السودان تحت نيران الشرخ الاجتماعي

السودان تحت نيران الشرخ الاجتماعي

15 ديسمبر 2014
يعيش من بيع العبوات في الخرطوم (إيان تمبرلمك/فرانس برس)
+ الخط -
عند قراءتك للإعلانات اليومية في الصحف السودانية المتخصصة بالعقارات لا بد أن تصاب بصدمة. في هذا البلد الفقير نسبيا، يتم بيع شقق سكنية وعقارات بمئات آلاف الدولارات. تدقق أكثر في الإعلان، فيظهر أن الشقة الفاخرة تقع في إحدى الأحياء القليلة الراقية في العاصمة الخرطوم. أحياء ترتفع فيها الأبنية الفخمة، وتجوب شوارعها السيارات الفارهة. هناك تجد الكثير من ربطات العنق، والكثير من مظاهر الثراء. وعلى بعد أمتار فقط، يتوزع الفقراء في الشوارع، يحاولون تحصيل حفنة من الأموال تكفي لشراء رغيف أو كسوة الشتاء.
تبعد قليلاً عن تلك الأحياء، فتمتد أمام نظرك منازل شيّدت من "طين" وأخرى من "قش" لا تقوى على تحمل ضربات المطر. في داخل هذه البيوت، أسر قد يمر عليها أيام، بلا طعام.
الفروقات الاجتماعية في السودان وصلت إلى حدود صارخة. هوة عميقة تفصل بين قلة قليلة من السودانيين الذين يسيطرون على البلاد واقتصادها، وبين قاعدة واسعة من السودانيين الذين يعيشون كل يوم بيومه. وفي المقابل، تغيب السلطات المعنية عن القيام بأية مشاريع لردم هذه الهوة. لا بل العكس يسود هنا، حيث ترتفع الأسعار إلى حدود خيالية، وتقتصر المساكن اللائقة بالبشر على أقلية من الأثرياء، وتغيب أية خدمات اجتماعية يمكن أن تحسّن من ظروف غالبية السودانيين.

فقر يتسع
المراقب للشارع السوداني يكتشف بسرعة الفوارق الكبيرة بين السودانيين. ويشير آخر إحصاء حكومي إن معدل الفقر وصل إلى 46% من السودانيين، بينما يشكك خبراء اقتصاديون بهذه النسبة ويؤكدون أنها تخطت الـ90% ولا سيما بعد سحق الطبقة الوسطى. في حين تزيد نسبة الفقر الغذائي، ويتراجع العمر المتوقع عند الولادة إلى 50 عاماً، وفق منظمة الصحة العالمية، نتيجة لضعف الخدمات الصحية.
فاطمة، امرأة سودانية كانت تعمل في وظيفة حكومية، وكان عملها بمثابة صمام أمان لكل أسرة باعتبار أن الموظف الحكومي كان يمثل الطبقة الوسطى، إن كان من حيث الأجر أو من حيث التقديمات الاجتماعية. وبعدما أحيلت فاطمة إلى التقاعد، أصبح حلمها أن تجد ابنتها وظيفة في المؤسسة الحكومية "لأن العمل في الحكومة له ميزات تتمثل في الراتب الجيد، بعكس القطاع الخاص الذي تعمل فيه ابنتها الآن"، وفق ما تقول فاطمة لـ "العربي الجديد". وتشرح "القطاع الحكومي يؤمن لابنتي مخصصات توازي جهدها". إلا أن ابنة فاطمة تعرف الواقع. إذ تشرح أنه "في السابق كانت الوظيفة الحكومية جيدة، أما الآن فراتب الموظفين الرسميين لا يكفيهم لثلاثة أيام فقط".
ما تعانيه ابنة فاطمة ينسحب عل غالبية الشباب السوداني. حيث الوظائف المعروضة قليلة، والرواتب المقدمة زهيدة، في مقابل تضخم كبير يطال كافة أسعار السلع والخدمات.

الهوة الاجتماعية
فبحسب الخبير الاقتصادي كمال كرار تعدت نسبة الفقراء ممن لا يتجاوز دخلهم اليومي دولاراً واحداً، أكثر من 90% من السودانيين. أما نسبة وفيات الأطفال تحت الخامسة من عمرهم، تقدر بـ 38 حالة من أصل ألف حالة ولادة. كما ارتفعت الوفيات لدى الفئة العمرية من 15 إلى 60 عاماً، لتصل إلى 276 حالة وفاة بين كل ألف حالة وفاة.
ويقول الخبير الاقتصادي ونائب رئيس اللجنة الاقتصادية في البرلمان السوداني السابق بابكر محمد توم لـ "العربي الجديد" إن الطبقة الوسطى في المجتمع السوداني ذابت تماماً، بسبب التحولات الاقتصادية الكبيرة التي أصابت البلاد. ويلفت إلى أن القطاع الخاص دخل منظومة الاقتصاد، وبرغم ذلك لا تزال تأثيراته ضئيلة، بسبب سيطرة القطاع العام على الاقتصاد.
ويوضح توم "لم يستطع القطاع الخاص أن يخلق عمالة كبيرة في السوق السودانية، إذ إن أقل من 10% من العمالة فقط موجودة في المصانع الخاصة، وما زالت نسب البطالة كبيرة وأيضا معدلات الهجرة".
ويتابع: "تخطى الفقر حدود الريف، فهناك استفحلت النسب لتصل إلى مستويات قياسية، وفاضت أعداد الفقراء لتصبح في العاصمة السودانية، التي تعتبر مركز الأعمال". ويضيف "مثلاً، كان أجر الموظف الحكومي يكفي احتياجاته لكن الآن يمكن أن نضع وكيل الوزارة ضمن فئة الفقراء، بسبب تضاءل الأجور وارتفاع الأسعار بشكل جنوني".
ويؤكد توم أن "القطاع الخاص تأخر في الدخول من ضمن عجلة الاقتصاد السوداني، كما لا تزال الفجوة كبيرة بين العرض والطلب في سوق العمل. وهذا يتصل بالاستثمار وما يعوقه من بيروقراطية وعوائق أخرى، إلى جانب غياب الرؤية الواضحة للاستثمار المحلي والأجنبي الذي يتركز في أشياء ليست ذات جدوى".
ويتابع "تركز الاستثمارات على المطاعم وصناعة الستائر ومصانع البسكويت والاستثمار البسيط، وهذه الأعمال لا تشغل الكثير من اليد العاملة، ولا تخلق مجتمعاً منتجاً. إذ إن الاستثمار يفترض أن يكون مدروساً وأن تكون أولوياته واضحة في بلد فقير كالسودان". ويضيف توم "لا بد من بناء استراتيجية استثمارية تقوم على تنمية الريف عبر دعم الزراعة، إضافة إلى خلق الاستثمارات الصناعية الكبيرة، ولا بد أن يتم الوصول إلى مرحلة التوزيع العادل للدخل". ويؤكد توم أن "الأغنياء في السودان لا يمثلون نسبا كبيرة في المجتمع السوداني إذ إن نسبتهم لا تتعدى 0.1% من التعداد السكاني".

اختلال التوازن
أما الخبير الاقتصادي محمد صالح الصافي فيقول لـ "العربي الجديد " إنه "في السودان الآن توجد فئة قليلة من النافذين تحتكر المال والثروة، وفئة أخرى تمثل غالبية المجتمع السوداني، فقيرة جداً". ويوضح "أنه حتى تلك الفئة التي تمتلك المال عادة ما تعمد إلى اكتنازه وتجميده، عبر تحويله إلى عملات صعبة أو شراء عقارات دون أن تضخه في دورة الإنتاج".
ويلفت الصافي إلى أن "الثروة في السودان تعاني من التركّز، ولا يفيد منها إلا أصحابها، خصوصاً أن القطاع الخاص جبان وغير مغامر، في حين أن المؤشرات الاستثمارية في البلد تحتاج إلى ضخ الأموال لكي تتحرك صعوداً.
ويضيف الصافي أن "الفروقات الاجتماعية تتسع عاماً بعد عام، لا بل إن التضخم حوّل متوسطي الدخل إلى فقراء، ما أسهم في زيادة اختلال الميزان الاجتماعي". ويؤكد أن "هذا الاختلال سيستمر في حال الإبقاء على الإدارة نفسها للناتج القومي مع غياب ترتيب الأولويات الاقتصادية والاجتماعية".

المساهمون