إخراس محامي بيروت... قمع بحجة "آداب المهنة" وضرب لمجانية التقاضي

إخراس محامي بيروت... قمع بحجة "آداب المهنة" وضرب لمجانية التقاضي

07 ابريل 2023
تُعدّ معركة الحريات العامة من المعارك الكبرى (حسين بيضون)
+ الخط -

تشهد أروقة نقابة المحامين في بيروت حالة من التململ والانقسام منذ قرابة أسبوعين، إثر التعديلات الأخيرة التي أقرّها مجلس النقابة بشأن الظهور الإعلامي للمحامين، بحجة تنظيم وضبط المخالفات والحد من الفوضى الحاصلة، سواء عبر وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي. فالتعديلات التي نُشرت في 17 مارس/ آذار الماضي اشترطت على المحامين "الحصول على إذن مسبق من النقيب، قبل أيّ إطلالة إعلامية وقبل نشر أي تغريدة أو ملصق وحتّى قبل المشاركة في أيّ ندوة ذات بُعد قانوني أو إبداء رأي قانوني"، في حين كان النص سابقاً بيروت يكتفي بعبارة "يُستحسن إعلام النقيب". 
سياسة كمّ الأفواه في نقابة حقوقية ترفع لواء العدالة والحريات أثارت غضب عددٍ من المحامين الذين لجأوا إلى الطعن بالتعديلات، من منطلق اعتقادهم بأنّها فُصّلت لقمع فئة من المحامين المناصرين لحقوق الشعب اللبناني والملمّين بقضايا الشأن العام ومكافحة الفساد. النقابة التي سبق أن خسر فيها مرشّحو قوى التغيير الانتخابات الأخيرة عام 2021، كانت قد شهدت كذلك عام 2011 تقييداً لحرية المحامين من خلال منعهم من التداول بالقضايا القضائية.

وكان نقيب المحامين في بيروت ناضر كسبار، قد أوضح حيثيّات قراره قائلاً إنّه "يندرج ضمن سياق تنظيم آداب المهنة من دون أن يمسّ بالحريات العامة". ويكشف بعض المحامين أنّ "مخالفة التعديلات ستعرّض المحامي إلى الإحالة على المجلس التأديبي، على أن تتدرّج العقوبة من التنبيه الأخوي إلى تعليق الانتساب، وقد تصل إلى الشطب من النقابة".
وفي حين لم تبادر نقابة محامي طرابلس (شمالاً) إلى اتّخاذ قرارات مماثلة، واصلت نقابة بيروت قراراتها، وأصدرت جدول رسوم جديدة يشترط اقتطاعها بـ "الفريش دولار" بعدما كانت تُدفع بالليرة اللبنانية. قرارٌ إضافيّ خلق جدلاً بين أوساط المحامين الذين رأى بعضهم في حديثه لـ"العربي الجديد" أنّه "مخالف لمبدأ مجانية التقاضي، وهو محاولة لتحويل النقابة إلى مرتع محصور بالطبقة الميسورة. فكيف يُعقل ألا تُحدّد الرسوم بالإدارات العامة إلا بموجب قانون، وأن تُحدد رسوم باهظة عبر اجتماعٍ لمجلس نقابة المحامين؟".

الصورة
يلمّح البعض إلى محاولة تحويل النقابة إلى مرتع محصور بالطبقة الميسورة (حسين بيضون)
يلمّح البعض إلى محاولة تحويل النقابة إلى مرتع محصور بالطبقة الميسورة (حسين بيضون)

جنوحٌ خطير
ويصف المحامي جاد طعمة في حديثه لـ "العربي الجديد"، التعديلات الأخيرة بأنها "جنوح خطير ومخالفة للقانون والدستور اللبناني. وقد تقدّمنا كمجموعة محامين لهم صفة تمثيلية، سواء نقابيّاً أو مجتمعيّاً، بالطعن أمام المحكمة في 30 مارس/ آذار الماضي، ومن المفترض أن تتوالى الطعون تباعاً. ورصدنا مواقف معارضة للتعديلات من النائب ملحم خلف (النقيب السابق للمحامين) والنائب جورج عقيص (محام) والنقيب السابق ريمون عيد. حاولنا التفاهم مع مجلس النقابة للتراجع عن التعديلات، لكنّهم أصرّوا عليها واعتبروا أنّهم أحسنوا صنعاً". يضيف: "معركة الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير تُعدّ من المعارك الكبرى التي لا يمكن لأحد تجاهلها أو الوقوف بوجهها".
وإذ يوضح أنّ النقابة تسند التعديلات إلى "ضرورة ضبط المخالفات ووضع حد للفلتان الإعلامي من قبل بعض المحامين"، يتخوّف طعمة من أن تؤدّي التعديلات إلى "إسكات فئة من المحامين الذين يدافعون عن حقوق الشعب ويتابعون قضايا الشأن العام ويكافحون المخالفات الإدارية والفساد في المصارف، وبالتالي الوقوف بوجه جنوح العدالة، بعدما انقسم القضاة في ملف انفجار مرفأ بيروت".
ويسأل: "هل يُعقل أن ينتظر المحامي العامل في مجال الحقل العام ولديه طموح سياسي موافقة النقيب على كل نصف كلمة يريد التصريح بها، وعلى كل حديث قانوني؟ وهل سأتحدث كمحامٍ في السياسة والاجتماع والاقتصاد وعلم الذرة والنووي، في حين يُمنع عليّ التحدّث بالقانون من دون إذن؟ وهل نتخيّل مشاركة في ندوة سياسية أو اجتماعية، فلا نجيب إذا ما طُرح سؤال قانوني لأنّنا لم نحصل على ترخيص مسبق؟". ويكشف أنّ "الآليات السابقة ترعى القدرة على ضبط المخالفين وإحالتهم أمام المجالس التأديبية. والنص واضح. فالمحامي لا يستطيع أن يتحدّث بملف عالق أمام القضاء وملف دعوى أوكل إليه، وفي حال تطرّقِه لقضية شأن عام أو مكافحة فساد، يُستحسن أن يبلغ نقيب المحامين، ولكن بإمكانه عدم التبليغ وهذا ليس انتقاصاً من احترامه لموقع النقيب، بل يأتي من باب ثقة الجسم المهني بعضه بابعض الآخر. وكان يمكن للنص المعدل أن يكون أكثر وضوحاً ولا يكون شاملاً للجميع".
وعمّا شملته التعديلات من منع التهجّم على أعضاء مجلس النقابة (السابقين والحاليين)، يقول طعمة: "لم يكد يجف حبر التعديلات حتّى سُجّلت مخالفة بعد أسبوع، وأقدم المحامي محمد زعيتر وهو نجل الوزير السابق غازي زعيتر، على إهانة النائب خلف، وهو نقيب سابق وعضو دائم في مجلس النقابة، ولم تتم إحالته على المجلس التأديبي بل مجرد لفت نظره لوجوب محو التغريدة حسبما علمنا وقد رفض القيام بذلك. واكتفى النقيب كسبار بقول ما معناه إنه إذا اشتكى النقيب خلف، سنقوم بالواجب. لكن وفقاً لقانون تنظيم مهنة المحاماة، كان بإمكان النقيب تحويل زعيتر إلى المجلس التأديبي من دون الحاجة إلى طلب أو شكوى من صاحب العلاقة. وتأتي هذه الحادثة لتعزّز المخاوف لدى المحامين المكافحين للفساد بأنّ التعديلات تصيبهم دون سواهم، في حين يبقى المحامون الحزبيّون بمنأى عن أيّ مساءلة أو ملاحقة". ويبدي أسفه "للمفارقة التي نعيشها اليوم، إذ إنّ المحامي المنضوي ضمن إطار نقابة طرابلس يمتلك حرية الرأي والتعبير أكثر من زميله في نقابة محامي بيروت، وهذا خلل بمبدأ المساواة بين المحامين".

الصورة
طعن بعض المحامين بتعديلات النقابة (حسين بيضون)
طعن بعض المحامين بتعديلات النقابة (حسين بيضون)

استهدافٌ للخطاب الحقوقي الإصلاحي
يقول المدير التنفيذي لـ "المفكرة القانونية" المحامي نزار صاغية، إنّها "ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها النقابة إلى تقييد الحريات. ففي عام 2011، منعوا المحامين من التداول بالقضايا القضائية. وحينها اعترضنا من باب حق المجتمع بالاطّلاع على عمل القضاء حرصاً على الشفافية والعدالة". يضيف لـ"العربي الجديد": "حتّى أنّ استثناء القضايا الكبرى حينها من المنع وربطها بموافقة النقيب، بقي فضفاضاً من دون تحديد تعريف واضح. فالنقيب الحالي حصر القضايا الكبرى بقضيتَي اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري وتفجير المرفأ، في حين أنّنا نرى في قضايا العنف والتعذيب والاستغلال وقضايا حقوق الإنسان والفساد والشأن العام قضايا كبرى".
ويوضح صاغية أنه "عندما يكون الوضع المؤسّساتي بحاجة إلى إصلاحات كبرى، لا يمكن ترك المؤسّسات تعمل من دون رقابة وخطاب إعلامي، خصوصاً في ظلّ التدخلات السافرة والمزمنة بالقضاء، والتي تصل إلى حد تعطيله، كما أنّهم أغلقوا المحاكم ونشهد تعطيلها منذ أكثر من سنة بقرار سياسي. لذلك، فإنّ سبيلنا الوحيد يكمن باللجوء إلى الإعلام للاحتكام للرأي العام، من منطلق أنّ الشعب مصدر السلطات. وقد لحظنا مؤخراً تعطيل البتّ بقضايا حيوية كقضية انفجار مرفأ بيروت وإشكاليّة المصارف. فهل نبقى متفرّجين نواسي الضحايا أو نقوم بدورنا كمحامين مسؤولين عن الدفاع الشرس؟ كما أنّهم ابتدعوا مسألة مخاصمة الدولة عن أعمال القضاة ويستندون بذلك إلى المادة 751 التي تسمح لأيّ مُدّعى عليه بتعطيل الدعوى بمجرّد إبداء عدم ثقته بالقاضي. وهذا المبدأ جمّد التحقيقات في قضية المرفأ". ويرى صاغية أنّ "التعديلات تستهدف الخطاب الحقوقي الإصلاحي الاحتجاجي، لأنّ المحامين هم أكثر من يفقهون القانون والأكثر شهوداً على عمل المحاكم وما تشهده النقابة، فإسكاتهم عن التجاوزات والقضايا أمر خطير لا يقيّد حرية آلاف المحامين فحسب، إنّما يجرّدهم ويجرّد المجتمع من أحد الأسلحة التغييرية المهمة في أحلك الأوقات. إنّها عملية اغتيال لحرية المحامين ولآمال المجتمع اللبناني بالتغيير".
ويرى أنّ "التعديلات وسّعت القيود وطاولت القضايا العامة التي لا علاقة لها بالقضاء، كقانون السرية المصرفية واستقلال القضاء وإصلاحات قضائية، وبتنا بحاجة لإذن مسبق قبل التحدّث فيها. إنّها موانع أساسية مخالفة للمعاهدات الدولية، وقد أُقرّت من دون أسباب موجبة. كما يكمن الأمر الخطير بمنعنا من انتقاد النقيب وأعضاء مجلس النقابة والمحامين، وكأنّه نوع من عملية تحصين لأنفسهم تحت مسمّى "منع التجريح".
ويبدي صاغية امتعاضه من "تغاضي النقابة عن اتّخاذ أيّ إجراء بحق بعض المحامين الذين يلجأون لوسائل غير مشروعة للتأثير على القضاء، في حين تشترط الموافقة المسبقة على الظهور الإعلامي، علماً أنّه وسيلة علنية مشروعة لإبداء الرأي. فنحن لسنا مع الفوضى، لكن لا تقيّدوا حرية المحامي، وفي حال خالف الأصول حاسبوه. لكن اشتراط الحصول على إذن النقيب يعني رقابة مسبقة على شخص المحامي ومضمون حديثه، وبالتالي يتيح للنقيب إمكانية الانتقام من أيّ محامٍ ينتقده. بمعنى آخر يكرّس الكيديّة والاستنسابيّة من دون ضوابط ومعايير. كما أنّه بات ممنوعاً علينا نشر أيّ قرارات قضائية، وهذا أمر خطير مخالف لمبدأ حرية النشر".

محاربة الفساد لا تحتاج لإذن
ويلفت المحامي علي عباس إلى أنّ "حرية الرأي والتعبير مكرّسة بالدستور، ولا تُحصر بمواضيع دون سواها ولا تحتاج إلى إذن مسبق. وندعم زيادة هامش الحريات وليس قمعها. وفي حال ارتكاب ممارسات خاطئة، هناك قوانين ترعى المخالفات التي تتعدّى حدود الحرية أو التي تسيء للنظام المهني. فالردع لا يكون من خلال القمع، إنّما باعتماد أدوات للمحاسبة والمساءلة".
وعن اعتبار النقيب أنّ المحامي مكانه المكتب وقصور العدل والدوائر الرسمية وليس الشارع، يقول عباس: "منذ بدء الأزمة عام 2019، أشارك في التظاهرات بصفتي مواطناً لبنانيّاً يعيش وسط منظومة فاسدة نهبت المال العام وأموال المودعين وقتلت الأرواح في انفجار المرفأ. فقضايا محاربة الفساد لا تحتاج لإذن، وسأكمل فيها حتى الرمق الأخير، كونها معركة "نكون أو لا نكون". وعندما أتقدّم بإخبارات أمام القضاء، لا أتقدّم بها كمحامٍ فقط، إنّما بالشراكة مع إعلاميين ومواطنين، لأنّ من حق كلّ مواطن أن يطالب بالمال العام وبأمواله المودعة في المصارف. كما أنّني اتّخذتُ صفة الادّعاء الشخصي في ملف انفجار المرفأ، لأنّ منزلي تدمّر. فلن يخيفنا أحد بإسكاتنا ولن يمنعنا من محاربة الفساد". ويستغرب عباس التعديلات قائلاً: "لم نخالف نظام المحامين في إطلالاتنا الإعلامية. لم نتطرّق يوماً إلى قضايا عالقة لموكلين ولم نفشِ سريّة تحقيقات. كما أنّنا لم نتحدث إطلاقاً عن قضية قانونية أو قضائية ولم نقدّم استشارات قانونية، إنّما تناولنا قضايا شأن عام ورأي عام، وهذا حق لا يمكن لأحد أن يمنعنا عنه". وإذ يعلن استعداده لطلب الإذن "في حال كان النقيب متعاوناً"، كشف أنّ تجاربه مع نقباء سابقين لم تظهر سوى الكيديّة في التعاطي معه وإعطاء الإذن بملاحقته.
وعن استخدام بعض المحامين لوسائل الإعلام كمساحة لتسويق أنفسهم، يقول عباس: "لم نلجأ يوماً إلى الدعاية. بل على العكس، خسرنا موكلين بسبب نزولنا إلى الشارع، وأصبح البعض يتجنّبنا". يضيف: "على الرغم من أنّني عرضة للهجوم نظراً لمشاركتي في التظاهرات واقتحام الوزارات المعنيّة بملفات الفساد، إلا أنّني لم أطلب يوماً حماية النقابة، وكنتُ أشارك كمواطنٍ يطالب بحقه وحق الشعب وليس كمحام. لكن النقابة حينذاك أصرّت على منحي الحصانة. وللمصادفة عندما طعنت النيابة العامة بالقرار، تمّ مؤخراً فسخ قرار النقابة وملاحقتي من جديد. ووقّع أعضاء مجلس النقابة بالموافقة على قرار المحكمة عوض حجب الإذن". ويختم عباس حديثة قائلاً إن "كل مواطن له الحق في التظاهر ضد الفساد والارتكابات، لا سيّما في لبنان، حيث السرقة والنهب والتجاوزات والتحكّم بالسلطة وفق المحاصصات والمحسوبيات".

المساهمون