تغريبة دار السلام والحروب

تغريبة دار السلام والحروب

31 مايو 2016
... وهذا بالطبع ما يرسم معالم الكارثة (فرانس برس)
+ الخط -

يذكر المؤرخون العرب القدامى أن من أسماء بغداد مدينة السلام، أو دار السلام، لكن مدن العراق ومنها عاصمة الرشيد تعيش منذ عقود وكأنها مسكونة بتغريبة حروب لا تنتهي.

نعود نحو فترة قريبة فقط كي نفهم ما يجري الآن. في ثمانينيات القرن الماضي اندلعت الحرب العراقية الإيرانية لثماني سنوات دونما انقطاع. وككل الحروب يرافقها تحركات سكانية تدفع بقسم من الناس نحو الابتعاد عن مسارح القتال الى مناطق آمنة. ما إن توقفت الاعمال العسكرية في العام 1988 حتى عاد قسم من هؤلاء. آخرون رجعوا فوجدوا قراهم ومدنهم مجرد أطلال، فعادوا الى حيث نزحوا. بعدها بفترة قصيرة غزا الرئيس العراقي صدام حسين دولة الكويت، ففر من كان فيها من سكان الى الخارج حيث تابعوا حياة لا تشبه حياة اللجوء، ثم جرى تحريرها في العام 1991 فسقط من سقط من الجيش العراقي وأصيب من أصيب.

رافقت ذلك أيضا عمليات نزوح داخلية واسعة مع فرض أميركا منطقتي حظر طيران في كل من الشمال والجنوب العراقي. أيضا خرج قسم من العراقيين من بلادهم ملتحقين بأولئك الذين غادروها قبلاً هرباً من بطش النظام، وبذلك أضيفت أعداد جديدة الى جموع سابقة. البعض غادر لأسباب سياسية أو اقتصادية أو ... بعد أن فعل الحصار الاقتصادي فعله، وما سمي في حينه النفط مقابل الغذاء والدواء.

الغزو الاميركي لم يقل هولاً عن سابقيه لجهة المضاعفات الكبرى على الناس، خصوصاً بعد أن حلت ادارة بريمر كل مؤسسات الدولة بما فيها الجيش وقوى الأمن الداخلي. لم يقتصر عمل الإدارة الاميركية على ذلك، بل الأخطر من ذلك كله كان العمل على ترسيخ "هندسة " جديدة للعراق وتوازناته على قواعد طوائفية عارية، فكان أن خرجت أعداد إضافية من البلاد متجهة نحو دول قريبة وبعيدة. زاد من الطين بلة المنحى المذهبي والقومي المتداخل للصراع، فمع دمار وتفكيك الجيش العراقي مادياً ومعنوياً نشأت على أنقاضه قوى أهلية جرى إعدادها قبلاً، وحصلت على الرعاية الإيرانية - الأميركية دوماً.

على هذا النحو تضخمت قوة البشمركة والمنظمات العسكرية العراقية الطائفية، شيعية أولا وسنية ثانيا. انفصل البشمركة عن مركز العراق عملياً وبرهنوا أنهم لا يثقون بالنظام سواء أكان شيعياً أو سنياً. وفي المقابل هيمن بعض الشيعة على النظام مستبيحين كل ما صادفوه أمامهم من مؤسسات ومجالات اقتصاد وعيش حتى برز نوع من التغول الذي لم يعرفه العراق طوال تاريخه بما فيه فترة الانتداب البريطاني.

خلافاً لما يتصوره البعض لم تنشأ مليشيا دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام ( داعش) من فراغ. المقدمات الواضحة تقود الى نتائج أوضح، خصوصاً مع انفتاح المسرح العراقي على منوعات العنف اليومية بين الجماعات المكونة له، حتى باتت البلاد مجرد جيوب طائفية إثنية تضيق وتتسع تبعاً لمجريات اليوميات الدموية.

هذا بعض ما حدث وهذا بالطبع ما يرسم معالم الكارثة.

*أستاذ جامعي

المساهمون