ياسر عرفات... الاغتيال وإخفاء الجريمة

ياسر عرفات... الاغتيال وإخفاء الجريمة

30 نوفمبر 2019
وفاة عرفات شكلت لغزاً غامضاً(سكوت نلسون/Getty)
+ الخط -
خمسة عشر عامًا مرت على رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في ظروف غامضة بعدما ألمّ به مرض عضال لم تستطع في حينه الفرق والكوادر الطبية تشخيصه ومعرفة ماهيته وأسبابه، وقد استطاع المرض وفي مدة قياسية لم تتجاوز الـ30 يومًا القضاء على عرفات وطي سجل حياته الحافل بالأحداث والوقائع، لتعلن السلطة الفلسطينية وبشكل رسمي وفاة الزعيم الفلسطيني في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، في مستشفى بيرسي العسكري بفرنسا.

وفاة عرفات شكلت لغزًا غامضًا ومثلت صدمة كبيرة في الشارع الفلسطيني وأثارت الشكوك حول هذا المرض الغريب الذي لم يمهل أبو عمار إلا أيامًا معدودات قبل أن يجهز عليه، وقد سُجلت ملاحظات وشهادات عدة ممن كانوا حول عرفات في أيامه الأخيرة أن صحة الرئيس كانت تتدهور بشكل متسارع وبطريقة غير منطقية، وتَكوّن لدى الفلسطينيين إجماع كبير على أن الوفاة لم تكن طبيعية البتة وإنما هي اغتيال مخطط له ومدبر في الخفاء لإنهاء حياة الختيار كما كان يطلق عليه الفلسطينيون، وبطبيعة الحال توجهت أصابع الاتهام إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي في تدبير عملية الاغتيال، ولم تَستبعد الكثير من الآراء فرضية تورط بعض المحيطين بالرئيس الراحل في الواقعة، إلا أن قرار السلطة كان سريعًا وحاسمًا في عدم تشريح جثة عرفات والإسراع في تشييع جثمانه، لتُنهي بذلك الجدل الحاصل وتفوت الفرصة على أي محاولة للبحث عن الحقيقة أو تقصي أسباب الوفاة الغامضة واستبيانها، وما زالت ملابسات الوفاة، حتى اللحظة، مجهولة ولم تعلن نتائج لجان التحقيق التي تم تشكيلها من قبل السلطة وغيرها من الجهات الدولية.

الفترة الأخيرة من حياة عرفات لم تكن جيدة ولا هادئة، فقد تعرض لحصار إسرائيلي مطبق في مقر إقامته في المقاطعة في رام الله، بعد اجتياح القوات الإسرائيلية للضفة الغربية في ما عرف بعملية السور الواقي في 2002، دمرت فيها إسرائيل مقرات عرفات وهدمت نواة دولته المأمولة وقصفت وقتلت واعتقلت الكثير من قوات الرئيس وحرسه. وتعرض الرئيس ياسر عرفات في تلك الفترة لكثير من التضييق والضغط، ومُنع من الحركة والاتصال والتواصل مع الخارج ولم يبق حوله إلا عدد قليل من رجاله ومرافقيه، وتحكمت إسرائيل في ظروفه المعيشية التي هبطت إلى مستويات متردية جدًا لا تتناسب مع مكانة الرجل وسنه الكبير ولا تتحقق فيها أدنى درجات الحياة الإنسانية الكريمة، وكان طعامه وشرابه ودواؤه يأتيه من خلال قوات جيش الاحتلال المحاصرة له وتحت إشرافها، وكأن الحكومة الإسرائيلية كانت تريد من ذلك إرسال رسائل لعرفات ولغيره بأن يدها هي العليا وهي الآمر الناهي والمتحكم في حياته وشؤونه الخاصة، وهي إضافة إلى ذلك كانت تسعى لعزل الرئيس عرفات وتهميش تأثيره ومكانته على المستوى الشعبي والرسمي لتصل في النهاية لمرادها وتغتاله اغتيالًا ناعمًا لا دماء فيه ولا صراخ. وقد أطلقت فعلًا تهديدات متكررة تتضمن نيتها قتل عرفات أو نفيه أو أسره، خاصة بعد رفضه التنازل عن الثوابت الفلسطينية، وعلى رأسها القدس، في مفاوضات كامب ديفيد في صيف عام 2000. ونستطيع القول وفقًا للدلائل المتكشفة والحقائق البائنة تباعًا على أثر الوفاة المبهمة الأسباب، إن إسرائيل قد مهدت للتخلص من شخص الرئيس ياسر عرفات، مبتدئة ذلك بتجريمه دوليًا من خلال سَوق الدلائل على أنه هو الذي فجر الانتفاضة الفلسطينية وأنه هو الذي يمول التنظيمات العسكرية الفلسطينية، وأنه يحرض على الإرهاب ويدعمه ويرعاه، وقد حملته في أكثر من واقعة مسؤولية العمليات العسكرية التي نفذتها فصائل فلسطينية ضد أهداف إسرائيلية، واتهمته بأنه مسؤول وبشكل مباشر عن عمليات تهريب السلاح إلى القطاع وتسريبه لأيدي المنظمات الفلسطينية المقاتلة، وأنه أعطى الضوء الأخضر لعناصر السلطة لتشكيل والانخراط في المجموعات الفلسطينية المقاتلة، وهي بذلك ترفع الغطاء الدولي عنه وتسعى للاستفراد به ليلقى المصير الذي تخططه له. وفي حصارها له في المقاطعة، عزلت إسرائيل أبو عمار عن المجتمع الفلسطيني ومنعته من ممارسة دوره في قيادة الشعب الفلسطيني وفصلته عن متابعة الأحداث الجارية في السلطة وأجهزتها الحكومية بشكل طبيعي. وقد عملت إسرائيل قبل اغتيال عرفات وفق خطة ممنهجة لتشويه صورته وربطها بالإرهاب والعنف في وسائل الإعلام المختلفة وجندت لذلك فرقا متخصصة في مختلف المجالات لتنال من شعبية ومكانة عرفات الدولية والمحلية.

لم تكن رغبة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في التخلص من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وليدة أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ولم تبرز فكرة اغتيال عرفات مع عملية السور الواقي، بل هي رغبة قديمة ومتوارثة بين حكومات الاحتلال المتعاقبة، وتنامت مع تنامي الثورة الفلسطينية وتنامي مقدرتها على ردع الاحتلال وتوجيه ضربات موجعة لكيانه. فقد ذكر عرفات في مقابلة مع صحيفة يديعوت أحرونوت في 17 نوفمبر 2003، أن شارون اعترف بأنه حاول قتله 17 مرة في بيروت، وإن كان من الصعب تحديد مدى دقة الرقم، إلا أنه مما لا شك فيه أن عرفات كان فعلًا هدفًا للأجهزة الأمنية الإسرائيلية على مر التاريخ العرفاتي النضالي، خاصة في لبنان وتونس، ومن المؤكد أن أغلب تلك المحاولات إن لم يكن جميعها تحمل خططها بصمة الجنرال الإسرائيلي أرييل شارون، الذي لم يخف رغبته في الخلاص من عرفات وكان يردد دومًا أن "عرفات أصبح ليس ذي صلة"، ويقصد بذلك أنه لم يعد شريكًا للسلام، وقد رحل عرفات أثناء رئاسة شارون للحكومة الإسرائيلية، وهذا يرجح فرضية أنه تم اغتيال عرفات بالسم وأن وفاته لم تكن وفاة عادية، وأن لشارون يد في تدبير عملية القتل والتخطيط لها، خاصة أن علاقتهما معًا لم تكن جيدة وقد كانا نقيضين في كل شيء ولهما أمام بعضهما الكثير من الذكريات في أرض المعارك والمواجهة لم تستطع لقاءات التسوية السلمية محوها.

وقد كشف الصحافي في جريدة معاريف الإسرائيلية دوري دان في كتابه الصادر باللغة الفرنسية بعنوان "أسرار شارون"، عن مكالمة هاتفية تمت بين شارون والرئيس الأميركي جورج بوش الابن في 14 إبريل/ نيسان 2004، ما يوحي بأنه في ذاك اليوم حصل شارون على الضوء الأخضر للتخلص من عرفات، حيث يقول دان في الكتاب إن شارون أبلغ بوش بأنه لا يرى نفسه ملتزمًا بعد اليوم بوعده السابق له في مارس/ آذار 2001 بعدم المساس بعرفات، على خلفية العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية. وأضاف "عندها أجاب بوش أنه من المفضل ربما أن يبقى مصير عرفات بيد الله"، عندئذ سارع شارون إلى الرد "لكن الله يحتاج أحيانًا ليد المساعدة".

وحسب دان "لم يعقب بوش على كلمات شارون هذه، ففهم الصمت رضى". وأشار في كتابه إلى أن الرئيس الأميركي لم يمنح شارون ضوءا أخضر بتصفية عرفات، ولكنه أيضًا لم يمل عليه التزامات وقيودًا جديدة، كما أنه صمت على ملاحظة شارون. وقال إن شارون "سُرّ بذلك وسارع لتبليغ صحافيين إسرائيليين بأنه بات طليقًا في التعامل مع عرفات". وفي السياق ذاته، ذكر دوري تفاصيل حديث دار بينه وبين شارون، جاء فيه "أنا شخصيًا اقترحت على شارون أنه يجب اعتقال عرفات وتقديمه للمحاكمة في القدس مثل أدولف آيخمان، فرد علي بالقول (اطمئن أنا أتعامل مع القضية بطريقتي). بعدها سقط عرفات مريضًا بشكل مفاجئ ونقل إلى باريس وتوفي هناك".

يُحيي الفلسطينيون في كافة أماكن وجودهم كل عام ذكرى رحيل الشهيد القائد ياسر عرفات، ومع كل ذكرى يتساءلون عن قاتل الرئيس وأدواته، إلا أنه وبالرغم من مرور 15 عامًا على اغتيال عرفات لم تظهر الحقيقة ولم يُعلن عن القاتل، في حين أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس كان قد أعلن في تصريحٍ بتاريخ 10 نوفمبر 2016 أنه يعلم من قتل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، لكنه دعا إلى انتظار لجنة التحقيق المكلفة بهذه القضية للكشف عن المتورطين، ليرد عليه القيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان عبر منشور على صفحته الخاصة على فيسبوك "إنه من العار السكوت عن شخص مثل محمود عباس وهو يدعي معرفة منفذي تلك الجريمة الكبرى لكل ذلك الوقت"، مضيفاً: "ينبغي التوقف فوراً عن المتاجرة الرخيصة بقضية عرفات، ولقد آن الأوان لوضع ملف التحقيقات في سياقه القانوني والعملي، بدلاً من التلاعب والتوظيف الرخيص والمغرض الذي يمارسه البعض بصورة موسمية"، فيما صرح اللواء توفيق الطيراوي، رئيس لجنة التحقيق في اغتيال عرفات، في 11 نوفمبر 2019، قائلًا: "نحن نقوم بعمل دائم ودؤوب من أجل الوصول إلى النتائج في ما يخص اغتيال أبو عمار، وسنصل إلى نتيجة ترضي كل أبناء الشعب الفلسطيني"، داعيًا إياهم لعدم الاستعجال كون مثل هذه القضايا تأخذ وقتًا طويلًا، وفي التاريخ ذاته قال عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد "إنه ليس من السهل الوصول إلى التفاصيل الدقيقة بما يخص اغتيال أبو عمار".

تبقى ذكرى رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات محطة لاستذكاره واستعراض تضحياته ومواقفه وإسهاماته الوطنية، وقد تحولت لحدث وطني يَهم الشارع الفلسطيني كله، وإن كانت هناك محاولات من أطراف عدة لاستغلال المناسبة للتسويق لنفسه على أنه حامل إرث الراحل والمحافظ على نهجه، والمحاولة في تحويل الالتفاف الجماهيري والشعبي حول ذكرى الزعيم الراحل لصالحه ولدعم توجهاته ومواقفه، والحقيقة أن دماء الشهيد ياسر عرفات ووقائع رحيله استُغلت بشكل غير مقبول، فليس من المعقول ألا تصل لجان التحقيق لنتيجة واضحة حول ملابسات وظروف الحدث بعد هذه المدة الطويلة من الزمن، ومن المستهجن أن تُخفي عن الشعب الفلسطيني ما توصلت إليه من نتائج إلا إذا كانت هناك مصلحة ما في إخفاء تلك النتائج.