تحوّلات القضية الفلسطينية في الوعي المصري

تحوّلات القضية الفلسطينية في الوعي المصري

02 مايو 2016
مظاهرة لفلسطين في القاهرة، أكتوبر 2015 (تصوير: فايد الجزيري)
+ الخط -

أنتمي إلى جيل من المصريين تربى على أن القضية الفلسطينية جزء أصيل من الكفاح العربي ضد قوى الهيمنة والاستعمار، وأن انتصارها يعني انتصار الأمة على خصومها التاريخيين.

كنا في المرحلة الابتدائية نتغنّى بأمجاد العرب والمصريين الذين قهروا العدو الإسرائيلي في حرب السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1973، وكنا نردد في فناء المدرسة صباح كل يوم الأبيات الشهيرة "دع سمائي...فسمائي محرقة، دع قنالي.. فقنالي مُغرِقة، واحذر الأرض فأرضي صاعقة...هذه أرضي أنا وأبي ضحّي هنا، وأبي قال لنا، مزقوا أعداءنا".

كبرنا وكبرت معنا القضية الفلسطينية وازدادت حلقاتها تعقيداً مع تداخل المحلي بالإقليمي والدولي، فانطلقت الانتفاضة الأولى، أو "انتفاضة الحجارة" كما يسمّونها، أواخر الثمانينيات، فعاد الأمل إلينا في أن القضية لا تزال حيّة في نفوس الشباب الذين أشعلوا الأرض بحجارتهم، وأعلنوا التمرد على الاحتلال وسياساته وقيوده. إلى أن جاءت "أوسلو" واتفاقاتها البائسة كي تُخمد المقاومة إلى حين.

أتذكر جيداً أوائل التسعينيات، وكنت وقتها في عامي الثاني بالجامعة، حين رأيت الراحل ياسر عرفات وهو يصافح رئيس وزراء إسرائيل إسحق رابين، وبينهما الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، بعد توقيع اتفاقيات السلام، فقلت لوالدي، رحمه الله، "اليوم ماتت القضية الفلسطينية يا أبي".

كان تعبيراً عفوياً سببه صدمة المصافحة بين عرفات، الذي كان بالنسبة لنا رمزاً فلسطينيا مقاوماً أو على الأقل "آخر الرجال المقاومين"، بعد سقوط السادات ومبارك في فخ التطبيع "المجاني" مع إسرائيل، وأحد مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين خططوا لترحيل وطرد الفلسطينيين قبل إعلان قيام إسرائيل عام 1948 وقائد الهجوم على مدينتي اللد والرملة الفلسطينيتين في العام نفسه.


السلام الوهمي
كنا ندرك جيداً أن السلام الوهمي، الذي حاول أبو عمار والإسرائيليون والأميركيون ومعهم بعض القادة العرب تسويقه، لن يأتي بخير سواء للفلسطينيين أو للأمة العربية.

ولم يكن الأمر مجرد رفض للسلام كمبدأ، وإنما عدم ثقة تصل إلى درجة اليقين في عدم جدية الإسرائيليين ووعودهم، وكيف لا وهم الذين نهبوا الأرض وزوّروا التاريخ واقتلعوا البشر من أوطانهم واحتلوا أراضيهم وعاثوا فيها فساداً.

كان عقد التسعينيات هو عقد "تبريد" القضية الفلسطينية وتعويمها ووضعها في "ثلاجة الموتى" قبل أن يتم تشييعها ودفنها لاحقاً. ولكن جاءت الانتفاضة الثانية (أو انتفاضة الأقصى) مع بداية الألفية الجديدة فأعطتنا بعضاً من الأمل في وجود من لا يزالون يقاومون الاحتلال، ويسمّونه باسمه، رافضين منطق الركون والخضوع الذي فرضته مسرحية السلام طيلة عقد التسعينيات.

اشتعلت جامعات مصر ومدراسها وقتها بالمظاهرات، وكنت وقتها أعمل في جامعة القاهرة، فلم أتمالك نفسي فوجدتني وسط مظاهرة تتجه صوب "قبة" الجامعة وميدانها الرئيسي قبل أن تشتبك مع قوات الأمن المصري التي أغلقت الأبواب ورفضت خروج المتظاهرين إلى الشارع. وتم إطلاق الغازات المسيّلة للدموع، فانطلق الشباب إلى أسوار الجامعة وفتحوا بابها لكي يخرج طوفان من البشر الغاضبين إلى شوارع القاهرة، وهم يحملون علم فلسطين عالياً وينددون بقمع سلطات الاحتلال الإسرائيلي للانتفاضة.

استمرت الانتفاضة الثانية لأعوام، قبل أن تفقد زخمها بسبب التطورات الإقليمية اللاحقة، وأهمها الغزو الأميركي للعراق في آذار/ مارس 2003، فضلاً عن الانشغال بالهم الداخلي وارتفاع نبرة الانتقاد لنظام مبارك السلطوي وزيادة الضغوط الداخلية والخارجية عليه.

وهو ما ترافق مع الفوز الكبير المفاجئ لجماعة الإخوان المسلمين في انتخابات 2005 حين حصلت الجماعة، لأول مرة في تاريخها، على نحو 20 في المائة من مقاعد البرلمان. وقد لحقه فوز حركة حماس بانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وبداية تشكيلها للحكومة الفلسطينية لأول مرة في حياتها أيضاً.


تهديدات أبو الغيط
حينئذ بدأ النظام المصري يشعر بالقلق، وربما التهديد، بعد الفوز الكبير للإسلاميين داخلياً وخارجياً. فكان لابد من أن يقوم بعملية "فرملة" ووقف للتأييد الشعبي للقضية الفلسطينية، مستغلاً في ذلك الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس بعد سيطرة الأخيرة على قطاع غزة عام 2007.

بدأ الإعلام الرسمي، للمرة الأولى ربما، يتعاطى مع القضية الفلسطينية بمنطق التحيّز لصالح طرف على حساب الآخر. بل وشارك، بشكل مباشر أو غير مباشر، في الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة. وجاء وقت هدّد فيه وزير الخارجية المصري (أحمد أبو الغيط آنذاك) الفلسطينيين "بقطع أرجلهم لو اجتازوا معبر رفح".

لام الفلسطينيين على محاولاتهم التخلص من الحصار الإسرائيلي، ولم يجرؤ على لوم الاحتلال الذي يفرض حصاره على الفلسطينيين. بالتوازي، شن رجال مبارك وابنه جمال، المنتشرون في الإعلامين العام والخاص، حملة تشويه وتخويف من المقاومة الفلسطينية.

وحينئذ عادت للسطح النغمة السخيفة التي تقلل من شأن القضية الفلسطينية باعتبارها "لا تخصنا"، بل وعاد الطعن في أحقية الفلسطينيين في الفعل المقاوم ضد الاحتلال وترويج المقولة البائسة "إن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود".

وانتقل الخطاب الرسمي من محاولة "تمثيل" لعب دور محايد في الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني إلى الانحياز الكامل لطرف مقابل طرف، ومعه انقسم الشارع أيضا إلى مؤيد ومعارض للقضية الفلسطينية. ورغم ذلك ظل مبارك يمسك بالورقة الفلسطينية كأداة ابتزاز داخلي وخارجي هدفها دعم نظامه والحفاظ على "شعرة معاوية" مع المقاومة التي أُحيل ملفها بالكامل إلى جهاز المخابرات العامة لكي يديره بالتنسيق مع الإسرائيليين.


عبء أمني واستراتيجي
قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير، وظن كثيرون أنها بداية تصحيح الوعي بالقضية الفلسطينية ومركزيتها، ولكن انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 أجهض ذلك. حينئذ تحولت القضية الفلسطينية إلى عبء أمني واستراتيجي، وبدأت النخبة المصرية في ترويج وتثبيت صورة ذهنية جديدة لدى المصريين مفادها بأن إسرائيل ليست العدو وإنما "المقاومة الفلسطينية".

وكان أول اختبار عملي لهذه الصورة الجديدة ما حدث إبان الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في صيف 2014 والتي بدا فيها الانحياز المصري الرسمي صارخاً للجانب الإسرائيلي من خلال عدم قبوله بوقف إطلاق النار أو تسهيله، في موقف أثار حيرة الإسرائيليين أنفسهم.

لذا لم يكن غريباً أن تحتفي الصحافة الإسرائيلية بالجنرال عبد الفتاح السيسي، وأن يعتبره الحاخامات "هبة الرب" التي أرسلها لمساعدة بني إسرائيل. بل وصل الحال ببعض إعلاميي النظام أن يطالبوا بقصف قطاع غزة تحت يافطة "الحرب على الإرهاب".

ولم يعد غريباً أن تجد أصواتاً، كانت محسوبة يوماً على التيارين الناصري والقومي، تطعن في المقاومة الفلسطينية وتشكك فيها. بل وخرجت أصوات أخرى تطالب صراحة من ودون خجل بالتطبيع مع إسرائيل وقطع العلاقة مع الفلسطينيين.

كان ثمن تمرير الانقلاب هو أن تتنازل مصر عن "الورقة" الفلسطينية، ليس فقط كجزء من ثوابت السياسة الخارجية المصرية، وإنما أيضا كإحدى أدوات المناورة في المحيطين الإقليمي والدولي. وهو ما ترتب عليه تحوّل جذري في ثوابت هذه السياسة التي أعادت تعريف منظومة الأعداء والأصدقاء.

لقد اختار النظام الحالي أن يربط مصيره بمصير إسرائيل، وأن يقدم لها من التنازلات ما يجعلها دائماً راضية ومطمئنة، ولو جاء ذلك على حساب الفلسطينيين وحقوقهم. ولا تزال الماكينة الإعلامية لهذا النظام تزيّف الوعي بأنَّ المشكلة ليست في الاحتلال الإسرائيلي ولا في جرائمه، وإنما في الفلسطينيين وفي المقاومة ومنطقها.

ولن نستغرب، والحال كهذه، أن يأتي يوم يصبح فيه مجرد الحديث عن فلسطين جريمة يُعاقب عليها القانون.


(كاتب مصري/ أميركا)