أصوات المقاومة الشعبية في العراق

أصوات المقاومة الشعبية في العراق

11 اغسطس 2015
الكاتب علي عيسى
+ الخط -
"رغم الصعوبات: أصوات المقاومة الشعبية في العراق"، هو عنوان كتاب العراقي ـ الأميركي علي عيسى الصادر حديثاً باللغة الإنجليزية. يقوم الكتاب على مجموعة من المقابلات مع نشطاء وقادة مدنيين عراقيين ما زال يعيش أغلبهم في العراق، من دون أن يغفل بالطبع تذكير القارئ بالأحداث التي شهدها العراق على مستوى إضرابات العمال والاحتجاجات والانتصارات الصغيرة، كما الانتكاسات التي حلّت بتلك الانتفاضات والتحركات في العقدين الأخيرين. ويسبر إصرار هؤلاء على البدء من جديد بعد كل هذا الدمار. يغطي الكتاب عمل نقابيين ونشطاء وفنانين في مجالات عدّة، من بينها حقوق المرأة ونقابات العمال والبيئة وغيرها.

تاريخ آخر
قدّم للكتاب، المؤرخ والصحافي والأكاديمي الهندي المعروف والمقيم في الولايات المتحدة، فيجاي براشاد. مركزًا على أهمية الكتاب في جمع وتوثيق أصوات عراقية فاعلة على الأرض، قلّما نقرأ أو نسمع عن عملها أو عن المنظمات التي تنشط فيها في الإعلام السائد. وأشار براشاد إلى أهمية الحركات المدنية والحراك الشعبي في العراق من أجل إنقاذه من ركام الدكتاتورية والاحتلال والطائفية والارهاب التي يعيشها في العقود الأخيرة: "كان من الممكن أن يكتب للعراق تاريخ آخر، ولعلّ هذا سيحدث، حيث ما زالت القاعدة الاجتماعية للحراك الشعبي من أجل إنقاذ العراق فاعلة، حتى وإن كانت في الظلّ. إنها القوّة الوحيدة التي يمكنها أن تقدّم بديلاً لتاريخ العراق الدموي الذي أمامنا، عش الدمار وسماء الموت".

للكتابة رسالة تقول إن العراق ما زال يريد الحياة إنْ استطاع إليها سبيلًا. هذا ما عبّر عنه المؤلّف علي عيسى في لقاء مع "العربي الجديد". وفي سؤال حول الظروف والفترة الزمنية والأسباب التي دفعته لإجراء هذه المقابلات، أجاب قائلًا: "تعرّفت للمرّة الأولى عام 2009 إلى مجموعة من النقابيين العراقيين أتوا إلى نيويورك وعملت معهم كمترجم. وبدأت أتعرف أكثر إليهم وإلى عملهم، وبقيت على اتصال بهم بعد عودتهم إلى العراق. وعن طريقهم تعرفت إلى آخرين ودخلت إلى عوالم تغيب عن نشرات الأخبار والصحافة الرئيسة. وتعرفت إلى صحفهم المحلية ومنشوراتهم، وقمت بترجمة بعضها إلى الإنجليزية ونشره".

مشهد سوداوي
أمّا عن الأسباب التي دفعته لجمع المقابلات في كتاب وإضافة مواد أخرى إليها، فيقول: "إن النظرة إلى الوضع الراهن في العراق سوداوية للغاية، وخاصّة بعد دخول "داعش" على المشهد وبقوّة، ولا أريد أن أرسم صورة وردية هنا، فالصورة كانت سوداء وأصبحت أكثر قتامة من دون شك، ولكن هذه المقابلات تظهر عمل نشطاء وأعضاء نقابات في مجالات عدّة وتحقيقهم لانتصارات تبعث على الأمل، حتى لو كان هذا الأمل ضئيلًا". إذًا، هو نوع من التحية يقدّمها الكاتب لكلّ هؤلاء الذي يعملون في العراق ولا تحتل أخبارهم الصفحات الأولى للجرائد، حيث يسبقهم الموت والقتل إليها.

ويعطي الكاتب مثالًا هو قانون النفط الذي حاولت الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي سنّه عام 2007. ويشير إلى أن القانون لم يرمِ إلى خصخصة النفط العراقي فقط، بل توفير عقود للشركات الأميركية النفطية تفوق مدتها ثلاثين عاماً. إلا أن النقابات، وبرئاسة حسن جمعة، تمكّنت من الحيلولة دون تمرير القانون في البرلمان. ويجري الكاتب في هذا السياق مقابلة مع الكاتب والصحافي الاستقصائي جريج موتيت، الذي كان قد أصدر كتاباً حول الموضوع عام 2012، وصدر بالإنجليزية تحت عنوان "الوقود على النار: النفط والسياسة في العراق المحتل". ولا ينكر عيسى أن تلك الشركات تمكّنت من الحصول على ما تريد من عقود، لكنه يؤكد أن ذلك تمّ من دون تغطية "قانونية"، ما يفتح الباب أمام إمكانية إلغائها أو تغييرها عندما يصحّ الأمر في البلاد.

ولم يخلُ الكتاب من وقفة عند تجربة مغترب عراقي، وهو أحمد حبيب، مؤسّس موقع "شاكو ماكو". ويبرر عيسى ضمّ هذه المقابلة الوحيدة مع عراقي مغترب ضمن المقابلات: "يحاول هذا الموقع مدّ الجسور بين جيل من الشباب العراقي، بعضه لم يزر العراق قط في حياته، وبين آخرين تهجّروا بسبب الدكتاتوية والغزو الذي جاء بعدها وما حلّ بالعراق من مآسٍ. ويؤكد أن اسم العراق أصبح بالنسبة للكثير من العراقيين وغير العراقيين، مرادفًا للدمار وانعدام الأمل.

ويبدو أن تجربة الكاتب الشخصيّة أدّت دورًا في إبراز فكرة الكتاب الرئيسة التي تقول رغم كل شيء إن العراق لم ينتهِ. يكتب عيسى: "لماذا أعلّم ابني اللغة العربية، يا علي؟ العراق انتهى!"، هذا ما قاله لي عام 2013، صديق عراقي يعيش الآن في الولايات المتحدة، ولم أعرف ماذا أقول له. وعلى الرغم من أن العلاقة مع العراق يمكن أن تختلف في تفاصيلها والتعبير عنها ـ فقد تأتي في سياق زيارات له أو الحديث عنه أو حتى الحديث عن "المنطقة" ككلّ وما تمرّ به من أحداث ـ إلا أن عدداً ليس بقليل من عراقيي المهجر يبوح بهذا النوع من المشاعر تجاه العراق وما حلّ به.

وفي فقرة مقتطفة من المقابلة مع حبيب، نجد جوابًا أوضح: "نادراً ما ترى المجتمعات نفسها بأنها مُدمّرة. هناك إدراك هائل للدمار المحيط بهم، ولكن مرونة التكيّف هي ما تبقيهم أحياء. الفكرة العامّة أن شعباً أو مجتمعاً كاملاً دُمّر، هي جزء من تجريد ذلك المجتمع من الصفات الإنسانية، وهو ما تفعله الحرب والاحتلال. إن حجم الدمار الذي حلّ بالعراق بسبب قرون من الحروب، والدكتاتورية، والعقوبات والاحتلال، لا يمكن استيعابه. صحيح أن ظروف المعيشة، والخدمات الأساسية والبنية التحتية مدمّرة، وهذا واقع، لكن الإرث الحقيقي الذي يمثّل العراق هو الدافع للعيش والمقاومة".

للمرأة دور
وفي ظلّ تشرذم الكثير من العراقيين تحت كنف الطائفية، يشير عيسى إلى منظمة "حرية المرأة" في العراق وعمل ناشطات نسويات، مثل ينار محمّد، المسؤولة عن منظمة "حرية المرأة"، وجنات الغزي، المسؤولة الإعلامية للمنظمة. ويقف عند تجربة الأخيرة وأهمية عملها، ليس فقط على الصعيد الاجتماعي ومساعدتها في تأسيس حوالى اثني عشر بيت إيواء، فهي تعمل أيضًا في مجالات مختلفة من أهمّها: مكافحة العنف وقتل النساء، وإقامة برامج توعية وغيرها من النشاطات. ويؤكد على أهمية وعي وربط المنظمة للتحرر الاجتماعي بالسياسي ومحاربة الطائفية وكذلك وعيها الطبقي، وذلك بسبب ارتباطها بالحزب الشيوعي، إضافة إلى كونها خرجت من بلدٍ له تاريخ عريق في النضال النسائي حتّى لو شهد انتكاسات كثيرة.

ما هو مدى تأثير هذه المؤسسات والجمعيات والنقابات في الحيّز العام وعلى مجريات الأمور في العراق؟ خاصّة أنها خارجة في الغالب من أشخاص وتيارات يسارية تبدو وكأنها تقاتل طواحين الهواء. وعن هذا يقول علي عيسى: "لا أريد أن يبدو حديثي هنا وكأن وجود هذه المنظمات والأشخاص بحدّ ذاته إنجاز، حتّى لو كان هذا صحيحاً. لكن أدرك جيدًا أن تقدّمها والنتائج التي تحقّقها تبقى متواضعة مقارنة بالدمار الذي حولها. لكنهم يعطون الأمل حتّى ولو لبضعة آلاف. لكن المثير واللافت أن الدولة العراقية والتيارات المتعصبة تحاربهم بكل قوتها. فعلى سبيل المثال أغلقت إذاعة "مساواة" التي كانت تشرف عليها منظمة "حرية المرأة"، وكانت المنظمة قد وقفت وبشكل واضح ضد "القانون الجعفري"، الذي يجيز الزواج بالقاصر ابنة 12 عاماً. إذاً، على الرغم من "محدودية" عمل هذه المنظمات والأفراد، فإن التيارات المتعصبة الرسمية وغير الرسمية تحاربها!".

تبقى التجارب، بكل "تواضعها"، جبّارة وأصحابها محكومون بالأمل، ويجب الاحتفاء بها، كما يقول علي عيسى. فالتعريف بها أولًا، ثمّ محاولة دعمها بطرق مختلفة، يمكن أن يؤدّي إلى بناء شيء أوسع. بداية الوعي السياسي لعيسى كانت مع القضية الفلسطينية، واليوم يريد أن يوسّع تلك الدائرة لتشمل الوعي بهموم وآمال العراق. فـ"الأمل آخر ما يموت"، كما يقول المثل الألماني، وهو ما يحاول الكاتب العراقي أن يحافظ عليه.

وفي النهاية، يعد كتاب "رغم الصعوبات: أصوات المقاومة الشعبية في العراق"، شهادة حيّة تم جميعها من عشرات التقارير والحركات النسوية العراقية، ومنظمات العمل وقادة حركة الاحتجاج في الفترة من بداية الغزو الأميركي للعراق في 2003 ولغاية انسحاب القوات الأميركية في 2011، وهي تعبير عن أصوات ضد القوى العراقية الحاكمة وتلك التي تساندها إقليمياً وعالمياً. وفي تعبير آخر هي ملامح لحركة شعبية يمكن أن توفر بديلاً لتاريخ الدم الحالي في العراق.

المساهمون