغب أبداً بالعودة إلى العراق، الأحداث التي عاشها بعد صيف ألفين وثلاثة جعلته يغسل يديه تماماً من الوطن، تقول جميلة لجليساتها.

لا تتجاوز مساحة المحل العشرين متراً مربعاً، لكن جميلة استغلت كل مليمتر فيه على أفضل وجه، الأرضية، السقف، الجدران، تجد هناك ملابس نسائية، ماكياج، علب صبغ للشعر، طلاء أظافر، عباءات ذات نكهة محافظة، جوارب. يزدحم المحل عادة في أول كل شهر، حيث يتوافد زبائن جميلة لإيفاء ديونهن، أو لإرجاع قسط من الديون. تختلط فيه البضاعة من تركيا وسورية وإيران والعراق ولبنان، كذلك تختلط فيه النساء من جميع الطبقات والمذاهب والأديان ومستويات التعليم. فمن امرأة بدوية من المعامرة، إلى معلمة مدرسة تقطن في شارع ستين. ومن صبية جامعية مثل نغم ابنة جميلة، إلى فتاة لم تكمل الابتدائية وتتحضّر للزواج السريع. لم تكن أي من نساء شارع الدير تقرأ كتباً أو تهتم بالمسرح والسينما. وليس منهن من تقوم بنشاط سياسي أو اجتماعي. ثمة تشابه كبير بينهن، لا في الملابس فقط، بل حتى في نمط الحياة التي اخترن عيشها. يهوين النميمة، وتبادل الأخبار، وترويج الإشاعات، والتذمر، ومراقبة جيرانهن، وتحمّل القهر والحزن والقسوة وظروف المعيشة الشاذة بصمت، ونزوات أزواجهن. إن أفضل وصف يطابق وجودهن الحياتي هو أنهن نساء فقط.

انشغالاتهن تنحصر بالأطفال وتربيتهم وإطعامهم والحرص الشديد على سلامتهم، ويأتي الطعام على رأس الانشغالات. جلب المسواق، والطبخ، وتهيئة ثلاث وجبات منتظمة. ويتخلل كل ذلك الكنس والشطف وترتيب الملابس والفرش، ثم لاحقاً الانصراف إلى الملابس والزينة لهن ولأزواجهن وأولادهن. كان محل جميلة محوراً لتلك الانشغالات كلها. هو نقطة جذب للجميع. الفضاء الذي يردد صدى الانفجارات كلها، كما لو أنه شاشة كونية عملاقة. غير أن حديث محل جميلة، في هذا النهار، انصبّ، تحديداً، على بيت جلال ملك. وحده طغى على الأفكار، والإشارات، والرموز. راحت النسوة يتجاذبن أمر التهديد بلذة فائقة. أجل، في هذا الصباح، وفيما كان عادل يستأنف شربه للعرق أمام التلفزيون المطفأ والمروحة السقفية الدائرة بكسل، وجلال ملك أمام الكومبيوتر، مشغولاً بتصميم جديد لواحد من إعلانات الدائرة، طغى خبر تهديد جلال ملك على أحاديث النسوة في نوفوتيه جميلة. ذكرت ذلك إقبال، عرضاً، وهي تعتقد أن الأخريات سمعن بالخبر. لم تتوقع المفاجأة الكبيرة للخبر. وقع مثل صاعقة على الرؤوس. لكن الخبر ما زال محصوراً في داخل المحل. لم يشع بعد في محل الحلاق أو مقهى الجماهير، ولم يصل إلى زبائن فرن الصمون.

لذلك فوجئن، جميعهن، بكلام إقبال.
قالت جميلة باندهاش إنها لم تسمع بالأمر، ولو حصل شيء من هذا لكانت فاطمة أخبرتها بالحكاية فوراً. جاءت اليوم صباحاً، بعد أن غادر جلال إلى دائرته، وطلبت مكنسة الخوص لكنس الأرض أمام الباب الخارجي، ورأت سامي ورامي يلعبان في الشارع، قالت جميلة، لكنها لم تشر إلى التهديد. أم رياض أكدت أن هناك عيوناً تنقل ما يدور في الحارة إلى الإرهابيين، وأصبح الواحد يشك حتى في جاره. لا بد أن التهديد نفذه عبود. همست أم رياض، وعيناها تنظران في الوجوه، وهي تقلّب جوارب نسائية ستشتريها لكنّتها. وقفت النساء بذهول لهذا الخبر، فعبود معتقل منذ أسابيع. الجميع يعرف ذلك. وكان أبوه واقفاً جنب سيارته أمام باب المحل، ينتظر زبوناً من بين المارين في الشارع، وكان صوت مسجل الحلاق سعد، الصادح بأغنية شبابية حديثة، يصل إلى النساء الجالسات والواقفات في محل جميلة. أغنية يرقص عليها شاب اسمه سيف العروس في أحد فنادق العاصمة. أعاد الحلاق الأغنية ثلاث مرات متواصلة.

فتاة شابة تدخلت في الحديث وقالت إن عمها اختطف في نقطة تفتيش للشرطة، ولا نعرف حتى الآن مصيره، يجوز أن واحداً من عناصر الشرطة هو من أسقط الرصاصة في سيارة جلال. هذا الرأي أثار فضول النساء، وتكلمت إحداهن عن عشرات الإرهابيين الذين تطوعوا إلى الجيش والشرطة من أجل الراتب والرشاوى واستغلال السلطة. لا تنسين عناصر المليشيات الذين دمجهم (بريمر)، بعد أن اختلط الحابل بالنابل، قالت شابة تقف جنب جميلة. أما علاقة كل ذلك مع تهديد جلال ملك بالذات، فلم تخطر على ذهن أي من الجالسات والواقفات. لا يمكن أن يكون جواد، قالت واحدة من النساء بنفي يشبه الاتهام، كانت تجلس على سجادة عرضت للبيع، في زاوية المحل القريبة من الباب. جواد غير مريح، فهو ينقل أخبار الشارع أينما ذهب. ربما كلّفه أحد ما بوضع تلك الرصاصة. هو يدخل البيوت، ويسمع الكلام بين الناس، ويطّلع على أسرار كثيرة. حين يحمل قنينة غاز من مطبخ أو عبوة مياه فارغة، يعرف بعدها ما يحتويه البيت، ومقدار الثراء أو الفقر لصاحب البيت. لكن رأي تلك المرأة لم يلقَ تجاوباً من أحد ففضّلت السكوت.

ثم انصبّت التعليقات على الزمان، والحياة التي لم تعد تطاق، وكيف اختلفت أخلاق البشر بظرف عقد واحد من السنين، واللون الأسود، لون الحزن في ثياب النساء وقد أصبح ماركة لهن جميعاً. وجوه ناشفة، حواجب غير معتنى بها، أجساد يابسة من الخوف والحزن، وعيون قلقة. جميع العيون في محل جميلة توزع القلق على الحياة. انعطف الحديث المختلط إلى سعر اللحم المرتفع، وفيضان اللحوم المستوردة التي تباع بنصف سعر اللحم الطازج. اللحوم الهندية غريبة، بدأت واحدة تتحدث لهن بصوت مرتفع، بعضها مهروس وبعضها مقدّد. يقول الحجي، رجلي، إنها لحوم البقر المريض والمتهالك والهرم، فهم (هندوس) يعبدون البقر ولا يأكلونه. يذبحونه ويصدّرونه إلينا. والناس هنا تشتري دون أن تسأل. المهم لحم. الفقير لا يهتم بالمكان الذي يجلبون منه اللحوم. ما دام ينفع للدولمة، والمحشي، والكبة، والكباب، والتبسي، وتشريب الباميا.

ما هو سعر هذه السجادة؟ وجّهت أم رياض سؤالها لجميلة، وهي تشير إلى السجادة التي تجلس عليها المرأة. مئة ألف دينار، وهي سجادة كاشان أصلية رغم أنها عتيقة، ردت جميلة. فيها نقوش وصور لغزلان وطواويس، وحجمها مناسب للصالونات وحتى غرف النوم. أمامنا وقت طويل للشتاء، قالت إقبال وهي تضع جوارب نسائية ولباساً داخلياً لونه أحمر فاقعاً، على طاولة الخشب التي تقف وراءها جميلة. سجّلي هذا على الحساب، طلبت من جميلة. حسابكم صار ثقيلاً، تجاوز المئتي ألف دينار، قالت جميلة بتذمّر. سأوفّي نصف المبلغ حين يستلم عادل راتبه التقاعدي، ردت إقبال بصوت يفتقد إلى الثقة، ورغم ذلك أمسكت جميلة بقلم الحبر الجاف وفتحت الدفتر الصغير وسجلت ثمن الجوارب.

بخروج إقبال من المحل، عادت جميلة لتفكر، عميقاً، بما سمعته اليوم حول تهديد جلال ملك. صفنت، تيبّست شفتاها، نظرت إلى الشارع، لقد رحل نهاد مع سيارته التاكسي إلى مكان مجهول. وساد الهدوء محل الحلاقة، حيث توقفت أغنية الشباب الراقصة. وتخيلت جلال ملك يتهاوى، بمسدس كاتم للصوت أمام بابهم في صباح مغبر. وتخيّلت رأسه ساقطاً على مقود سيارته في شارع منزوٍ من شوارع الدورة، والدماء تلوث وجهه ويديه كما المناظر المماثلة التي رأتها على الفضائيات وهي تنقل تفاصيل اغتيال لواحد من الأشخاص المعروفين. بدأت تخاف على زوجها أبو نغم أيضاً، وعلى نغم التي تدرس في جامعة بغداد، بقسم الصحافة، بعد أن زادت عمليات اختطاف الفتيات. أبو نغم يمتلك محلاً لاحتياطي السيارات الحديثة، ويقع محله في شارع الشيخ عمر، من جهة الميدان. يخرج منذ الساعة السادسة صباحاً ولا يعود إلا عند الغروب، وهما الوقتان الملائمان للقتل والاختطاف. أن يختطف أبو نغم، أو نغم، معناه بيع كل شيء، بما في ذلك المحل والمشتمل. البقاء على الحديدة كما يقول المثل.

فصل من رواية ستصدر قريباً بعنوان (شارع الدير)

المساهمون