حرب "إسرائيل" ضد أهل النقب

حرب "إسرائيل" ضد أهل النقب

27 مارس 2016
(قرية العراقيب في النقب الفلسطيني، تصوير: رنا بشارة)
+ الخط -

بعد أربعين عاماً على إضراب يوم الأرض الشهير الذي أعلنه فلسطينيو أراضي 48، في 30 آذار (مارس) 1976، لا تزال قضية الأرض حاضرة بقوة الآن، العام 2016، ويدور صراع حولها بين أصحابها الفلسطينيين والسلطات الإسرائيلية.

وبعد مصادرة الغالبية العظمى من أراضي الفلسطينيين في الجليل والمثلث، فإن قضية الأرض تتركز الآن في منطقة النقب. بعد 28 عاماً من النكبة اندلع "يوم الأرض" في أعقاب حملة واسعة نفذتها السلطات الإسرائيلية، صادرت خلالها الغالبية الساحقة من أراضي الفلسطينيين، وكانت هذه أراضي زراعية واحتياطي أراضٍ من شأنها أن تخدم الزيادة السكانية بين الفلسطينيين.

وصودرت هذه الأراضي الواسعة لصالح إقامة مستوطنات يهودية، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وأكبرها مدينتا "نتسيرت عيليت" قرب الناصرة و"كرمئيل" في منطقة الشاغور.

كما أقيمت بلدات استيطانية صغيرة في قمم الجبال وأطلق عليها اسم "المناطر"، كونها مطلة على القرى العربية. وكان يهدف هذا المشروع إلى تهويد الجليل، أي أن يكون عدد السكان اليهود أكثر من العرب، وهذا الهدف لم يتحقق حتى يومنا هذا.

لكن مشروع "تهويد النقب"، خلافاً لمشروع "تهويد الجليل"، مرتبط، بحسب كافة المخططات الحكومية الإسرائيلية والمؤسسات الصهيونية، مثل "كيرن كييمت ليسرائيل" (الصندوق الدائم لإسرائيل)، ليس بمصادرة الأرض فقط، وإنما بترحيل أصحابها الفلسطينيين البدو عنها وتجميعهم في بلدات أيضاً.

وفي موازاة هذه المخططات، صادقت الحكومة الإسرائيلية في السنوات الماضية على مخططات لإقامة بلدات يهودية و"مزارع لأفراد" في أراضي بدو النقب، بعد هدمها وترحيل سكانها.

وأراضي بدو النقب التي تريد السلطات الإسرائيلية مصادرتها، هي الأراضي التي تتواجد فيها 38 قرية بدوية ترفض السلطات الاعتراف بها، برغم أنها قائمة قبل تأسيس إسرائيل، ويسكنها أكثر من 90 ألفاً من بدو النقب.

ولذلك، فإن هذه القرى غير المعترف بها تفتقر لكافة الخدمات التي يتعين على الدولة أن تقدمها إلى مواطنيها، مثل ربطها بشبكات الماء والكهرباء والشوارع وإقامة مؤسسات تعليمية وعيادات طبية وما إلى ذلك. وإضافة إلى الأراضي المقامة فيها القرى غير المعترف بها، هناك أراض يزرعها البدو وأخرى تستخدم لرعي مواشيهم. وتقدر مساحة أراضي بدو النقب التي تسعى السلطات الإسرائيلية إلى مصادرتها بحوالى 800 ألف دونم.

خرافة النقب.. قاحل يجب إحياؤه
أشار الخبير الجغرافي المتخصص في شؤون النقب، الدكتور ثابت أبو راس، إلى أنه "طالما اعتبرت الدولة البدوَ عائقًا أمام تطوّر النقّب. وقد اتّخذت الحكومة الإسرائيلية، في السنوات الأخيرة، إجراءات واسعة النطاق ومدمّرة ضدّ البدو الذين يعيشون في القرى المعترف بها وغير المعترف بها في النقب، على حدّ سواء. وتشمل هذه الخطوات رشّ الحقول الزراعيّة بالمبيدات لإتلاف المحاصيل، اقتلاع الأشجار، مصادرة المواشي، تدمير البيوت وجعل تطبيق قوانين التخطيط والبناء في المنطقة أكثر صرامةً" (الموقع الالكتروني لمركز عدالة).

وتطبق السلطات الإسرائيلية في النقب الادعاء الصهيوني العنصري بأن فلسطين هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وفي هذا السياق كتب أبو راس أنه "يتمّ النظر إلى الصحراء كمكان قاحل يجب إعادة إحيائه وجعله مزهرًا. لقد تمّ النظر إلى البدو على أنهم جزء من الطبيعة، مجموعة من الرحَّل الذين لا صلة لهم بالأرض.

في المقابل، نظر البدو إلى أنفسهم كسكّان الصحراء ومالكي الأراضي فيها". وأضاف "حقيقة أنّ حكومات إسرائيل لم تعترف أبدًا بحقّ البدو في أراضيهم تجعل من البدو مجرمين أو منتهكين للقانون في نظر السكّان اليهود.

وفي ظلّ غياب إثبات قانونيّ واضح من قبيل سجلات تسجيل الأراضي، فإنّ المحاكم الإسرائيليّة تتبنّى الرأي الشّعبيّ من خلال فهم البدو بأنّهم رحّل، لا أرض لهم ولا جذور".

ولفت أبو راس إلى الوضعية القانونية المتوارثة منذ مئات السنين لأراضي بدو النقب، والتي تستغلها إسرائيل ضدهم. "كان البدو، حتى إقامة دولة إسرائيل في 1948، بغالبيّتهم، السكّان الوحيدين في النّقب. في العام 1947، عاش أكثر من 90,000 من البدو، أبناء 96 عشيرة مختلفة، على مساحة تمتدّ جنوبًا من كريات جات وأشدود.

ووفقًا لمصادر عديدة، ومن ضمنها المصادر اليهوديّة، فإنّ هؤلاء البدو كانوا يمتلكون نحو مليوني دونم من الأراضي، وهم يحتفظون بها بموجب نظام متّفق عليه وواضح يتعلّق بحقوق الملكيّة. وقد تمّ تقسيم الأراضي وفقًا لاتفاقات عشائرية".

"النقب الميت"
حول قضية ملكية بدو النقب لأراضيهم، صدر في 2012 بحث أكاديمي أعدته المحاضرة في كلية القانون في جامعة حيفا، ساندي كيدار، والمحاضر في قسم الجغرافيا في جامعة بن غوريون في بئر السبع، أورن يفتحئيل.

وكشف هذا البحث عن أن السياسة الإسرائيلية ضد بدو النقب تستند إلى ما يسمى "النقب الميت"، وهو قرار اتخذته الحكومة في سبعينيات القرن الماضي ويعتبر أن أراضي البدو "أراض ميتة" بادعاء أنه لا توجد عليها ملكية شخصية، ولذلك فإنها ملك للدولة.

ووضعت قرار "النقب الميت" لجنة تشكلت في وزارة العدل الإسرائيلية برئاسة المحامية بليئا ألبيك، التي عملت على شرعنة إقامة مستوطنات في الضفة الغربية أيضًا. وصادقت المحكمة العليا الإسرائيلية على قرار "النقب الميت" في 1984.

إلا أن الباحثين أكدا أن هذا القرار يستند إلى "تحليل إسرائيلي مضلل لقوانين الأراضي العثمانية والبريطانية، وإلى وصف انتقائي للجغرافية البشرية للنقب في القرنين التاسع عشر والعشرين". ودعا الباحثان السلطات الإسرائيلية إلى الاعتراف بملكية بدو النقب لأراضيهم، المقامة عليها قراهم "غير المعترف بها" ويستخدمونها لكسب رزقهم.

ويأتي بحث كيدار ويفتحئيل على خلفية مشروع قانون حكومي يهدف إلى "تنظيم الاستيطان البدوي في النقب"، جرى طرحه في أيلول (سبتمبر) 2011، وسعت الحكومة من خلاله إلى "تنفيذ خطوة واسعة لتنظيم الاستيطان، بهدف وضع حلول استيطانية ملائمة للسكان ولظروف الحياة المتطورة في إسرائيل".

ورد الباحثان على أهداف مشروع القانون هذا، وكتبا أن "قرار "النقب الميت" يتجاهل تشريعات وقواعد قانونية إسرائيلية ودولية، تبلورت خلال العقدين الماضيين، وتشمل تعاملًا جديدًا مع كرامة الإنسان وحقوق الملكية ومجموعات سكانية أصلانية".

وجمع يفتحئيل وكيدار وثائق تعود إلى فترة الحكم العثماني والانتداب البريطاني على فلسطين. وأكدا في بحثهما أن الحكم العثماني والانتداب البريطاني، وكذلك اليهود والعرب الذين اشتروا أراضي في منطقة النقب وكذلك البدو الذين كانوا ضالعين في صفقات أراض في تلك الحقبتين "اعتقدوا وتصرفوا وعملوا وفقًا لتفاهمات واسعة النطاق وبموجبها فإن الأراضي المزروعة في النقب أراض بدوية، ولا تسري عليها أنظمة الأراضي الميتة في هذه المنطقة".

وأضاف الباحثان أن قرارات المحاكم الانتدابية تؤكد ما جاء في هذا البحث، الذي بيّن أن أحد الأدلة على ذلك هو شراء يهود أراضي من البدو في النقب، إبان الانتداب البريطاني، وأقيمت فيها كيبوتسات، أي قرى تعاونية يهودية. رغم ذلك فإنه في أعقاب قرار المحكمة العليا في 1984، اعتمدت عشرات القرارات الصادرة عن المحاكم الإسرائيلية على نظام "النقب الميت" من أجل سلب أراضي البدو.

البدو و"الدولة اليهودية"
تستخدم السلطات الإسرائيلية هذا النظام من أجل الاستيلاء على أراضي البدو الفلسطينيين وترحيلهم، ووضع المخططات لتنفيذ ذلك. وأبرز المخططات التي صادقت عليها "الحكومة" في السنوات الأخيرة، هو "مخطط برافر".

لكن "الحكومة قررت قبل أقل من سنتين تجميد هذا المخطط، ومن بين أسباب التجميد كانت المظاهرات، التي تطورت أحيانًا إلى مواجهات مع الشرطة، في المدن والقرى العربية في النقب والجليل والمثلث، احتجاجًا على "مخطط برافر".

ورغم تجميد "مخطط برافر"، إلا أن السلطات الإسرائيلية لم تتوقف عن دفع مخططات أخرى ضد القرى غير المعترف بها، مثل هدم قرية العراقيب للمرة المئة تقريبًا، ويعيد أهلها بناء جزء منها مجددًا بعد كل عملية هدم، أو دفع مخطط هدم قرية أم الحيران وإقامة بلدة يهودية مكانها باسم "حيران".

لماذا تهدم حكومة إسرائيل قرية العراقيب مئة مرة، وكيف تنظر "الحكومة" إلى البدو؟ أجاب على هذا السؤال بنيامين نتنياهو في التصريح التالي الذي أدلى به في تموز العام 2010: "إننا دولة قومية، ومعنى هذا الأمر أن السيادة الشاملة على الدولة هي للشعب اليهودي. ويدور اليوم صراع دولي ضد تعريف إسرائيل بأنها الدولة القومية للشعب اليهودي. وأنا لا أريد إبقاء الوضع على حاله، لأننا نواجه هجومًا ضدنا في هذا الموضوع. ومعنى ذلك أنه قد تكون هناك جهات مختلفة ستطالب بحقوق قومية وحقوق لدولة داخل إسرائيل، في النقب مثلاً، إذا كانت هذه المنطقة من دون أغلبية يهودية. لقد حصل هذا في البلقان وهذا تهديد حقيقي".

وكتب رئيس قسم التاريخ في جامعة تل أبيب، غادي إلغازي، وهو أحد أبرز النشطاء من أجل حقوق بدو النقب ومناهضة هدم قراهم وسلب أراضيهم، أنه "ليست كل دولة تشن حربًا ضد مواطنيها إلى درجة هدم البيوت. لكن عندما يجندون مئات أفراد قوات الأمن، أفراد الشرطة ووحداتها الخاصة، لحملة تبدأ مع بزوغ الفجر، وعندما يستخدمون البلدوزرات من أجل هدم بيوت مواطنين، وعندما يعلنون عنهم أنهم أعداء محتملون ويخرجون من أجل منع الخطر المتخيل بواسطة الهدم والعنف، فإن هذه حرب. إنها حرب عصرية: فالحرب ليست دبابات وحسب، وإنما هي بلدوزرات أيضًا؛ ليست طائرات وحسب، وإنما تصاريح بناء وقرارات لجان. وحكومة إسرائيل، باسم دولة إسرائيل، تشن حربًا متواصلة ضد مواطنيها الذين يتعرضون للتمييز والفقراء والمظلومين. وهي لا تهملهم وحسب، وإنما تنهب وتهدد وتهدم".

وأشار إلغازي، في مقال نشره في 2010، إلى أن مكتب الاستشارات الأميركي "ماكينزي وشركائه" هو الذي وضع المخططات المستقبلية للنقب، وذلك بمبادرة فرع "كيرن كييمت ليسرائيل" في الولايات المتحدة وبرعاية رئيس هذا الفرع، الملياردير اليميني رون لاودر، صديق نتنياهو وداعم حملاته الانتخابية.

وكان الرئيس الإسرائيلي السابق، شمعون بيرس، سعى إلى دفع هذه المخططات بحماس شديد. وتدفع "كيرن كييمت ليسرائيل" مخططات الاستيطان اليهودي في النقب على حساب البدو بالتعاون مع حركة "أور – مهمات وطنية"، التي وضعت لها هدفًا يرمي إلى "تهويد الحيز في النقب والجليل".

بحلول الذكرى السنوية الأربعين ليوم الأرض، لا تزال حرب إسرائيل ضد "مواطنيها" العرب الفلسطينيين متواصلة، من أجل السيطرة على مواردهم، مثلما هي لا تزال متواصلة منذ قرابة خمسين عامًا ضد أشقائهم في الأراضي المحتلة عام 1967، من أجل الاستيلاء على مواردهم من خلال مشروعها الاستيطاني.

وبإعادة حكومات نتنياهو في السنوات السبع الماضية، من خلال ممارساتها هذه وممارسات عدوانية أخرى، الصراع إلى ما قبل العام 1948، ليس غريبًا أن نرى أن فلسطينيي 48 جزء فاعل في الحراك الفلسطيني الراهن.. فإسرائيل تشن حربًا ضد كل ما هو فلسطيني.


(صحافي فلسطيني/ الناصرة)



اقرأ أيضاً: النقب عاد وحيداً

دلالات

المساهمون