ثأر في لبنان.. دماء "تُحلّل" في القرن الحادي والعشرين

ثأر في لبنان.. دماء "تُحلّل" في القرن الحادي والعشرين

30 مايو 2016
ثمّة تخوّف من الأسوأ (الأناضول)
+ الخط -

يعرف كل من درس شيئاً من التاريخ، أنّ الثأر كان واحداً من العادات الراسخة في العصر الجاهلي. كذلك، يعرف أنّ النبيّ محمد عندما توصّل مع مكوّنات المجتمع القبلي من عرب ويهود في المدينة - يثرب - إلى الوثيقة المعروفة باسم "الصحيفة" كان يهدف إلى حصر العمليات الثأرية المتكررة بين العشائر العربية واليهودية على حدّ سواء بالقاتل دون سواه من أفراد العشيرة، فيما أكّد في الوقت نفسه على أهمية فضيلة العفو والديّة في كبح جماح العنف تفادياً لانتشاره وتوسّعه. في ذلك الوقت، لم تكن سلطة النبيّ محمد راسخة الى الحد الذي تستطيع معه ضبط كل عنف المجتمع القبلي العشائري وتفلته. مع ذلك، ثمّة آيات عديدة في النصوص القرآنية تتحدث عن الصفح والمغفرة وثوابهما مقابل حقّ ولاية الدم وما شابه. والمؤرّخون الذين قرأوا الوثيقة - الصحيفة - بعناية، أشاروا إلى التطوّر الذي مثلته في مجتمع المرحلة، خصوصاً في ظل الاضطراب الكبير الذي كان يسود المجتمع بين مكوّنات قبائل المدينة. لكنّ ذلك كله لم يمنع من استمرار المنطق الثأري راسخاً في المجتمعات العربية. حدث ذلك قبل نحو 15 قرناً من اليوم الذي نعيش فيه.

قبل ذلك وبعده، كانت العشيرة تثأر ممن يتجرأ على قتل أحد أفرادها بترصّد القاتل وقتله. وفي حال لم تتمكن منه شخصياً، تترصد أحد أبناء العشيرة وتفتك به. بالتالي، يكون الفرد مسؤولاً عن دفع ثمن قام به سواه مهما كان موقفه، المهمّ أنه ينتمي إلى العشيرة نفسها التي تفترض قرابة دم بين مكوّناتها. بالطبع، عرف العرب قديماً وحديثاً منطق الصلح والديّات لوأد منطق تناسل القتل. ثمّة عشرات النصوص التي تتحدث عن ديّات بمئات الإبل دُفعت لهذه القبيلة وتلك العشيرة لقاء تخلّيها عن حقها في الثأر من القاتل أو عشيرته. وفي العصور الجاهلية، كان المعتقد السائد أنّ القتيل الذي لا يؤخذ بثأره يخرج من قبره طائر يدعى الهامة ويظلّ يصيح: "اسقوني، اسقوني، اسقوني" حتى يُقتل القاتل. عندها، يختفي الطائر بعدما تكون الدماء قد روت أو سقت قبر القتيل. عندها، ترتاح روح القتيل الأول ما دامت حياة القاتل قد أزهقت.

تباعاً، منذ العصر الجاهلي، كما في كل المجتمعات القديمة، بنت الدول الأجهزة والمؤسسات بما تملكه من قوانين وأنظمة سواء أكانت سماوية أو وضعية، وباتت ثمّة قوى أمن وشرطة وقضاء تفصل في المنازعات. قضاء يحتكم إليه الناس في خلافاتهم ولتحصيل حقوقهم، ومعه نشأ أيضاً ما يسمّى الحق العام الذي يعاقب المجرم أو المخالف للقانون على إساءته للحياة والكرامة البشرية، حتى لو تخلى أصحاب الحق عن حقهم. مع هذا الطوّر، باتت العقوبات (أو القصاص) منوطة بالسلطات القضائية والأمنية. أما العائلات وذوو الضحايا، فقد تخلوا عن انتزاع حقوقهم العقابية بأيديهم لصالح السلطات التي لا تستطيع عائلة المعرّض للعقوبة اتهامها أو الاقتصاص منها بطبيعة الحال. هنا، باتت السلطة مترفّعة عن الصراعات وفوق منازعات مكوّنات جماعاتها.

في المدن، أدّى التطوّر السياسي والاقتصادي والقضائي إلى تراجع عادة الثأر هذه حتى الاضمحلال تقريباً. لكن في المناطق البعيدة لا سيّما على الأطراف، حيث تكون سلطة الدولة هشة وبنية المجتمع ما زالت قبلية وعشائرية، فقد استمرت عادة الثأر. بالتالي، باتت القاعدة واضحة وراسخة: كلما قويت الدولة ومدّت سلطانها على مختلف الأجزاء والفئات، تراجعت عملية الانتقام الثأرية. في المقابل، تستمر عادة الأخذ بالثأر في كل المجتمعات التي تملك بنية عائلية وعشائرية وقبائلية. وكلّما تفككت البنية العشائرية، باتت الدولة ومؤسساتها هي المسؤولة عن إحقاق العدالة وردع المجرمين والاقتصاص منهم.



المؤكد أنّ لبنان، كما المنطقة، يمرّ في مرحلة من مراحل تحلل السلطة لصالح سلطات أهلية تسمى أحزاباً في مناطق وطوائف وعشائر في مناطق أخرى، ومعه يتعرض ما تبقى من الأجهزة إلى التكيّف مع مجريات الأمر الواقع. دخل لبنان عامه الثالث من دون رئيس للجمهورية، والحكومة تترنح تحت وطأة صراعات وزرائها، والمجلس النيابي في حال مستدامة من الشلل. هذا كما سواه ينعكس على مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة اللبنانية، من الأمن إلى الاقتصاد، والقضاء، والعلاقات البينية بين الجماعات والطوائف والفئات. بالتالي، بات القانون مجرّد نصوص على ورق، لا تجد من يلتزم بها أو يطبّقها. وقد طغى المجتمع الأهلي - الطائفي على المدني العام، وباتت الأمور مرهونة فقط بقوّة العشيرة وجانبها المرهوب. إذا كانت تلك العشيرة تعدّ الألوف وتملك "جناحاً عسكرياً" أو تتظلل بقوة عسكرية أهلية حزبية، فإنها قادرة على فعل ما تشاء بينما تتولى السلطات ترتيب الإخراج لا أكثر ولا أقل. أما إذا كانت من الأفراد أو الفئات "المستضعفة"، فإنّ القانون يسري عليها وتنال ما تستحقه من عقوبات. بالتأكيد، كلما كبرت العشيرة والعائلة، كلما كانت بنادقها أكثر عدداً، بالتالي تتحاشى الدولة - بما تبقى من هيبة لديها - الاقتراب منها وتطبيق القوانين عليها. اللافت أنّ خلال السنوات الأخيرة، توسّع نطاق العنف، من عنف جماعات أو فئات أو أحزاب أو مهما كان اسمها، ليصل إلى الأفراد في منازلهم. على الرغم من وضع قانون للعنف الأسري أصدره مجلس النواب، إلا أنّ لبنان شهد أكبر نسبة جرائم طالت النساء من قبل أزواجهم أو إخوانهم. هكذا، تعيّشت وسائل الإعلام على تغطية جرائم متسلسلة، هزّت الرأي العام ودفعت بالمنظمات النسوية إلى التظاهر مطالبة بتشديد العقوبات على المجرمين.

حميّة / الحجيري

قبل أقلّ من أسبوع (الثلاثاء 24 مايو/ أيار 2016) قُتل حسين الحجيري. لذلك تداعياته المحتملة، لا بل المرجّحة. ينتمي حسين إلى بلدة عرسال (البقاع اللبناني) وهي بلدة سنيّة في محيط شيعي يزنّرها من كلّ الجهات. حسين غير معنّي بحادثة خطف العسكريين اللبنانيين ومقتل عديد منهم، لا سيّما الجندي محمد حميّة الذي تقيم عائلته في كلّ من طاريا وطليا، على الطريق الذي يربط منطقة بعلبك الهرمل مع زحلة وبالتالي العاصمة بيروت.

تجدر الإشارة إلى أنّ خلال الانتخابات البلدية الأخيرة في المحافظة (8 مايو/ أيار 2016)، وصل وزير الداخلية نهاد المشنوق إلى عرسال ليطّلع على الأجواء، ووصف مجريات اليوم الانتخابي الطويل بأنّه عرس ديمقراطي مؤكداً انتماء عرسال إلى الوطن والمحيط.

بالإجمال، يمكن القول إنّ المنطقة جددت هيئاتها البلدية، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال غياب العشائر والعائلات عن مسرح المنطقة ذات الكثافة الشيعية والحضور السني والمسيحي المتواضع. منذ اندلاع الأحداث في سورية الملاصقة، دخلت المنطقة في "عالم مكهرب" وضعها مراراً وتكراراً على عتبة انفجار، طالما أنّ أحداث سورية ليست أحداثا خارجية، نظراً للتدخل الذي يمارسه حزب الله من جهة والتعاطف الذي يعبّر عنه معارضوه من جهة ثانية.

الواقع أنّ عشرات ألوف النازحين قصدوا المنطقة، وعندما وقعت "معركة القصير" بداعي الدفاع عن النفس بحسب حزب الله، ارتفع منسوب التوتر إلى حدود قصوى. ثمّ، جاءت هيمنة "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش" على محيط عرسال، لتزيد الطين بلّة. الكلام الذي قالته أوساط مقرّبة من الحزب حول عرسال التي باتت قبلة أنظار اللاجئين من مناطق القلمون والقصير وحمص، كان يشي بانفجار قريب. وما يجعل الواقع الذي نعيشه اليوم بالغة الخطورة، هو الاحتقان المتراكم منذ سنوات والذي شهد محطات عدة، إلى جانب طابع التفلّت الأمني الذي تعيشه المنطقة، وهو ما لم تنجح الخطط الأمنية في ضبطه.

صحيح أنّ عمليات خطف الأشخاص ورفض الإفراج عنهم إلا لقاء مبالغ مالية، قد خفّت أو توقفت نسبياً، إلا أنّ ثمّة جماعات ما زالت تتعيّش على مثل هذه الممارسة وسواها، الأمر الذي يدخل في خانة الأعمال غير المشروعة مثل زراعة وتصنيع وترويج المخدرات وتجارة وتهريب السلاح والسيارات والمحروقات والأشخاص إلى الداخل السوري.



تفيد المعلومات أنّ حسين الحجيري قصد صباحاً منطقة رأس العين في مدينة بعلبك، كان موفداً من والده ليمثّله في اجتماع تعقده جمعيات ومنظمات مدنية تعمل في هذا المجال مع ممثلين عن الأمم المتحدة، بهدف تقديم المساعدة الى النازحين السوريين في جوار عرسال وداخلها. وحسين (18 عاماً) هو ابن شقيق الشيخ مصطفى الحجيري الملقب بـ"أبو طاقية"، والمتهم من قبل آل حميّة بالضلوع في تصفية ابنهم الجندي محمد حميّة الذي كان مخطوفاً مع رفاقه الجنود وقوى الأمن لدى "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش" عقب أحداث عرسال في أغسطس/ آب 2014.

انتهى الاجتماع الذي حضره حسين، وعندما همّ بمغادرة المكان، كان هناك من ينتظره. ترجّل مسلّحون من عدد من سيارات وأحاطوا به قبل أن يختطفوه تحت تهديد السلاح. اقتادوه إلى مدافن طاريا غير البعيدة، حيث كان ينتظره والد الجندي المغدور محمد حميّة. هناك، اكتفى الوالد ببضع كلمات وجّهها إلى الشاب: "أطلق سراحك إذا استطعت ردّ ولدي إليّ". لم يستطع حسين التجاوب مع طلب الأب، ولم ينبس ببنت شفة. عند هذا الحدّ، توقّف الكلام واندفع منطق الثأر إلى مداه، وسط صمت المقبرة، بينما أنفاس المخطوف والخاطفين تتوالى. ليس أقل من أربعين طلقة نخرت جسده ومن أسلحة مختلفة، ما يعني أنّ والد الجندي لم يكن الوحيد الذي أطلق النار على الضحية. الواقعة بتفاصيلها تصل إلى عرسال، لتتحدث عن تمثيل القتلة بجثة الضحية.

سريالية

بات المشهد أكثر من سريالي. القبر يضمّ جثّة الجندي محمد حمية منذ أكثر من عام. في القبر جثة قديمة، وعلى ترابه الذي نبتت فيه الأعشاب جثّة جديدة تنزف حتى الموت وقد مزّقها الرصاص. المغدور الثاني ملقى فوق قبر المغدور الأول. ثمّة من تعمّد تصوير الجثة مضرّجة بدمائها. ومباشرة، انتشرت اللقطات والصور في عالم الفضاء الافتراضي. ثمّة مؤيّدون للتضامن مع الأب، وثمّة رافضون للتحريض على الأب والعشيرة. لكنّ الأمور لم تقف عند هذا الحد. بعد وقت قصير، بعد دقائق، يخرج الوالد معروف حميّة معلناً بتباهٍ مسؤوليته عن عملية الثأر لابنه. كان يمكن أن تمرّ هذه الواقعة عند هذه الحدود لكنه أضاف أنّ القضية لن تنتهي هنا، ولن تهدأ النار قبل قتل أبو طاقيّة ورئيس بلدية عرسال السابق علي الحجيري (أبو عجينة). وأكد أنّه لن يسلّم نفسه إلى الأجهزة الأمنية، لأنه لا يعترف بها، طالما أنها لم تتولَ حماية عناصرها.

الخبر يقع على عرسال وقع الصاعقة، مسلّحون من البلدة حاملين السلاح يخرجون من منازلهم ويجوبون حاراتها وشوارعها، وسرعان ما تظهر الحواجز. يقولون إنّ هدفهم القبض على أي شخص من آل حميّة أو ينتمي إلى بيئته. هنا البيئة قد تعني الطائفة أو البلدة. الاستنفار يتّسع ليصل إلى سعدنايل - السنيّة - التي تبعد نحو 40 كيلومتراً عن عرسال، رفضاً لما جرى. وذلك ليس من منطلق عشائري، بل من موقع التضامن المذهبي مع عرسال وآل الحجيري.

لكنّ الأمور لن تقف بالتأكيد عند ردود فعل، حدودها ما جرى. التطمينات التي أطلقها بعض المسؤولين لا تطمئن. الواضح أنّ استمرار تآكل السلطات اللبنانية وعجزها، من شأنه أن يقود عاجلاً إلى مزيد من الضحايا، سواء في صفوف العسكريين أو المدنيين الذي يعيدون إحياء أعراف وعادات عفا عليها الزمن. مثل هذا وأكثر منه، حدث ويحدث في لبنان والمنطقة العربية، بينما العالم في صميم ثورة الاتصالات والتكنولوجيا التي تجوب الفضاء وتربط أجزاء الكرة الأرضية ببعضها بعضاً. لكنها بالتأكيد لا تستطيع الربط بين عرسال وطاريا وطليا القريبة من بعضها بعضا والبعيدة بعد الثأر والدم المراق.