نادني باسمي: سعيد آلاك

نادني باسمي: سعيد آلاك

26 مايو 2016
"لا أريد أن أجلب الصداع لنفسي" (العربي الجديد)
+ الخط -

"منغولي"، بهذا يُعرف شعبياً من يعاني من "متلازمة داون" أو "متلازمة تثلث الصبغيّ 21". قد يكون من السهل التعرّف إلى "شخص منغولي" من خلال صفات جسدية محددة لا سيّما في الوجه والأطراف. لكن من الصعب إدراك خصائصه النفسية والفكرية، خصوصاً في البيئات التي تعاني من ارتجال في التعليم، والتي تخضع نظرتها إلى أفرادها لأحكام مسبقة وجاهزة. من تلك الأحكام أنّ من يعاني من تلك المتلازمة غير قابل لتلقّي التعليم ولا لمواكبة محيطه. هذا هو السائد في الفضاء الجزائري.

تسجّل في الجزائر ستة آلاف حالة سنوياً، فيما تخصص منحة شهرية للحالة الواحدة لا تتجاوز ثلاثين دولاراً أميركياً. ويمكن القول إنّ الحكومة فشلت في إدماج هذه الشريحة، بحسب المدير السابق في وزارة التضامن الوطني أيوب عمريش، "لأنها قفزت على ضرورة تثقيف المجتمع حول هذه المتلازمة". يشير لـ "العربي الجديد" إلى أنّ "الجزائري وفي حال أراد وصف أحدهم بالغباء والسذاجة والسلبية، نعته بالمنغولي. كيف نتوقع من سياسة الإدماج أن تنجح من دون تصويب هذه النظرة القاصرة؟". يضيف: "إذا كان من فضل في إجلاء حقيقة المصابين بالمتلازمة في الجزائر، فإنه يعود إلى نماذج عبقرية منهم".

في مدينة بودواو، 38 كيلومتراً شرق الجزائر العاصمة، قد نجد من يجهل اسم رئيس البلدية أو يجهل من هم مشاهير المدينة، من أمثال أحمد محساس، أحد مفجّري ثورة التحرير في خمسينيات القرن العشرين، والروائي رشيد ميموني. لكننا من النادر أن نجد أحداً لا يعرف سعيد آلاك (37 عاماً)، ليس لأنه مصاب بمتلازمة داون، فالمدينة تحصي حالات عديدة، بل لأنه فرض نفسه بطريقته الخاصة في التعامل مع محيطه.

ينسى الذين يستمعون إليه لسانه الثقيل ويذكرون كلماته التي تخرج حكماً ونصائح. هو يبدي اشمئزازاً مما يراه شراً أو منكراً أو فساداً أو وقاحة أو حراماً أو عيباً، ويقاطع مقترفه على مرأى ومسمع من الجميع. قد يصبر على الناس، إلا أنّه لا يجاملهم، حتى بات يمثل الضمير الحيّ في المدينة.




يعترف هشام ق. بأنه كان عاقداً العزم على "صون حريتي بعدم الزواج، لكنني عدت عن قراري، استناداً إلى نصيحة سعيد. قال لي: حين يداهمك الموت، فإنك سوف تموت نهائياً لأنك بلا أولاد يخلفونك". هشام الذي أسمى طفله الأول سعيد، يقول إنّه رأى "أكثر من متعلم ومتزوج وإطار في الدولة يستشيرونه في أمور خاصة. كذلك أفعل أنا، ليس من باب التبرّك، كما يظنّ البعض، بل من باب عمقه وصدقه في النصيحة".

من الممكن أن تجد سعيد نادلاً في مطعم أو مقهى أو قابضاً في حافلة أو بائعاً في سوق أو حارساً في موقف السيارات أو رجل استقبال في فندق أو مساعداً في حمّام. وقد يشغل هذه الوظائف كلها في يوم واحد، لا ليحصّل المال، بل ليساعد أصحابها. و"يحلّل" ما يتقاضاه لقاء تلك الخدمات، إذ هو يرفض أن يكون عالة على أحد. من جهة أخرى، لا يظهر غضبه إلا في حالة واحدة فقط، عندما يُنادى "منغولي". وفرض اسمه على الجميع، مطبّقاً بذلك شعار "نادني باسمي" الذي ترفعه "الجمعية الوطنية للإدماج المهني والمدرسي للمصابين بمتلازمة داون".

نادراً ما يغيب سعيد عن عرس أو تظاهرة فنية أو ثقافية، لا بل يخصّص لنفسه مكاناً بالرقص والفكاهة، لدرجة أنّه يخطف أحياناً الأضواء من العرسان والفنانين، من دون أن يثير ذلك انزعاجهم أو غيرتهم. يقول الممثل وليد عبد الله لـ"العربي الجديد" إنّه معجب بموهبة سعيد في التمثيل الذي يؤدّيه مع الفرق المسرحية في "دار الشباب". يضيف: "لم أجد أحداً يبدع في الارتجال مثله، من غير أن يخرج عن روح النصّ. والمثير للإعجاب أنّه لا يضحك حين يثير ضحك الآخرين بأدواره. كأنّه يسعى إلى جعلهم في مواجهة ذواتهم، حتى يدركوا أنهم هم المنغوليون وليس هو. ويصحّحون نظرتهم الخاطئة".

من جهته، يشير الناشط رضوان زوقاري إلى أنّ "سعيد هو أوّل من يحضر عند برمجة نشاط فني أو ثقافي، وينطلق مباشرة في استقبال الناس وتوجيههم إلى القاعة. كذلك يتكفّل بتهدئة الأطفال عند التشويش على النشاط. وفي حال تأخّر الضيوف، فيعمد إلى إلهاء الحاضرين بارتجالاته". يضيف: "تدهشني طاقته في التواصل مع الجميع، وقدرته على جعلهم ينسون أنه مختلف عنهم".

عندما يُسأل سعيد عن سبب عدم امتلاكه هاتفاً نقالاً مثل صديقه محمد بوقادوم، المصاب بمتلازمة داون، ينفجر ضاحكاً ويجيب: "لست متزوجاً حتى تهاتفني زوجتي. من يحتاجني يعرف أين يجدني. لا أريد أن أجلب الصداع لنفسي". يُذكر أنّ التحيات التي تنهال على سعيد وهو يسير في الشارع، لا يحصل عليها إلا إمام مسجد أو شيخ البلدية أو مدرب فريق كرة القدم. أمّا هو فيردّ بإشارة بيده، مثلما يفعل كبار المسؤولين في زياراتهم الميدانية.

دلالات

المساهمون