يوميّات الحرب في غزّة (25)

يوميّات الحرب في غزّة (25)

22 ديسمبر 2023
فلسطينية غزّية تجلس بين أنقاض مبنى دمّره قصف إسرائيلي على دير البلح (19/12/2023/Getty)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(15 ديسمبر)
ربما كان يوم أمس من أكثر الأيام التي مشيتُ فيها خلال الحرب. فبجانب المشي العادي في الطرقات وفي أزقّة المخيّم، وللوصول إلى الطريق لركوب السيارة وغير ذلك، مشيتُ من مقرّ وزارة التنمية في تل السلطان إلى بيت صديقي سهيل موسى قرب مركز المدينة برفقة الصديق عبد الرؤوف بربخ، وهي طريقةٌ أخذَت من وقتنا أكثر من ساعة وربع الساعة. وبعد أن زرت سهيل، لم أجد مواصلة، فلم يكن أمامي إلا أن أعود إلى مخيّمنا الجديد غرب تل السلطان، مشياً على الأقدام أيضاً، وهذه امتدّت أكثر من ساعة ونصف الساعة. كان الوقت حين عدتُ ليلاً. كنتُ أتذكّر فيلم توم هانكس الشهير، حين يكون مُدمناً على المشي. لكن مجبرٌ أخاك لا بطل. لستُ مدمناً على المشي، ولم أنزل من بطن أمّي أركض في الطرقات. المواصلات في رفح قصّة معقدة وصعبة، ويبدو ركوب سيارة درباً من الحظ، والجلوس على كرسي باص يبدو حظّاً فوق الحظ. 
كان هذا يوم المشي، وحين تكون مرغماً على الشيء تشعُر بالتعب. كل خطوة تشعر بها مثل طعنة في جسدك، لأن عليك أن تقوم بها. لا تملك خياراً آخر. عليك أن تمشي، لأنك إن لم تمش فلن تصل، وإن لم تصل فأين ستذهب. وقفتُ برهةً أنتظر مرور سيارة مع عبد الرؤوف قرب مدارس العربي كما يسمّونها، لكن بلا فائدة، فالحركة في الليل غير مرغوبة، والسيارات لا تنتقل من مكان إلى آخر في الليل بشكل منتظم. وحده المضطرّ قد يقوم بذلك. للحرب طقوسها الخاصة، ولها إيقاع حياةٍ تُنشئه الظروف، وتشكّله قسوة الواقع. 
سرتُ أنا ورؤوف نحو بيت سهيل. في البداية، قال لي رؤوف إننا سنمشي نصف ساعة لأمشي أكثر من ساعة وربع الساعة، وكلما قلتُ له "طوّلنا"، يقول لم يبق الكثير. بالنسبة لي، كانت هذه فرصة، حتى أتحدّث مع رؤوف، الناشط السياسي والاجتماعي وعضو قيادة حركة فتح في المحافظة (الإقليم) وعضو اللجان الشعبية لمخيم رفح. لديه أفكار وتحليلات كثيرة للواقع، خصوصا في السياق الخدماتي، فهو إلى جانب ذلك كابتن كشّافة وأشرف سنوات على مجموعات كشفية. التقينا مصادفةً في مقر وزارة التنمية، حيث كان يبحث عن مساعداتٍ ليقدّمها للناس. لم يتوقف رؤوف، طوال الطريق، عن سرد القصص والحكايات من الحرب ومن ذاكرته، وهو ساردٌ بارع مذهل، يمسك قلب مستمعه، وهو يحوّل حكاية بسيطة إلى ملحمة يرويها بكثير من التفاصيل والتشويق.

الصورة
تجمع ناس
يبحثون عن ناجين وسط دمار عقب غارة إسرائيلية على رفح (20/12/2023 فرانس برس)

حدّثني يوم وقف في وجه ياسر عرفات، ولم يكن، في ذلك الوقت، إلا شابا صغيرا، حضر اجتماعاً لعرفات مع كوادر رفح، فجاء ممثلاً عن الشبيبة الطلابية. وقتها وقف، حين أمسك ياسر عرفات المايكروفون وقاطعه، قائلا إن لديه مجموعة ملاحظات. بالنسبة لعرفات أن يقول له شاب صغير هذا أمام الناس أمر كبير. واصل الشاب ساردا ملاحظاته، فهو ضد لقاء عرفات الذي كان مزمعاً مع شمعون بيريس، وهو ضد وقف إطلاق النار. بعد ذلك، سيطلُب عرفات الفتى الصغير، ويتحدّث معه على انفراد ليشرح له الموقف. قد تبدو قصة عادية، لكنها لفتى في ذلك الوقت كانت تعني الكثير، فهو يستطيع أن يناقش الرئيس أمام الجميع. أثارت الطريقة التي قدّم فيها رؤوف خوف الآخرين، حين تحدّث، وبدت محاولتهم إسكاته مضحكة، وهو يقف وسط جموع صامتة. يتحدّث رؤوف الآن عن ذلك كله كأنه جزء من شريط سينما يمرّ أمامه. هل ستصير تلك اللحظات التي نعيشها مجرّد شريط من الماضي، نستذكره ونتحدّث عنه بشغف. لماذا يتذكّر الإنسان؟ الذاكرة هروب؟ ربما أن رؤوف وسط ضوضاء ما نعيشه تذكّر أن وقتا مضى، كان يمكن له أن يقول ما يشاء ولا يخاف، أو أن شيئاً في ذاكرته لسعَ زاوية منها، تختبئ في خليةٍ من خلاياها فكرة وقف إطلاق النار. هناك استوديو تصوير أرى يافطته في طريقي إلى المدينة مكتوب عليها "نهتم بأدقّ تفاصيل ذكرياتكم". هل للذاكرة تفاصيل؟ ماذا نتذكّر إن لم نتذكر التفاصيل؟ نحن فعلاً لا نتذكّر الأحداث، بل نتذكّر تفاصيل ما حدث. فأنت لا تتذكّر أن أمك توفيت، لأن هذا حدث واقع في الحياة، حين تتذكّر يوم موتها أو حياتك قبل موتها، فأنت تتذكّر تفاصيل حياتك، ومواقف مختلفة، تكشف الحبّ والحنان، ورعايتها لك أو تتذكّر كيف بكيت وحزنت ومن بكى ومن حزن معك، وكيف حملتم جثمانها وسِرتم به إلى المقبرة. الذاكرة تفاصيل وليست خطوطاً عامة. 
كان سهيل يحمّص القهوة على الفحم حين دخلنا. ثم طحنها وشربنا قهوة أعدّت من الألف إلى الياء أمامنا. جودة القهوة المتوفرة في السوق سيئة، إذ يطحنها التجار مع بقولياتٍ أخرى، ومع عجوة التمر. لذلك، فإن بعضا ممن يتمكّنون من الحصول على حبّات القهوة يحمصونها بأيديهم ويطحنونها لشربها. كان الليل يرخي سدوله، وكان علينا أن نتحرّك قبل أن تصبح الحركة في الليل خطرة. الآن، يبدأ النصف الآخر من يومي: الليل حيث أقضيه في المخيّم أتجوّل قليلاً مع بعض الأصدقاء في الأزقة التي سأكتشف يوماً بعد آخر أنني بتّ أعرفها أكثر، ثم أجلس في الخيمة "خيمتي" التي صارت مضافةً، يجلس فيها الشباب في الليل بالطبع، لأنني الوحيد الذي يعيش في الخيمة بدون زوجة، حيث إن عائلتي، باستثناء ياسر، في رام الله، لذلك يتوافدون للجلوس في خيمتي ساعتين، قبل أن يذهبوا للنوم في خيامهم.

الإنسان مُجبرٌ في التعوّد حتى على ما يكره، وما إن يعتاد عليه يخفّ كرهه له. هذه سنّة الحياة وهكذا تسير الدنيا

انقطعت الاتصالات بشكل كامل، فإشارة الموبايل لا تلقط، كما أن الإنترنت مفصول. بدأ الأمر عند الخامسة بعد المغرب، حيث توقف كل شيء. في الطريق، وفيما كنت أقطع المسافة الطويلة من بيت سهيل إلى المخيم الجديد، حاولتُ أكثر من مرّة الاتصال بهناء أو بإبراهيم، ولكن من دون فائدة. تعوّدنا على هذا القطع الشامل للاتصالات، وعلى الانقطاع التام عن العالم. بدأ الأمر في الأسبوع الثاني من الحرب، وكان حدثاً كبيراً تناقلته كل وسائل الإعلام ودبّ القلق الكبير في نفوس الجميع والخوف من المجهول، ونحن معزولون عن العالم، رمى بنا في متاهاتٍ لا نعرفها، لكن الأمر اختلف الآن، فهذه مرّة من مرّاتٍ عديدة تم فيها الأمر. "تعوّدنا". الإنسان مُجبرٌ في التعوّد حتى على ما يكره، وما إن يعتاد عليه يخفّ كرهه له. هذه سنّة الحياة وهكذا تسير الدنيا. للحظةٍ، جاءت إشارة الإنترنت من شبكةٍ من شبكات الشوارع. قال إبراهيم ربما صاحبها شبكها على الاتصالات المصرية القريبة جداً من سلك الحدود هنا، فاشترى لي كرتاً، وربطت هاتفي الجوّال بها، ونجح الأمر خمس دقائق فقط، كانت كافيةً حتى أهاتف هناء عبر "فيسبوك" وأطمئنها علينا، أنا وياسر ووالداها. ما زلنا مقطوعين عن العالم. بعد قليلٍ سيكون مضى يوم كامل على هذه القطيعة، ولا تثير شيئاً لا في الأخبار التي لا نسمعها ولا في نفوسنا. غزّة سجنٌ كبيرٌ تُمسك إسرائيل ببابه الصغير، وتتحكّم في كل صغيرة وكبيرة فيه، حتى إنها لو استطاعات لأوقفت الهواء عنا، ولتحكّمت في كميّة ما يتنفسه الواحد منّا. في التحقيق في زنازين الاحتلال، يمارس السجّان صنوفاً متعدّدة من التعذيب، منها وضع رأس الأسير في الماء، حتى يكاد يغرق ثم يرفع رأسه دقيقة، حتى لا يموت ويعيده إلى الماء. طبعاً لا يرفعه، لأنه يخشى عليه من الموت خنقاً وغرقاً، ولكنه لأنه يريد أن يعذّبه أكثر، فالموت موتٌ في وقت لاحق، ولكن يجب أن يتعذّب الفلسطيني أكثر، وكلما تعذّب أكثر شعرت إسرائيل بالرضا والسعادة. 
قصف جديد في منطقة "البيوك" في رفح. أسمع طلب المناداة على أي سائق إسعافٍ متوفر من خلال جهاز اللاسلكي في غرفة العمليات التي أستخدمها للكتابة وللقراءة، ولتزجية بعض الوقت المستقطع، قبل أن أعود إلى الخيام. السيدة على الطرف الآخر، وهي على ما يبدو موظفة استقبال في محطة الإسعاف، تسأل عن المكان، حتى توجّه سيارة الإسعاف إليه، فيقول شارع "عابدين". لم أسمع صوت القصف، أو لم ننتبه إليه، لأن الأمر صار عادياً.

الصورة
إسعاف طفل
رجل يحمل طفله المصاب بعد غارة إسرائيلية ليسعفه إلى مستشفى الكويت في رفح (20/12/2023 فرانس برس)

اليوم السبعون للحرب. يا للرقم كم يبدو مخيفاً. اليوم صار لنا سبعون يوماً في هذه الحرب الطاحنة. تنقّلت فيها من مكان إلى آخر، ونمتُ في عديد من البيوت والأماكن والمدن والأحياء، ثم انتهى بي المطاف في خيمة في انتظار نهاية الحرب. جلس صديقي الجديد وسائق السيارة في الهلال الأحمر، أبو رياض، قبالتي قبل قليل، وهو يقول لي "شعبنا لن يرحل إلى أيّ مكان آخر". لم أقل له عكس ذلك، ولكنه، كما فهمت، كان يحاول أن يكمل نقاشاً حادّا دار بينه وبين زميل له في العمل في الطابق الأول، وصعد حتى يواصل ممارسة قناعاته، من خلال إعادتها على مسمع الآخرين. قلت له طبعاً. واصل بحدّة بعد الخيام التي يعيشون فيها: إلى أين سنذهب؟ لن نذهب إلى أي مكانٍ آخر. قلتُ له ما كان يدور في خلدي، حين قاطعني بتصميمه على عدم الرحيل إننا اليوم نعيش اليوم السبعين للحرب. ابتسَم، وقال "ولسّه". يقصد أننا سنعيش أكثر. قلتُ إلى متى؟ لأول مرّةٍ أشعر بالقلق من أن الأمر قد يطول إلى 70 أخرى. لا ضمان.
دائماً أتذكّر كيف مرّت الأيام وكيف اليوم صار أسبوعا، والأسبوع اثنين، والأسبوعان صارا شهراً، والشهر صار شهرين، وها نحن في الشهر الثالث. وما إن نغمض عيوننا حتى ينتهي الشهر الثالث وندخل في الرابع. سأل أبو رياض: بس بحكوا على هدنة؟ قلت ربما. قال الحكي عند الكريسمس (أعياد الميلاد المجيدة). قلت ولكن هذا بعد تسعة أيام. تسعة تسعة المهم تصير هدنة. لم يعد أحد يتحدّث عن وقف النزيف ووقف إطلاق النار وانتهاء الحرب، الهدنة هي أبعد ما يمكن أن يذهب إليه خيال العالم أو مقدرتهم على الضغط على إسرائيل. بالنسبة للناس، أي شيء أفضل من اللاشيء. والهدنة، رغم أنها لا تعني وقف الموت الذي يتربّص بهم، إلا أنها تمنحهم فرصة للتفكير والبحث عن تحسين شروط حياتهم. 
السماء مشمسة رغم أن الجو بارد ولكن هذه فرصة لغفوة في عين الشمس يلتمس فيها المرء بعض الدفء. 

(16 ديسمبر)
جلست امرأةٌ، على الرمال الصفراء، تعلّم ابنها الأبجدية. كانت الشمس واهنة، لكنها تلمع قليلاً. يوم أمس، كانت شابة يافعة ساطعة بعد يومين مُمطريْن بارديْن. ولمّا توقّف المطر يوميْن فقد بدأ الرمل يستعيد نصاعته، بعد أن نشف قليلاً. أمسكتْ بغصنٍ ناشفٍ، وبدأت تعلّم ابنها أحرف الأبجدية. كان يجب أن يكون في المدرسة الآن. كان هذا ابنها البكر. وكانت تحلم بالأيام التي سيدخل فيها المدرسة. أول يوم أخذته إلى المدرسة كان قبل شهر ونيّف من انفجار الحرب ومرّ أكثر من شهرين لم يذهب فيها إلى المدرسة، ولا يبدو أنه سيذهب في الأشهر المقبلة، إذا ما استمرّت الحرب. جلست على الرمل، وأخذت ترسم لابنها أحرف اللغة الأولى، وتقرأهم له ليعيد وراءها. وقفتُ أنظر إليها من بعيد. ثمّة قلقٌ يأخذ الأحرف المرسومة أبعد من حدود الشكل الذي تخطّه على الرمل. ثم أخذت يد الطفل، وبدأت ترسُم الأحرف معه. كلنا عاش تلك اللحظات، حين كانت أمهاتنا يأخذن أيدينا ويرسمن لنا الأحرف. كانت يدُها مثل يد أمّي تقبض على كفّه وتخطّ الأحرف. ثم سرى فرح خفيف في روح الطفل، وهو يرى حروفه تزيّن الرمل، وكان ينظر إلى ما صنعت يداه بإعجاب. هبّت ريح خفيفة تلاعبت بحبّات الرمل، فتطاير بعضها وحطّ بعضها الآخر فوق الأحرف المرسومة، فضاع شكلها. بدا عليه الانزعاج، وهو يرى فرحته تضيع، مثل قصرٍ من الرمل أخذتْه الريح وذهب. 

لسنا قصراً من الرمل تجرفه رمال الشاطئ. ولسنا حكاياتٍ قديمةً في دفترٍ يحترق في قلب الغابة

حين كنّا صغاراً، كانت شروط الحياة أشدّ قسوةً ربما. وربما أن ما عشناه عاشه آباؤنا أيام النكبة. حين كنّا أطفالاً، كنا نسير جهة سكة الحديد، حيث يكون طلاب الثانوية يدرسون هناك ويستخدمون الزلط المصفوف بجوار خطّ السكة المهجور للكتابة على الرصيف، حتى يتذكّروا الدروس. بالطبع، حكايات اللجوء واحدة، وقصص مواجهة الحياة والتغلب على ظروفها المختلفة متشابهة. فيما كنتُ أنظر إلى الأم من بعيد تُحاول أن تقنع طفلها أن الريح ستخمد، والرمل سيهدأ، وسيواصلان كتابة الأحرف على الرمل. تذكّرتُ كل تلك القصص عن الماضي الذي كان قبل أن أولد، حين كانت فكرة الخيمة دخيلةً على الوعي الفلسطيني، وأجبرته عليه النكبة. ليس المخيم قدرَنا بالطبع، لكننا كبُرنا معه وكبر معنا، وها نحن نبدأ من جديد حياتنا في مخيم آخر. الأحرف التي تزول مع هبوب الريح، والرمل الذي لن يتحوّل إلى سبّورة فصل مدرسي، والغصن الناشف الذي لن يتحوّل إلى طبشورة، ذلك كله أيضاً يقول إن واقعنا لن يتحوّل إلى حكايات منسية. لسنا قصراً من الرمل تجرفه رمال الشاطئ. ولسنا حكاياتٍ قديمةً في دفتر يحترق في قلب الغابة. واصلت الأم الشابة تعليم طفلها الأحرف. وربما كانت الريح تهبّ فتمحو بضعها، فتواصل تعليمه المزيد منها. كم ستأخُذ الريح من أحرف اللغة! وكم تقدر العواصف على اقتلاع قلوب النائمين في قصور الرمل! مضيتُ في طريقي، وأنا أستعيد قصصاً كثيرة من الطفولة، وقصصاً أخرى سمعتُها في أزقّة المخيّم، والرجال يجلسون متقابلين يسندون ظهورهم على جدران البيوت أو في جلسات النسوة على عتبات الدور أو أحواشها. كانت تلك الجلسات مواقد لحرق كبسولات الذاكرة، فتفوح روائح الماضي، وتعصف بنا فتأخذُنا بعيداً قبل أن تلقي بنا حيث نحن فنجد الحاضر يتربّص بنا، كأنه يعرف أننا سنعود إليه عاجلاً أم آجلاً. كان الوقت ظهراً، وظلت الشمس تكافح من أجل البقاء، وظلت الأحرف على الرمل تذهب وتجيء تقاوم الفناء، وظلت اللغة حبيسة الصمت الذي ساد حين سِرتُ بعيداً كأنني واثقٌ أنني سأعود في المساء، وسأبحث عن حرفٍ تائه لم تأخذه الريح.
استُشهد الصديق الصحافي، سامر أبو دقّة، بعد أن تُرك ينزف قرابة خمس ساعات، بعد إصابته في مدرسة فرحانة في خانيونس. يكاد يكون قتل الصحافيين أمراً طبيعياً في هذه الحرب. قُتل عشراتٌ من الصحافيين، وهم يؤدّون واجبهم المقدّس بتعرية الجريمة وفضح المجرم. ولأن المجرم لا يريد لأحدٍ أن يعرف حقيقته، يقوم بقتل الشاهد أو ما يحاول إماطة اللثام عن وجهه. بين يوم وآخر، يقتل صحافي أو يصاب، ويتمّ المساس بالمؤسّسات الصحافية. ... أيّ عدوّ هذا؟ العدو عدو، ولكن عدوّنا حتى الحدود الدنيا من أخلاق الخصومة مفقودة عنده. من قتل وروّع ودمر وهجّر، هل يمكن أن يمتلك أي أخلاق؟ لسنا محظوظين بمثل هذا العدو، فهو خارج نطاق ما عهده البشر في تاريخ الخصومات. لم يسبق في التاريخ أن كان جيشٌ يقتل بمتعة ويهدم بمتعة، ويتلذذ حتى بقتل الأطفال والشيوخ. صحيح أن التتار حرقوا مكتبة بغداد، ولكن عدوّنا حرق كتبنا وأرشيفنا، ودمر المباني وقتل الأشخاص، وهو يسرق كل ما يتبقّى. 

الصورة
امرأة وأطفالها في خيمة
فلسطينية غي خيمتها في مخيّم للنازحين في رفح (13/12/2023 فرانس برس)

أصدرت مؤسّسة "مراسلون بلا حدود" تقريراً زعمت فيه أن الصحافيين الذين استُشهدوا خلال الحرب لم يُقتلوا لأنهم صحافيون، وأن الأمر ربما تم بالخطأ من دون قصد. ربما لو أصدرت قيادة جيش الاحتلال مثل هذا التقرير لكان ثمّة منطق أن هناك من يحاول أن يدرأ الجريمة عن نفسه، ويبرّئها من فعلٍ هو يؤمن أنه موضع إدانة فيه، أما أن يصدر عن مؤسّسة من المفترض أنها تدافع عن حقوق الصحافيين وحرّيتهم "بلا حدود" كما يزعم اسمُها الذي لم تحترمه، حين أصدرت مثل هذا التقرير، فأمر يخالف المنطق. 
بداية، جميع الصحافيين في قطاع غزّة، كما في كل مكان في العالم وقت الحرب، لا يتحرّكون بدون دروعهم وخوذهم، وهي دروع عادة ما تكون واضحة وضوح الشمس، حتى للقاتل خلف شاشة العرض التي تبثّ عليها الطائرة الزنّانة صور المراقبة. أما من يتحرّكون بسياراتهم يتحرّكون بسياراتٍ عليها شارة الصحافة، وهي شارة كبيرة حمراء، يتم لصقها على مقدّمة السيارة، وتكون واضحة للطائرة في الجو. وحيث إن كل سيارة يتم استهدافها تكون موضع مراقبة وتصوير مستمرّيْن، فإنه لا يمكن للطائرة الزنّانة ومشغّلها في القاعدة العسكرية داخل إسرائيل أن يخطئ شارة الصحافة على السيارة. وإذا كان الصحافي يحمل كاميرا ويصوّر أو يراقب ما يجري حتى يوثقه، فكيف يكون قتله بالخطأ. مثلاً، الصحافيون الثلاثة الذين استشهدوا في ثالث أيام الحرب، وقد أتيتُ على ذكرهم في هذه اليوميات، رأيتهم وهم يرتدون الدروع والخوذ التي أخذوها من بيت الصحافة، وكنت هناك مع صديقي الراحل الصحافي بلال جاد الله، وكانوا يترقّبون قصف أحد المباني التي طلب الجيش إخلاءها من أجل تدميرها، ليفاجأ الجميع أن الجيش قصف المبنى المقابل، حيث يقف الناس، ومن بينهم الصحافيون، في انتظار تصوير الحدث. كيف يكون قتل هؤلاء بالخطأ. بلال جاد الله بعد ذلك سيقتل حين يتم استهداف سيارته التي تضع شارة الصحافة بشكلٍ لافت. 
صحيح أن الصحافي مواطن مدني، وهذه حقيقة، فكل شخصٍ مواطن. ولكن هذا المواطن حين يكون في مكان عمله، فإن كل ما يصيبه ويلحق به، يكون نتيجة هذا العمل. هذا منطقُ الأشياء. من المحزن، بل من المعيب أن تُصدر منظمة دولية تقريرا مثل هذا لا يحقّق أي هدف إلا تبيض صورة الاحتلال وتشجيعه على قتل مزيدٍ من الصحافيين، لأن هناك من سيقول إنهم قتلوا باعتبارهم مدنيين، ولم يتم استهدافهم لأنهم صحافيون. كذلك يمكن له أن يقتل الأطباء ويعتقلهم على الحواجز وسيُصدر تقريرا يقول إنهم مدنيون، وإن اعتقالهم أو قتلهم لم يكن لأي شيء آخر. 

هناك تفاصيل كثيرة مؤلمة في حياتنا هنا، ولكن الأكثر ألماً حقيقة وجودنا في هذا الواقع

لليوم الثاني لا يوجد اتصالات ولا إنترنت. لم نتمكّن من التواصل مع الأهل في أي مكان. قلقي يزداد على والدي. الأخبار من الشمال شحيحة، ولا نستطيع معرفة أي شيء. حتى ما يرد من أخبار على الراديو أو عبر الرسائل النصية على الواتساب لا تتحدّث كثيراً عن الشمال. فقط بعض الإشارات وأخبار عامة. مثلاً، قتل العشرات في قصف مجموعةٍ من المواطنين من عائلتي خضر والنجار شرق بلدة جباليا. سمعنا، قبل يومين، عن قصفٍ قرب عيادة وكالة الغوث في جباليا، ودار حديثٌ عن شهيدين. تثير بعض الصور المروّعة للجثث المتحللة في غزة والشمال، ملقية في الشوارع وأمام البيوت، وداخل بعضها، مزيدا من القلق. يمكن أن يُقتل المرء، من دون أن يعرف أحدٌ أنه قُتل. يظنّون أنه يحاول النجاة مثلهم، لكن أحدا لا يعرف عنه في عالمه الآخر شيئاً. مات كثيرون، وعائلات كاملة أخذها الموت في رحلتهم الأخيرة، وأقرباؤهم لا يعرفون عنهم شيئاً، يظنّون أن الأمر مجرّد سوء في شبكة الاتصال، وأنهم، ما إن يعود الإرسال، فسيتمكّنون من الحديث معهم. أخبرتني هناء أنها تتواصل مع عمّيها في جباليا، ممدوح ومنصور، وأنهم يتنقلون بين المدرسة المقابلة لبيتهما في المخيم وبين البيتين. في الليل في المدرسة، وفي النهار إذا لم يكن الجنود موجودين، ينسلّون بهدوء إلى البيت، حيث يمارسون بعضاً من "عاديّتهم" المفقودة. 
حتى البطاقة الإلكترونية التي تمكّنت من تثبيتها، بمساعدة بعض الأصدقاء في الخارج، لم تساعدني كثيراً، فهي بالكاد تمكنني من التواصل عبر رسائل "واتساب" فقط، وعلى الوجود في أماكن قريبة مع الحدود الشرقية لرفح، وهذا بحد ذاته يشكّل بعض الخطورة. ومع ذلك، هي تساعد على الأقل في جعلي متّصلاً بشكل بسيط مع العالم، لكنها لا تساعدني على الاتصال بوالدي وبقية العائلة في جباليا. كلما فكّرت أكثر فيما يجري هناك فكّرت أن القدر شيء لا يهرب منه الإنسان، وأن خياراتنا مرهونة بواقعنا ومزاجنا ومشاعرنا في لحظة القرار. لم يقبل والدي أن يخرُج معي إلى الجنوب. أتذكّر عبارته الأخيرة "دير بالك على الولد" و"ابقي كلمني وطمنّي". الآن، نحن الذين نريد أن نكلّمه حتى نطمئن عليه. قلت له "الشمال راح يكون خطر". هزّ رأسه، وقال "كل البلاد خطر. والبلاد كلها خطر وفي خطر". يوم أمس، وضعت صورتي معه أنا وابني ياسر عرفات وأخي إبراهيم. كانت تلك آخر صورة لنا معاً، كنّا نقف أمام سوبرماركت الهسي قرب مدخل الزقاق الذي يقع فيه بيتُنا "اللي كان". عدّل ياقة قميصه ثم ابتسم وأخذنا الصورة. ثمّة صورة أخرى على هاتفي الجوّال تظهر لحظة تعديله قميصه. 
ذهبت، ليلة أمس، إلى عيادة فرج في خيمته داخل بركسات الوكالة. كان ممددّاً على الفرشة يتعرّق ويرجف. لم يتحرّك ثلاثة أيام من الفرشة. لا يوجد كثير من الأدوية على رفوف الصيدليات، فبعد انقطاع التزويد فرغت الصيدليات من كل شيء. قلت له أن يعصر ليمونا ويشرب، فيخفف من الألم. كثير من الفيروسات والأمراض تنتشر بسهولة في أوساط النازحين في غياب الرعاية الصحية السليمة. اقترحتُ عليه أن يحاول التغلب على المرض والوقوف على قدميه والتمشّي معي بين الخيام. لم يقدر، فالوجع شديد، والألم أكبر مما يستطيع تحمّله. كان يغطّي جسده بثلاث بطّانيات. أرضية البركس شديدة البرودة، وكنا نقف حوله، أنا وياسر عرفات وإبراهيم وجمعة وولداه هيثم ومجد.

الصورة
يبكون طفلا
يبكون طفلا استشهد تحت الأنقاض في دير البلح (19/12/2023 الأناضول)

في طريق عودتنا، كانت مجموعة من الشبان تهتف وسط شارع المخيّم الجديد بغضب ضد ارتفاع الأسعار. وقفوا أمام بائعٍ يبيع "معلبات" من التي يستلمها المواطنون ضمن كوبونات المساعدات، وهدّدوه بأن عليه أن يبيع بالأسعار الطبيعية. كانت تلك مظاهرة كبيرة فيها المئات. كان ياسر قد تركنا من أجل أن يشتري فلافل لجدّه. فرح الناس كثيراً بتلك الحركة، وقالت صبية لرفيقتها، وهما تتدافعان للوصول إلى بسطة المعلبات: صارت علبة الفول بشيكلين. كانت علبة الفول قد وصلت إلى ثمانية شواكل، وهي بالأصل مجرّد شيكل أو اثنين. الحياة في المخيّم تصوغ قوانينها الخاصّة. 
بقدر ما بدا هذا عادياً، بقدر ما بدا سوريالياً بطريقةٍ أو بأخرى. هناك تفاصيل كثيرة مؤلمة في حياتنا هنا، ولكن الأكثر ألماً حقيقة وجودنا في هذا الواقع. حقيقة ضياعنا في بحر الخيام وفي بقايا أرض البصل، في أننا ما زلنا عاجزين عن أن نفهم ما يجري. نظرتُ إلى الشاب الغاضب الذي أمسك "مشرطاً" بيده، وأخذ يلوّح به في وجه أحد الباعة، مهدّداً بأنه "سيفتح شوارع" في وجهه، إن سمع أنه يبيع بسعر مرتفع. أثار هذا الاستغلال الذي يمارسه التجار غضبا كثيرا في أوساط النازحين. أمر لا يصدق. مثلاً سمعت شاباً ينادي "أبو الشيكلين بسبعة مش بعشرة". فسعر ما كان يبيعه (أظنّه باذنجاناً) في الأصل شيكلان، لكنه لا يبيعه مثل الآخرين بعشرة شواكل، بل بسبعة. وبقدر ما في هذا من مفارقة فيه وقاحة وتبجّح، فهو يعترف أن السعر الحقيقي شيكلان، وهو يرفعه فقط إلى سبعة، ولا يستغل أكثر ويرفعه إلى عشرة كما يفعل الآخرون. سرتُ في الطريق إلى الخيمة، وأنا أقول لنفسي إن هذا الشاب الذي قاد المظاهرة وحمل المشرط الذي هدّد بفتح شوارع عبرها في وجه التاجر إن واصل استغلاله فقد يتحوّل إلى بطل شعبي مع الوقت، إن هو ظهر يومياً، وقاد المظاهرة نفسها، ونجح في فرض "تخفيض" على الأسعار. لا بد أن فتيات كثيرات سيعتبرنه فتى أحلامهن، كما أن شبانا كثيرين سيرون فيه الملهم والقائد والنموذج. كان وجهُه غاضباً وصوته أجشّ وهو يصرخ ويقول "لا للاستغلال"، وكانت خلفه مئات الحناجر تهتف مثله، وكنت غير مصدّق أن الألم يمكن أن يعلو ليطفو ويغضب. 
تم اكتشاف ثماني جثث لشبّان في مدرسة شادية أبو غزالة في منطقة الفالوجا في المخيّم يُعتقد أن الجيش أعدمهم ميدانياً. صور كثيرة يتم نشرها لجثث متحلّلة في الطرقات في جباليا. يموت كثيرون من دون أن يعرف عنهم أحد شيئاً فقط إذا تم العثور على جثثهم، ولم تكن قد تحلّلت بعد يتم التعرّف عليهم. وهؤلاء، أي من لم تكن جثثهم قد تحللت بعد، محظوظون، لأن هناك من سيتعرّف عليهم. أما هؤلاء الذين تتحلل جثثهم وتختفي ملامحهم ولا يعرف أحدٌ عنهم خبراً، فسيظلون يعذّبون أقرباءهم بعد رحيلهم، لأنهم سيظلون يتذكّرون أنهم عاجزون حتى عن الجزم بوفاتهم، ويظلّ الشك يأكل قلوبهم. من هنا، ربما ثمّة بعض الحظ عندنا بالنسبة لجثامين حاتم وهدى ومحمّد الذين ما زالوا يرقدون تحت الركام، على الأقل حتى لو كانت جثثهم قد تحلّلت فحن نعرف أن هذه البقايا لهم، لنا.

قضايا وناس
التحديثات الحية

المساهمون