مقهى ريش

مقهى ريش

05 مايو 2015
مقهى "ريش" أحد أشهر المقاهي في وسط القاهرة
+ الخط -
مقهى "ريش" الذي يحمل رقم 17 ش طلعت حرب، ليس أي مقهى؛ ففيه بدأت أم كلثوم الغناء منذ كانت طفلة ترتدي العقال بصحبة الشيخ أبو العلا محمد، وفيه التقى الملحنون والمطربون والمؤلفون، ومنه خرجت المظاهرات، وبسردابه طبعت المنشورات السياسية، وبداخله عقدت الندوات الشهيرة، والعروض المسرحية...! 
كان مجدي ميخائيل صاحب المقهى مع مساعده المخلص "عم فلفل" الجرسون، يمثلان دفتي لوحها المحفوظ المكتظ بالحكايات التي عاصراها و"الحواديت" المأثورة عن المقهى لمائة عام.
 
بناء عريق 

يؤرخ كثيرون للمقهى بأنه بني على أنقاض قصر يعود تاريخه لسنة 1836، كان يملكه محمد علي توفيق باشا ابن عم الملك فاروق. وقد نزعت ملكيته من قبل مجموعة من الأوروبيين ضمن ما انتزعوا من أراض وعقارات متنوعة لسداد ديون إسماعيل باشا في منطقة ميدان الإسماعيلية (التحرير) ووسط المدينة. 
تولت عائلة "عادا" اليهودية بناء عمارة مكان القصر بعد هدمه سنة 1908، وفقاً للطراز الفرنسي الذي كان سائداً في مباني وسط البلد. الثري النمساوي "بيرنارد ستينبرج" امتلك المقهى في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1914، ثمّ باعه سنة 1915 للفرنسي هنري ريسن، الذي أطلق عليه "ريش كافيه" على اسم مقهى شهير في باريس. سرعان ما استُدعي "ريسن" لتأدية الخدمة العسكرية أثناء الحرب العالمية الأولى. فاضطر لبيعه. 
بدأ عصر الوصاية اليونانية على المقهى، حيث تناوب الملّاك اليونانيون عليه لما يقرب من نصف قرن. بدأ ذلك بصفقة بيع من "ريسن" لليوناني "ميشيل بوليتس" في مايو/أيار سنة 1916. ثم باعه بوليتس سنة 1932 لليوناني مانولاكس، ثم باعه الأخير ليوناني ثالث سنة 1942 هو جورج إيفتانوس وسيلي الذي كان خاتمة اليونانيين. 

المصريّ الأول

في سنة 1960 امتلك رجل صعيدي هو عبد الملاك ميخائيل أول عقد شراء لـ "ريش" يكون لمصري. كان مجدي طفلاً صغيراً، لكنه ارتبط بالمكان وتاريخه. ولما غادر مصر ليعيش في أميركا، سرعان ما عاد في أوائل السبعينيات بناء على طلب والده ليساعده في إدارة المقهى. 
ورث مجدي عبد الملاك المقهى، ولم يكن المالك المصري الثاني فحسب، بل المؤسس الثاني أيضاً. ففي فترة الثمانينيات والتسعينيات، وبعد إغلاقه لفترة طويلة، أصر مجدي على إعادة تأسيسه وفق الديكورات القديمة، حتى أصبح تحفة معمارية مميزة. كما أنه صنع أرشيفا ضخما لتاريخ مصر الحديث، حيث يضم وثائق تاريخية وصوراً نادرة. 
المطبعة والأوركسترا 
أثناء قيامه بتجديد المقهى عقب زلزال 1992 اكتشف مجدي عبد الملاك نفقاً سرياً من خلال شقوق في جدران المقهى، حيث عُثر على مطبعة قديمة وبعض المقتنيات النادرة، تبين أن هذا البدروم السري كان مستخدماً من قبل الثوار سنة 1919 للهروب من الإنجليز. وقد قام ميخائيل بترميمه وحوله إلى متحف مصغر لتلك الثورة. 
ويقال إن مدير المقهى آنذاك أراد ألا يسمع الناس صوت المطبعة العالي أثناء طباعة المنشورات السياسية، فقرر عمل أوركسترا ليغطي على صوت المطبعة، ولما رفض الإنجليز بحجة أن ذلك سوف يؤذي الجيران. فما كان من المدير الثوري إلا أن جمع من الجيران موافقة لعمل الأوركسترا، ووضع السلطات أمام الأمر الواقع، ونجحت خطته. 
ولما كان "ريش" متنفساً لكافة الأوساط الثقافية آنذاك فقد كان البوليس السياسي يقصد المكان ويملؤه بجواسيسه ورجال المخابرات والصحافيين الأجانب، كل يفتش عن مآربه الخاصة، وقياس الأخبار، ومواكبة النبض المصري. وقد أشار إلى ذلك المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه (تاريخ مصر القومي 1914- 1921). 
وفي ديسمبر عام 1919، جلس شاب يدعى عريان يوسف سعد على المقهى، وأثناء مرور رئيس الوزراء "يوسف وهبة باشا" الذي عينه الإنجليز، من أمام المقهى قام الشاب وألقى قنبلة باتجاه الموكب، فسقط صريعاً. 

الثورة مستمرة 

التاريخ السياسي لمقهى ريش لا يرتبط فحسب بثورة 1919 بل امتد إلى أبعد من ذلك؛ ففي عام 1972 انطلقت من المقهى ثورة الأدباء، احتجاجاً على اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، حيث كان إغلاق المقهى للمرة الأولى بعد هذه المظاهرة. 
يذكر أحد أصدقاء مجدي ميخائيل أن المقهى استقبل مجموعة من شباب المتظاهرين أثناء ثورة يناير 2011، شريطة أن يلتزموا بقواعد المكان، قائلاً: "يا ما بدروم ريش لمّ" في إشارة إلى الدور الوطني الذي قام به المقهى طويلاً، خاصة في البدروم السري له. 
ويحكي علاء الأسواني أن المقهى شهد مشادات وطنية كثيرة، منها كيف ثار رواد المقهى على "علي سالم" حين اصطحب معه السفير الإسرائيلي إلى المقهى"، وكيف انتفض مجدي ميخائيل معهم رافضاً وجودهما في المقهى! 

"عم فلفل" الجرسون 

يعد محمد حسين صادق، وهو رجل نوبي مسنّ، شهرته "عم فلفل" من أعمدة المقهى الخالدة، فهو أشهر جرسون في مصر، وفي المقهى بورتريه بارز تخليداً لجهوده طوال خمسين سنة في خدمة "ريش" وزواره، وقد سميت اللوحة باسم "القدوة"! 
ونظراً للحالة الاقتصادية المتعثرة التي يمر بها المثقفون عادة؛ فقد كان عم فلفل يكتفي منهم بكتابة المديونيات في أجندة خاصة، ليذكرهم بها "حين ميسرة"؛ لذلك يسميه بعض الظرفاء "كاسر عين الأدباء". وهو صاحب حكايات ظريفة عاصرها، معظمها يرتبط بالحسابات المادية؛ مثل قوله إن "توفيق الحكيم قال لنجيب محفوظ: كل واحد يحاسب لنفسه!"، في إشارة لبخل توفيق الحكيم. 
ومنذ زمن طويل كان هناك اتفاق صامت بين المقهى ورواده، حيث ينتقونه وينتقيهم، فتقريباً هو المقهى الوحيد في مصر الذي لا يقدم الشيشة "الأرجيلة"، كما أن حالة الهدوء مهما يكن المقهى مزدحماً هو أبرز سماته. إضافة إلى الديكورات الفنية حيث تغطي الجدران صور المثقفين التاريخيين من شعراء ونقاد وكتاب وسياسيين، وكثير منهم كان من رواد المقهى، بما يشعرك بهيبة المكان! 

المساهمون