أميركيون بلا مأوى... ارتفاع بدلات الإيجار يزيد أعداد المشرّدين

أميركيون بلا مأوى... ارتفاع بدلات الإيجار يزيد أعداد المشرّدين

12 فبراير 2018
تنقل "منزلها" معها في أكياس سوداء (سبنسر بلات/ Getty)
+ الخط -
أفلام هوليوود تصوّر مشرّدين في شوارع نيويورك وغيرها من المدن الأميركية. الأمر ليس مجرّد لقطات لضرورات سينمائية، ففي الولايات المتحدة الأميركية مئات آلاف الذين لا يجدون مأوى لهم ولعائلاتهم

"لا يمكنك أن تتخيل، حتى في أسوأ كوابيسك، أنّه من الممكن أن تصير خلال شهرَين مشرّداً بعدما كنت صاحب بقالة أرباحها جيّدة، الأمر الذي يمكّنك من تشغيل عمال آخرين لمساعدتك بدوام جزئي. لكنّ جشع أصحاب العقارات قد ينسف مستقبلك بين ليلة وضحاها". هذا ما يقوله رودريغو باسى، هو الذي يسكن اليوم في مقطورته في إحدى مناطق بروكلين بمدينة نيويورك.

ويخبر رودريغو أنّه قبل عام، رفع صاحب المبنى الجديد، حيث بقالته، الإيجار بصورة كبيرة، لدرجة أنّ ما يكسبه لم يعد يسمح له بتسديد إيجار شقته وتكاليف التأمين الصحي وغيرهما من الأساسيات. بالتالي، خسر مصدر رزقه وراحت تتوالى خساراته المادية الأخرى. يضيف: "لا أدري كيف يمكنني الاستمرار. اليوم أتدبّر أمري من خلال العمل في محلات مختلفة. لكنّ ما أكسبه لا يكفي لدفع إيجار استوديو (شقة صغيرة) في نيويورك وأنا لا أعرف أيّ مكان آخر في هذا البلد". ويشير رودريغو إلى أنّه عاش في البداية لمدّة شهرَين عند عدد من أصدقائه، "لكنّ الشقق في نيويورك صغيرة ومن الصعب استضافة شخص لمدة طويلة". أمّا في ملجأ المشرّدين، فلم يتمكّن من البقاء طويلاً "لأنّني لم أشعر بالأمان، كذلك لم يسمحوا لي إلا بجلب حقيبتَين، فضلاً عن تحديد ساعات الدخول والخروج، الأمر الذي يجعل الإنسان يشعر بأنّه مسجون ومقيّد وليس بالغاً وحراً". واليوم، يقصد أحد المراكز المخصصة للمشردين، حيث يُسمح له بالاستحمام وبتناول وجبة طعام ساخنة، لكنّ هذا "لا يساعد على الاستقرار ولا على الحصول على عمل أو بناء علاقات صحية مع آخرين".




خلال عام 2017، سجّل عدد المشرّدين في الولايات المتحدة الأميركية ارتفاعاً بنسبة واحد في المائة بالمقارنة مع عام 2016، ليصل إلى 554 ألف مشرّد بحسب آخر الإحصاءات الصادرة عن المكتب الفدرالي الأميركي للإسكان والتطوير المدني. لكنّ ثمّة جهات تتوقّع أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك. وتلك الأرقام هي لعدد المشرّدين الذين يعيشون بلا مأوى أو في مأوى خاص بالمشرّدين لأكثر من تسعة أشهر، لكنّها لا تشمل بالضرورة عدد الذين يعيشون مع أقارب أو أصدقاء لفترة ما أو حتى في الشارع لأشهر عدّة.

في السياق، قدّرت دراسة صادرة عن جامعة شيكاغو في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أنّ عدد المشرّدين من الأطفال والشباب (13-25 عاماً) في الولايات المتحدة الأميركية الذين هم من دون مرافق يصل إلى 4.2 ملايين طفل وشاب. وأخذت الدراسة بعين الاعتبار أولئك الذين عاشوا لسنة كاملة من دون مأوى ثابت وناموا في الشارع أو في بيوت معارف وأصدقاء أو في ملجأ. إلى ذلك، أشارت الدراسة إلى أنّ الأطفال والشباب الأميركيين من أصول أفريقية معرّضون بنسبة أعلى من غيرهم من الشباب ليصيروا مشّردين، والنسبة هي 83 في المائة. وبيّنت الدراسة نفسها أنّ عيش الأطفال والشباب بلا مأوى يجعلهم عرضة بصورة أكبر للتحرّش والمخدّرات والجريمة ولصعوبات صحية ونفسية، فضلاً عن البطالة والتسرّب الدراسي.




كاليفورنيا على رأس القائمة
تتصدر ولاية كاليفورنيا القائمة لجهة عدد المشرّدين، بحسب الإحصاءات الرسمية الفدرالية. فيعيش فيها أكثر من 134 ألف شخص بلا مأوى، علماً أنّها أغنى ولاية أميركية ويمثّل اقتصادها نحو عشرين في المائة من الاقتصاد الأميركي ويُعَدّ بحجم اقتصاد دول أوروبية كإيطاليا على سبيل المثال. ويواجه المشرّدون مخاطر عدّة في الملاجئ أو عندما يعيشون في الشارع. واضطرارهم إلى العيش في الشارع وتحت الجسور أو في الحقول قد يؤدّي إلى مقتلهم أو تعرّضهم للتحرّش والاعتداءات. يُذكر أنّ المشرّدين في ولاية كاليفورنيا لا يعيشون بغالبيتهم في ملاجئ لإيواء المشرّدين بل في الشارع وتحت الجسور. وهذه الأرقام المخيفة في ولاية تضمّ عشرات الآلاف من الأغنياء أصحاب الملايين والمليارات، إذ هي مركز لشركات التكنولوجيا من قبيل "آبل" و"مايكروسوفت" و"غوغل" وغيرها التي تتّخذ من "سيليكون فالي" مقراً لها.

تؤكّد الباحثة والعاملة الاجتماعية إيفيلين هوشبروك لـ"العربي الجديد" أنّ "جزءاً من الارتفاع في نسبة المشرّدين على الرغم من التحسّن الاقتصادي، يعود إلى الهوّة في الدخل". وتقول في هذا السياق إنّ "مشرّدين كثيرين في نيويورك هم عائلات بكاملها. ومعيلو بعض تلك العائلات الرئيسيون يعملون بدوام كامل، لكنّ أجورهم لا تكفي لسدّ بدلات إيجار البيوت المرتفعة في مدينة يمكن لأيّ ثريّ في العالم أن يقصدها ويشتري فيها شقة ويتركها فارغة معظم أيام السنة". وتشير هوشبروك إلى "مناطق في مانهاتن حيث ثلث الشقق خالية، في حين يتخطّى عدد المشرّدين في مدينة نيويورك بحسب أرقام رسمية 60 ألف شخص. أمّا عدد المشرّدين الذين يعيشون في شوارع نيويورك والذين يفضّلون عدم الذهاب إلى الملاجئ بسبب العنف أو التضييق اللذَين قد يتعرّضون لهما، فيصل إلى نحو أربعة آلاف شخص. ولا يمكن لأيّ زائر لمدينة نيويورك أو مقيم فيها أن يمرّ بشوارعها أو يستقلّ مواصلتها العامة، خصوصاً في مانهاتن وهي من أغنى وأغلى مناطق المدينة الخمس، من دون أن يرى شخصاً مشرّداً وقد نصب خيمة أو استلقى في إحدى الزوايا أو عربات المترو".

تفيد آخر إحصائية رسمية لمنظمة ائتلاف المشرّدين نُشرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، بأنّ أكثر من 63 ألف شخص بلا مأوى موجودون في ملاجئ نيويورك، من بينهم أكثر من 23 ألف طفل لأكثر من 15 ألف عائلة من ضمن العائلات المشرّدة في نيويورك وحدها. وهذه الأرقام لا تضمّ مثلاً العائلات التي تعيش عند أقارب أو معارف. ويشير باحثون إلى أنّ ثمّة أسباباً عدّة قد تؤدّي بالمرء وحتى بعائلات بأكملها إلى التشرّد. ويُعَد ارتفاع بدلات إيجار السكن وغلاء المعيشة من دون أن تقابل ذلك زيادة للأجور من الأسباب وراء ازدياد عدد المشرّدين. وثمّة أسباب أخرى كالمرض النفسي والإدمان وفقدان الرعاية الصحية والبطالة.



استثمار محدود
واللافت أنّ الارتفاع السريع في عدد الأشخاص والعائلات المشرّدة يحدث غالباً في المناطق التي تشهد إقبالاً للسكن، مثل مدينة نيويورك وساكرامنتو وسان دييغو وأوكلاند في كاليفورنيا. فالإقبال الكبير من قبل الأغنياء أو أبناء الطبقات الوسطى يؤدّي إلى ارتفاع تكاليف شراء البيوت أو استئجارها. وبحسب مؤسسة السياسات الاقتصادية، فإنّ الشخص الذي يرغب اليوم في السكن في نيويورك مثلاً، يحتاج إلى تقاضي 27.29 دولاراً أميركياً على أقلّ تقدير في الساعة الواحدة، حتى يتمكّن من الحصول على شقة صغيرة والسكن في المدينة. يُذكر أنّ العامل في مطاعم الوجبات السريعة يتقاضى ثمانية دولارات في الساعة الواحدة وأحياناً أقل من ذلك.




وقد سنّت ولاية نيويورك وكذلك المدينة أخيراً، قوانين تلزم بها مطاعم الوجبات السريعة بدفع الحدّ الأدنى من الأجور الذي يصل إلى نحو 13 دولاراً في الساعة الواحدة، بدءاً من مستهلّ العام الحالي. وعلى الرغم من أنّ هذه الخطوة مهمة جداً، فإنّها لا تتناسب ومستوى غلاء المعيشة. كذلك فإنّ الحكومات المتعاقبة منذ عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، قلصت بصورة حادة برامج المساعدة الصحية والسكنية وغيرها، الأمر الذي أدّى إلى تفاقم الأوضاع. ولا تستثمر الحكومات، محلية أو فدرالية، بما فيه الكفاية في الخدمات التي هي من حقّ الأطفال والعائلات ذات الدخل المحدود أو الفقيرة، بما في ذلك التعليم والعمل والاستثمار في التوسّع في الإسكان منخفض التكلفة. وعلى الرغم من التحسّن الذي سُجّل في عهد الرئيس السابق باراك أوباما في هذا المجال، وإن لم يتناسب ذلك مع حجم المشكلة، فإنّه كان في الاتجاه الصحيح. لكن من المتوقع أن يزداد الوضع سوءاً في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب الذي تبنّى أخيراً قوانين يريد من خلالها إجبار البالغين الذين يحصلون على مساعدات صحية على العمل من أجل تلك المساعدات، في حين أنّ ما يتقاضاه هؤلاء لا يكفيهم لسدّ تكاليف المعيشة البسيطة. ويأتي كلّ هذا في وقت تعطي فيه الحكومة، الفدرالية خصوصاً، الأغنياء تخفيضات ضريبية على السكن وبذلك تنفق ضعفَي ما تنفقه على توفير مساكن لذوي الدخل المحدود.