لن ننسى.. سوريّون ذاقوا طعم الموت

لن ننسى.. سوريّون ذاقوا طعم الموت

15 يناير 2016
يحاولون اجتياز السياج (بولنت كيليك/فرانس برس)
+ الخط -
تفاصيل يوميات السوريّين وسط الحرب أو خلال الهرب أو الاعتقال تكاد تكون مرعبة. في كل يوم، يقترب كثيرون من الموت من دون أن يلقوا حتفهم. وهذا عذاب من نوع آخر

ما يعيشه السوريّون في بلادهم ليس مجرد تجارب. هي مآسٍ يحفظها بعضهم في أذهانهم من دون أن يشاركوها مع أحد، فيما يختار آخرون البوح بها، علهم يخفّفون عن أنفسهم.

حملت يدي
في يوم ماطر من العام الماضي، كان فهد، وهو طالب في كلية طب الأسنان عائداً من الجامعة. في ذلك اليوم، كان يمشي في شارع مزدحم بالباعة والمارة حين سقطت قذيفة هاون. يقول: "شعرت بقوة ضغط كبيرة تحملني وترمي بي بعيداً. كان الصوت قوياً والغبار يغطي كل شيء. حدث كل هذا بلحظة. شعرت بألم قوي، وعرفت أنني أصبت. حاولت تحريك يدي لأتلمس جسدي لكنني لم أستطع تحريك اليمنى. أذكر أنني رأيت دماء مختلطة مع التراب. كانت يدي شبه مفصولة عن جسدي وكأنها ليست لي، لكنني حملتها ومشيت. بعدها فقدت الوعي ولم أعرف ماذا حدث.

استفاق فهد في المستشفى من دون أن تكون يده اليمنى موجودة. قرّر الأطباء بترها للحفاظ على حياته، ولصعوبة إجراء عملية الوصل الدقيقة في ذلك الوقت. يضيف: "أخبروني أنني كنت أهلوس وأسأل عن يدي تحت تأثير التخدير. لقد ماتت ومات معها مستقبلي المهني. لم أعد إلى الجامعة بعد ذلك اليوم. لا يمكنني أن أعمل طبيب أسنان بيد واحدة. لن أنسى ما حصل ما حييت".

ركعت للقناص
في بداية فصل الشتاء من عام 2013، كان عباس، وهو أب لطفلتين، عائداً من وظيفته في حلب. كان عليه أن يجتاز شارعاً فيه قناص بين حيي بستان القصر والمشارقة، والذي تحوّل في ما بعد إلى معبر يصل بين مناطق سيطرة المعارضة ومناطق سيطرة النظام في المدينة. كان القناص يسمح للمارة بالعبور بين الثامنة صباحاً والثالثة من بعد الظهر، ليبدأ القنص في أوقات أخرى. إلا أن عباس لم يستطع العودة مبكراً في ذلك اليوم.

يقول: "كانت الساعة الرابعة والنصف عندما وصلت إلى المعبر متوجهاً إلى بيتي الذي يبعد بضعة أمتار عن المعبر. كنت خائفاً لأنني أعرف أن القناص بدأ عمله. مع هذا مشيت. رأيت امرأة واحدة تمشي قبلي فتشجّعت. وما إن خطوت بضعة أمتار حتى أطلق رصاصة في الهواء. ركضت المرأة وركضت خلفها. فأطلق رصاصة أخرى. انبطحت أرضاً وكنت أسمع دقات قلبي من شدة الخوف. كان هناك شعرة بيني وبين الموت. بدأت أزحف فأطلق رصاصة ثالثة. أردت أن أتوسّل إليه ألا يقتلني، وأقول له إن لي طفلتين وزوجة، ولن يحضر لهن أحد الطعام إن لم أعد. سجدت متسمراً في الأرض بضع ثوان، ثم هرولت إلى الطرف المقابل. وصلت فارغ اليدين ولم أعرف أين رميت أكياس الطعام التي كانت في يدي".

يضيف: "لم أعرف إن رآني القناص أو إن كان يستطيع رؤيتي، لكني شعرت بالخجل مما فعلت. لم أتوقع ردة فعلي هذه. في البداية، لم أخبر أحداً بما حدث، ثم أخبرت زوجتي بعد فترة".

شتمت الأسد
بعد عناء امتد لتسعة أشهر، علمت أم زياد أن ابنها معتقل في سجن صيدنايا في دمشق. تقول: "دفعت نصف مليون ليرة سورية مقابل وعد بالحصول على زيارة، وقّع لي عليها أحد كبار الأفرع الأمنية. كان لدي أمل كبير بزيارته. توجهت إلى الشرطة العسكرية منذ ساعات الصباح الباكر على أمل أن أحصل على الزيارة. بدأوا يرسلونني من موظف إلى آخر. البعض بدا عليه الارتباك، وبعضهم قال لي إن من أعطاني الزيارة مخطأ بوجود ابني في هذا السجن. كنت أسألهم عن مصيره ولا يجيبونني. آخر شرطي سألته أين ابني قال لي: "عوضك على الله"، فعلمت أنهم قتلوه. بدأت بالصراخ. لعنتهم ولعنت (الرئيس السوري بشار) الأسد. جرّوني إلى مكتب العقيد فركضت إلى صورة الأسد في مكتبه ورميتها على الأرض. توعّدت لهم أنني سأنتقم من قائدهم بنفسي، وسأعلّق رأسه على المشنقة كما قتل ولدي. لا أذكر تماماً كل ما جرى. جرّوني وأخرجوني خارج المبنى.

بعد فترة تطوّع الابن الأصغر لأم زياد للقتال في فصائل المعارضة. تعتبر أم زياد أنه يقاتل فداءً لدم أخيه. حتى اليوم تروي أم زياد للناس كيف أهانت الأسد في أحد معاقله الأمنية كلما تذكّرت ابنها.

ودّعتهم قبل إعدامهم
قضى حسام نحو عام ونصف العام في سجن صيدنايا العسكري خلال فترة اعتقاله. وعلى الرغم من معاناته من التعذيب والذلّ والجوع والبرد، فإن أسوأ تجربة عاشها، كانت وداع زملائه في المعتقل قبل إعدامهم.

يقول: "كانت أحكام الإعدام تنفّذ كل يوم خميس في الطابق الأرضي لأحد الأجنحة. وعلى الرغم من أنهم لم يبلغوا أحداً بحكم الإعدام، إلا أن المعتقلين كانوا يعرفون الأمر بحسب التهم الموجهة إليهم. كانوا ينتظرون الموت، يقضون معظم أوقاتهم في الصلاة والدعاء، وكنت أشفق عليهم وأتخيل نفسي مكان كل واحد منهم. أحاول الحديث معهم بأمور شتى، فأجدني أغوص في تفاصيل حياتهم وأعرف أسماء أطفالهم والمدرسة والجامعة التي درسوا فيها. أحاول إقناعهم بأنهم لن يعدموا وسينقلون إلى مكان آخر، علماً أنني لم أكن مقتنعاً بالأمر. خلال شهر، أعدموا أربعة. عرفتهم أكثر من أي شخص آخر في المعتقل، وقد ودعتهم قبل إعدامهم. كانوا يبكون بشدة مستسلمين لأقدارهم. لم أستطع نسيان أحد منهم حتى اليوم".

مشيت حافية على الشوك
قبل أشهر، سافر زوج خلود إلى تركيا للبحث عن مسكن وعمل. ومع اشتداد القصف الجوي في بلدتها في ريف إدلب، قرّرت وأطفالها اللحاق به، واتفقت خلود مع أحد المهربين على الوصول إلى الحدود التركية. وبعدما خيّم الظلام، انطلقوا من إحدى النقاط الحدودية النائية جنوب أنطاكية.

تقول: "أزاح المهرّب السياج الشائك وطلب منا أن نزحف تحته تباعاً ثم نركض. مرّ أطفالي وركضوا أمامي ثم حاولت المرور. لم أكن أرى شيئاً في الظلام، وعلق حذائي بالشريط الشائك. لدقائق عدة، حاول فكه ثم سمعت صوت ابني يسأل عني، فخلعت الحذاء وركضت. لم يكن بإمكاني التراجع. كانت الأرض وعرة ومليئة بالأشواك التي تغرز بقدمي. لكنني لم أستطع التباطؤ حتى لا أضيع بين الجبال. كنت أتألم بشدة لكنني لم أظهر ذلك حتى لا يخاف أطفالي. في أعلى المنحدر، شعرت أن قدمي بدأت تنزف وطلبت من الناس مساعدتي، فخلعت امرأة حجابها ولفّته مع حجابي على قدمي وتابعنا السير حتى وصلنا إلى إحدى القرى الحدودية. هناك، توجهت إلى أحد المستوصفات لعلاجها. كان هذا من أصعب أيام حياتي. علينا أن نتحمل لأننا سوريون، وقد أقفل العالم أبوابه في وجهنا".

اقرأ أيضاً: الموت تحت التعذيب في السجون