مجتمع المعرفة: الجعجعة والطحين

مجتمع المعرفة: الجعجعة والطحين

15 يونيو 2015
+ الخط -
نما البحث والتحليل حول إنتاج المعرفة والابتكار في المنطقة العربية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وأصبح موضوع البحث أكثر أهمية مع توسع الوعي بأهمية المعرفة في المجتمع.

أفضل الأدبيات في هذا السياق هو كتاب العلم والسيادة: التوقعات والإمكانات في البلدان العربية لأنطوان زحلان. أما أسوأها فهو البيانات العامة حول القدرة التنافسية للاقتصادات العربية، والتي هي تجميع لمؤشرات كثيرة، يرافقه الادعاء بأن البلدان العربية بحاجة إلى دخول اقتصاد المعرفة. هذه المطالبات الواسعة جدا، والمستندة على تقييمات ماكرو-اقتصادية هي نفسها تقوم على مؤشرات فضفاضة تدعي الإمبيريقية، لديها الفهم القليل لديناميّات البحث والابتكار، وترتكز ظاهرياً على نظريات واهية حول التنمية. لكن ومع الأسف، يمكن العثور على مثل هذه البيانات في العديد من التقارير الدولية الأخيرة. وهي تشمل وعداً بالتنمية في حال الانخراط في "معجزة" اقتصاد المعرفة. ومع لهجة أكثر اعتدالاً، يكرر البنك الدولي هذا الوعد المستحيل من خلال نشر تقرير بعنوان "تحويل الاقتصاديات العربية: نحو طريق المعرفة والابتكار".

لقد أرادت الأقطار العربية مبكّراً أن تسمى "مجتمعات المعرفة"، وتَظهَر كل دولة كأنها مسيّرة للحاجة إلى أن تتبنى "اقتصاداً معرفياً"، وقد أصبح بناء الاقتصاد المعرفي هدفاً للسياسات، وبعض الأحيان مناقضاً لهدف تأسيس أنظمة الابتكار والبحث الوطنية. فقد تم تشكيل مفهوم اقتصاد المعرفة للاقتصادات المتقدمة التي تتمتع بشبكات كثيفة للمؤسسات البحثية، وبدرجة عالية من الاستثمار في البحث والتنمية (R&D) في المؤسسات العامة والخاصة، وببنى تحتية قوية معروفة منذ نهضة العصر الرقمي باسم "بنى تحتية للمعرفة". وفي الحقيقة، أنا لا أتفق مع التفسير السوسيولوجي المبني على أساس التنمية الاقتصادية، وأجد من الصعب جداً اعتبار أن دخول "اقتصاد المعرفة" سيعزز في حد ذاته النمو. والواقع أنه قد تم الاهتمام باقتصاد المعلومات، وليس المعرفة، تماماً مثل قياس نمو تبادل المعلومات، وليس نمو المعرفة.

يمكننا أن نلخص كيف تم إسقاط خطاب مجتمع المعرفة على الوطن العربي على النحو التالي: تدق منظمات الأمم المتحدة/البنك الدولي ناقوس الخطر فيما يتعلق بحالة إنتاج المعرفة، مع ترويج منهجية ومؤشرات لا تساعد الوطن العربي على خلق المعرفة التي يمكن أن تكون مفيدة لأوضاعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. يستند هذا المنهج على أربع ركائز لإطار اقتصاد المعرفة: نظام الحوافز الاقتصادية، ونظام الابتكار، ونظام التعليم، ونظام تقنية المعلومات والاتصالات.

ولكن نادراً ما طورت الصناعة في الأقطار العربية صناعات اقتصادات المعرفة الكلاسيكية، مثل إنتاج أو تجميع المكونات الإلكترونية، والتكنولوجيا الحيوية أو صناعة الأدوية. ويذهب علي القادري إلى أبعد من ذلك، واصفا السياسات الاقتصادية العربية بأنها اقتصاديات اللا-صناعة والتجارة التي تذهب بها المعرفة سدى. إذاً، لا تتناسب المؤشرات المستخدمة في مجتمع ما بعد الصناعي مع واقع العديد من البلدان العربية. هناك مثالان يظهران مشاكل منهجية و/أو في جمع البيانات. أخيراً، إن أحد الآثار الرئيسية لخطاب "مجتمع المعرفة" هو شرعنة بعض السياسات، كما كان الحال مع تعزيز مفهوم "الحكم الرشيد" من قبل البنك الدولي عندما كان يستخدم الكلمة التي تسمح له بتجنب استخدام كلمة "ديمقراطية"، باعتبار الكلمة الأخيرة مسيّسة. حتى الآن نحن لا نعرف إذا كان خطاب مجتمع المعرفة هو مجرد قناع من دون تأثير حقيقي أو يمكن أن ينتج منه بعض الآثار غير المقصودة. وفي هذا المجال، يمكن أن نذكر أن في العربية السعودية دشن مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة الملك عبد العزيز سلسلة من الكتب الإلكترونية حول مجتمع المعرفة، حيث سرّنا أن نقرأ في أحد الكتب التي تناولت ضعف مساهمة المرأة السعودية في مجال البحوث تلميحاً للمؤلف عن انتهاك حقوق المرأة في هذا البلد. ومن المبكر جداً الآن أن نرى كيف سوف يستفيد المجتمع من هذا الخطاب، بحيث يؤدي ذلك إلى "إصلاح" المجتمع وإنتاج بحوث قائمة على التفكير النقدي.

(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية - بيروت)

المساهمون