ثلاثية الجسد والحجر والسكين

ثلاثية الجسد والحجر والسكين

18 أكتوبر 2015
"فلسطين من البحر إلى النهر"، سامية حلبي (2013)
+ الخط -

للأحداث الجارية حالياً في فلسطين المحتلة، من مواجهات أخذت تعرف باسم "انتفاضة السكاكين"، والتي اعتبرها بعضهم بدايات - مأمولة - لانتفاضة ثالثة، لا بد لفهم تفاصيل المشهد ودلالاته وسيرورته من تأمل ثلاثية الجسد والحجر والسكين، الفلسطينية.

شكلت نكبة 1948 حدثاً مفصلياً في التاريخ والذاكرة الفلسطينية، إذ لم تعرض تلك الكارثة الشعب الفلسطيني إلى قتل مادي فحسب، وإنما إلى قتل اجتماعي وهوياتي كذلك، فنشأ مفهوم "الشتات" (اللجوء فعلياً) نتيجة انتشار الشعب الفلسطيني في أصقاع الأرض، الأمر الذي أدى إلى ما يمكن تسميته بـ"القضاء على الجماعية الفلسطينية" كنتيجة طبيعية للوجود الاستعماري، الذي لا يقوم إلا على نفي الآخر.


الجسد
يعتبر الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم أن النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد يشكل العديد من الممارسات السلوكية ويتحكم بها، ويمتد ذلك حتى في طريقة المرض والموت/الحياة بمرآوية أخرى، المستمدتين من النظام الاجتماعي العام.

وهو ما طورته الدراسات النقدية والاجتماعية والكولونيالية إلى ما يعرف بالنيكروبوليتكس Necropolitics أي قدرة السلطة على منح الحياة و/أو الموت للأجساد، وهي من خواص السلطات الكولونيالية/الاستيطانية. وبذلك تصبح دراسة أنماط الموت السائدة في مجتمع ما مؤشرا على فهم المجتمع نفسه. والسلطة الواقعة على أفراده، وبالتالي مقاومتهم لها.

تقوم السرديّة الوجوديّة الإسرائيليّة التي تأسّس عليها الكيان الاستيطانيّ (في صورته الحداثيّة: "الدولة") على ركيزتين أساسيّتين: الأولى مكانيّة: باعتبار "إسرائيل" كيانًا استيطانيًّا إحلاليًّا، قام على طمس و/أو حذف الفلسطينيّ من مكانه/أرضه، بالمذابح والقتل والتهجير(والذي تطوّر أداتيًّا على يدّ الدولة الحديثة وأدواتها المدينيّة، بنفس المنطق الحاكم) وذلك لهندسة "مكان" يُعدّ تمثيلًا لمقولة "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".

الركيزة الثانية زمانيّة: بأن تقدّم "إسرائيل" نفسها باعتبارها امتدادًا "طبيعيًّا" للنسيج التاريخيّ للمنطقة، وتطوّرا طبيعيّا زمانيّا للمجتمع "اليهوديّ" الذي وُجِد في تلك البقعة المكانيّة– الخالية من الفلسطينيّين- منذ قرون، وأنّها حالة طبيعيّة من التطوّر الاجتماعيّ المدينيّ، له ثقافته التعبيريّة وهويّته المرتبطة بمكانه الجغرافيّ، وبنسيجه الاجتماعيّ إقليميًّا، وليس ثقافاتٍ لمجتمعات مُستجلبة من أماكن مغايرة.

إن هذه الازدواجية تشكّل لب مفهوم النيكروبوليتكس والسيطرة الإسرائيلية على أنماط الموت/الحياة، فالحواجز والمناطق العسكرية، والمواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تقوم على مقاومة الفلسطيني لاستلاب وسيطرة الإسرائيلي على مكانه/وطنه/بيته/أرضه من ناحية، ومن أخرى مقاومته لسلطة الاحتلال بالسيطرة على يومه وحياته من تدرّج يبدأ من اللغة ويصل حد القتل وإنهاء الحياة مباشرة، أي أنها مقاومة لكلا الركيزتين الإسرائيليتين.

في انتفاضة السكاكين، التي لم تكن لتأتي لولا مرور "الجماعية الفلسطينية" بمراحل مختلفة إسرائيليًا وفلسطينيًا من تذرير وتفتيت مكاني وزماني، شكلت أوسلو أبرز مراحلها بجانب السياسات الاحتلالية، يمكن أن نرى أن إفناء الجسد الإسرائيلي من الحيّز المكاني الفلسطيني المحتل، هو مقاومة للاحتلال على الصعيدين الزماني والمكاني، وبالتالي فالفلسطيني يستعيد "جماعيته" التي تفتت إثر الاحتلال والمنفى والتقسيمات والكيانات الحديثة:

"الدولة" الإسرائيلية، و"السلطة" الفلسطينية، وكل امتداد ودعم لتلك المواجهات وحالات الطعن إلى الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 يعد تأكيدًا على تلك الجماعية الفلسطينية، وكسر لخطوط تفتيتها المختلفة، بل إن هذا الدعم والتعاطف، يستغل فرصة التقانة الحديثة وسرعة نقل الصورة في الكشف عن زيف الاحتلال وعمليات الإعدام الميداني التي تنفذها قوات الاحتلال بزعم إن الفلسطيني/ة يوشك على الطعن.

يغدو معنى "الشهادة" بأنها انتزاع السيطرة من النظام الاستعماري على إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني، إذ ينتزع الشهيد السيطرة على موته هو كفرد ليمثل إمكانية الانتزاع الجماعي. هنا الاستشهادي/الفلسطيني الطاعن بالسكين لا يحاول التحكم في إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطينية وحقهم في الحياة فحسب، بل يسعى إلى امتلاك إدارة شؤون الموت الجماعي للمستعمر ونظامه.

وحمل هذا الطور بالأساس تنظيمات إسلامية ورثت كفاح منظمة التحرير، كمؤشر على انتهاء مرحلة العمل الوطني الفلسطيني وصعود العمل الإسلامي كنموذج للعمل المقاوم الفصائلي، والآن باتت المرحلة أكثر تحررًا من الأيديولوجية باتجاه الجماعية الفلسطينية ككل، ولعل هذا ما تؤكده مواقف الأحزاب والفصائل والقوى الفلسطينية في داخل الأراضي المحتلة بشقيها: الضفة الغربية/ والخط الأخضر، وهي مواقف متأخرة على العمل المقاوم.

عملية المواجهة الجسدية (جسد فلسطيني مقابل جسد إسرائيلي) تشبه فكره الكتابة، حيث يعطى جسم ما لفكرة ننسجها عن أنفسنا لنعرف ذاتنا ونفهم/نتخيل كيف يراها/يدركها العالم، وفيها نعيش ومن خلالها نعبر. وبالتالي، وجب للفكرة لدى تعبيرها عن الذات الفلسطينية أن تتلبس جسداً، لتكون. "تشكيل" الذات، وإن كان سردية اعتداء عليها، إلا أنه حماية لها من الاعتداء ثانيةً.



الحجر
مشهد 1: يقع أحمد حامد (طالب الهندسة الأول على دفعته في جامعة بير زيت) في أيدي المستعربين في مواجهات في الضفة الغربية، ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية، ويطوق عنقه أحدهم في حركة قتالية، دافعًا إياه في نصف دائرة على الأرض، ليتكالب عليه بقيتهم، إلى أن صوب أحدهم مسدسه إلى شريان فخذه من مسافة صفر وأطلق النار، أحمد لم يفلت الحجر من يده طوال تلك المعاناة.

مشهد 2: مجموعة من الشباب الفلسطيني يلقي بالحجارة على برج مراقبة إسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة.

في كلا المشهدين لابد لنا أن نتأمل الحجر، فالحجر بحساب الاستراتيجيا العسكرية، لم يمكّن أحمد من مواجهة المستعربين، بل إنه لم يوقف أحدهم إذ أراد أن يشل حركته بإطلاق النار المباشر عليه، كما أن الحجر كذلك إذا سألنا أيا من الشباب أمام برج المراقبة الإسرائيلي إذا ما كان له أن يسقط أو –بلغة الاستراتيجيا العسكرية- يحدث خسائر في البرج، فستكون الإجابة بالنقي القاطع، بل حتى إن الصورة خارج سياقها لا يمكن إلا أن تُضحك العين الرائية، وإلا فلماذا يصر أحمد على التمسك بالحجر، ولماذا يتفق كل هؤلاء على إلقاء الحجارة على البرج؟! وبالذات إذا نظرنا إلى قوة الردع المادي/التعطيل/الإبادة التي يمثلها البرج، وأسلحة المستعربين.

الحجر هنا يحمل قوة رمزية عالية، تكاد تجعله كالكلمة، فالحجر كلمة في ذاته، وإلقاؤه هي عملية كتابة، والكتابة عملية لا بد أن تكون عنفية، وبالذات أن كتابة الشيء تستلزم محو غيره.

بالكتابة، تُعطى الفكرة حيزًا لتتمثل من خلاله، بالكتابة نُعرفُ الذات وتُفهم/يتم تخيلها وكيف يراها/يدركها العالم، ومن خلالها يتم تحديد موقف الذات من الآخر والمحيط والله والوجود.

وتعبر عن منظومة القيم الخاصة بالفرد. وبالتالي، "تشكيل" الذات الفلسطينية ها هنا من خلال الحجارة/الكلمات، وإن كان سردية اعتداء عليها، إلا أنه حماية لها من الاعتداء ثانيةً والإفناء أي هي مقاومة، وهذا تحديدًا ما يفسر "التعديلات القانونية" التي أقرتها "حكومة" الاحتلال بشأن التعامل مع ملقي الحجارة.



السكين
السكين كائن أعزل على الرغم من قوة سلاحه، يغوي برشاقته وإطلالته التي لا تعرف تحيزًا، إلا أنه لا يحمل معنىً في ذاته (على العكس من "الحجر")، وإن تحلى بنظام دقيق حاد يثير الإعجاب.

السكين كما هي الإبرة التي يقول عنها شاعر داغستان رسول حمزاتوف: "الإبرة الواحدة تخيط ثوب العرس والكفن"، فثنائية الحياة والموت تجمعهما الإبرة كما البياض، فليس للإبرة دور صياغة في الحالتين:

الموت والحياة، ولكنها تضع اللمسة الأخيرة على التنفيذ، وتعطيه شكلًا، فلا أيديولوجيا لها؛ كذلك السكين لا تعريف له إلا هو، وبالتالي فهو أداة/سلاح/كائن يعلو على تعريف القانون والعقل، يمنحه حامله المعنى، وبالتالي فحامله هو من يصوغ الحياة والموت، وليس السكين في ذاته، وهنا ينكسر أيضًا استحواذ الإسرائيلي على حق منح الحياة والموت (النيكروبوليتكس).

هنا يتحول الإسرائيلي إلى محاصَر، فما لا يمكنك تعريفه لا يمكنك السيطرة عليه وتملكه، ولكن هذا وإن ضمن للفلسطيني زخمًا رمزيًا، إلا أنه سلاح ذو حدين، فبقدر ما يخيف الصهاينة، ويثير هلع المؤسسة، لخفة حركة المعنى وحامله حينها إلا أنه يفتح على الفلسطينيين بابًا للإعدامات الميدانية.

إن لجوء الفلسطيني، لأداة كالسكين على هذا القدر من الحياد/الموت، واستخدامها في علاقة مواجهة وإفناء/فناء/موت مع جسد آخر، ليست مواجهة جسدية فحسب (كما يكثر القول بأنها مواجهة فردية لا تؤدي إلى شيء) إنما هي أيضًا مواجهة مع بنية كولونيالية مستقرة وثابتة، تمثلها دولة عسكرية يقوم فيها التسليح مقام الهاجس الأول، وتحويل أفرادها جميعًا إلى آلات قتل بشرية (الخدمة العسكرية، والتسليح بين المستوطنين دليل)، وفضاءاتها المدينية إلى فضاءات رقابة وضبط وطمس.

ولجوء الفلسطيني إلى هذا النوع من المواجهة لا يمكن قراءته من خلال نظرة خلوصية يائسة تؤكد كونه الضحية (فلست مهزومًا ما دمت تقاوم)، بقدر ما هي حالة وجود واستعادة للجماعية والذاتية الفلسطينية المفقودة ضد كل نماذج التذرير والطمس الفلسطينية (من خلال النسيج الفصائلي والمؤسساتي والحزبي والاتفاقاتي) وكذلك نماذج الاحتلال الإسرائيلي (المباشرة بالردع بالسلاح، أو الحداثي من خلال بنية القوانين الإسرائيلية) من خلال عنصرين هامين حاربتهما المنظومة الكولونيالية وهما الجسد والحجر.


(باحث فلسطيني/ عمّان)


اقرأ أيضاً: زمن محمّد بوديّة