"القطار الخفيف" في القدس... لتكريس الاحتلال وربط المستوطنات

"القطار الخفيف" في القدس... لتكريس الاحتلال وربط المستوطنات

04 ديسمبر 2014
الاحتلال يزيد الإجراءات الأمنية لحماية القطار (Getty)
+ الخط -

لا يمكن في بلد يقع تحت الاحتلال، تصنيف المنشآت العامة التي يبنيها الاحتلال ضمن خانة "المشاريع المدنية" أو "المرافق العامة"، فكلّ ما ينتج عن هذا الاحتلال هو بالضرورة لخدمته وتحقيق مصالحه.

وفي فلسطين المحتلة، يدخل "القطار الخفيف" في القدس ضمن هذه المشاريع، فمن خلال الاطلاع على تاريخ هذا القطار والخطّة الأوسع التي تشمله، يتضح أنه مشروع سياسي بامتياز، يخدم الأهداف الإسرائيلية في تثبيت الوقائع على الأرض، وإحكام السيطرة على "القدس الموحّدة كعاصمة لإسرائيل"، ولا يختلف وجوده على الأرض عن وجود قوة عسكرية.

لكن هذا القطار أضحى بالفعل "خفيفاً" بعد انخفاض أعداد المسافرين فيه، خصوصاً في المقاطع التي تمرّ من وسط قرية شعفاط. ومن ناحية أخرى، بات القطار وما يرتبط به من تكاليف وعمليات مراقبة وحراسة، "ثقيلاً" على سلطات الاحتلال، عدا عن كونه "ثقيلاً" على الفلسطينيين ومدينتهم المقدسة.

في يوليو/تموز الماضي، ومنذ اللحظات الأولى لانتشار خبر اختطاف الشهيد محمد أبو خضير، وقف الأهالي أمام القطار الأول الذي خرج الساعة الخامسة والنصف فجر الثاني من يوليو/تموز، معلنين أنه لن يمرّ من شعفاط. تلا ذلك مواجهات شديدة مع قوات الاحتلال أمام بيت الشهيد الواقع على الشّارع الرئيس في القرية، والمحاذي تماماً لخط القطار.

خلال تلك المواجهات، لم يألُ الشّبان الفلسطينيون جهداً في تدمير البنية التحتية الخاصّة بالقطار. أشعل البعض النار في مسالك الحديد التي يمشي فوقها القطار، وحاول البعض قصّ أعمدة الكهرباء المشغّلة له، بينما كسر آخرون آلات استصدار التذاكر، وكتبوا على ما بقي من مرافق شعارات مناهضة للاحتلال. يتحدث المقدسيون عن ذلك بفخر مرددين الأرقام المرتفعة لخسائر الشركة الإسرائيلية المشغلة للقطار "سيتي باس".

في المقابل ردد البعض ممن يريدون للشبان الاحتجاج "السلمي" و"الحضاري"، على حد تعبيرهم، ادعاءات أن القطار من المَرافق العامة في المدينة، وبالتالي لا مبرر منطقي أو أخلاقي لاستهدافه، كما يقولون.

وتقول فتاة فلسطينية تسكن في شعفاط لـ "العربي الجديد": "بصراحة أنا أضطر لاستخدام القطار للوصول إلى جامعتي الإسرائيلية غربي القدس، لأنه الوسيلة الوحيدة المتاحة لي للوصول هناك، إلا أني أرى استهدافه أمراً طبيعياً بل واجباً، هذا القطار باختصار لربط المستوطنات وخنق العرب".

ويأتي "القطار الخفيف" ضمن خطّة استراتيجية شاملة تتشارك فيها جهات حكومية إسرائيلية متعددة منها البلدية ووزارة المواصلات، لبناء شبكة نقل عام حديثة ومتطورة في مدينة القدس المحتلة، وهي المدينة الأولى التي يبني فيها الاحتلال قطاراً كهذا، وستتبعها تل أبيب.

يقول القائمون على هذه الخطة بأن القدس هي المدينة الأكبر في إسرائيل لجهة عدد السكان، ولا بدّ لها من شبكة مواصلات تليق بكونها "العاصمة الموحّدة للشعب الإسرائيلي". ويروّج لهذه الخطة على أنها ستسهّل وصول الإسرائيليين إلى القدس وتنقلهم داخلها، كما ستجعلها تليق بالمستوى العالمي لاستقطاب السّياح.

القطار كجزء من خطّة سيادية واسعة

يمتد مسار القطار الخفيف الحالي، والمسمى "الخطّ الأحمر"، نحو 14 كيلومتراً، من مستوطنة "بسجات زئيف" شمالي القدس المحتلة، والمقامة على أراضي بيت حنينا وشعفاط وحزما، إلى منطقة "جبل هرتسل".

ويقف هذا المسار في 23 محطة، منها 3 محطات هي "بيت حنينا، وشعفاط، والسهل"، تخترق وسط قرية شعفاط الفلسطينية. وبطبيعة الحال، يوظّف الإسرائيليون وجود هذه المحطات الثلاث، للقول بأن هذا القطار لخدمة الجميع عرباً ويهوداً، وأنه مشروع "مدني حضاري"، لا شأن في السياسة فيه.

في المستقبل القريب، سيمتد هذا الخطّ لمسافة 21 كيلومتراً بـ31 محطة، آخرها مستشفى هداسا عين كارم جنوبي القدس المحتلة، بتكلفة تصل إلى ملياري شيكل ونصف المليار (نحو 650 مليون دولار أميركي)، وسينتهي العمل فيه حسب التقديرات عام 2020.

كما يُخطط لبناء خطّ قطار "الجامعة"، الذي سيربط بين حرمي الجامعة العبرية شرقي المدينة وغربها، إضافة إلى خط آخر يصل مستوطنة "رموت" في الشمال بمستوطنة "جيلو" في الجنوب، ومن المتوقع أن ينتهي العمل بهما عام 2025 بتكلفة 12 مليار شيكل (3 مليارات و110 ملايين دولار أميركي).

إضافة إلى ذلك هناك 3 خطوط أخرى ما زالت تنتظر المصادقة النهائية على إنشائها، ليصل بذلك عدد خطوط القطار الخفيف إلى ستة. كما تشمل الخطة الإستراتيجية دعم خطوط القطارات هذه بنظام محسّن ومطوّر من خطوط الحافلات التي تضمن تغطية كاملة ومكثفة على مدار الساعة لجميع مناطق القدس المحتلة.

هذه المخططات هي من ضمن خطة أوسع تشمل الطرق والشوارع السريعة، وتسارَع تنفيذها في السنوات الأخيرة. ففي العام الماضي افتتح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شارع رقم 20 والذي يحمل أحد مفارقه اسم والده "بنتسيون"، وهو يسهّل مرور مستوطني شمال القدس المحتلة والضفة إلى جنوبها. إضافة إلى شارع 21 المتصل معه والمقام على أراضي شعفاط المصادرة.

كما شهد العام الماضي بدء العمل المكثف على توسيع "شارع بيجن" ووصله بشارع رقم 4 جنوبي القدس المحتلة، الذي شوّه ما بقي من طابع بيت صفافا القروي وقسّم أراضيها، بمسالكه السّتة السريعة في كلا الاتجاهين، والذي يهدف إلى تسهيل وصول المستوطنين في "جوش عتصيون" شمالي الخليل إلى قلب مدينة القدس المحتلة ومنها إلى تل أبيب، أو شمال القدس.

وليس بعيداً عن هذه المخططات والشوارع، ما يجري في الشارع التاريخي الرابط بين يافا والقدس المحتلة، وهو ما يعرف بشارع باب الواد، أو وادي علي، وهو الوادي الذي جرت على أطرافه أشرس المعارك بين القوات الصهيونية والمجاهدين الفلسطينيين عشية النكبة.

فالشارع الذي يعرف اليوم بشارع رقم 1 ويربط القدس المحتلة بتل أبيب، كان ضيقاً بمسارين فقط في كلّ اتجاه، يجري توسيعه اليوم ليصبح 3 مسارات واسعة في كلّ اتجاه.

وبموازاة الشّارع، تعمل الجرافات بشكل حثيث على بناء جسر ضخم ومرتفع وحفر الأنفاق، استعداداً لتشغيل القطار السريع بين القدس المحتلة وتل أبيب الذي سيجعل زمن الانتقال بين المدينتين 28 دقيقة فقط، في حين أنه يصل بالقطار القائم اليوم إلى ما يقارب الساعة والربع. وسينتهي العمل في هذا القطار السريع مع نهاية عام 2017.

وهكذا يمكن للإسرائيليين الذين عُرفوا بتذمرهم من الأزمات المرورية في القدس المحتلة، أن يصلوا إليها ويتنقلوا فيها ويعززوا التواجد اليهودي فيها بعيداً عن عناء الانتظار والتأخر. وقد ساهم القطار الخفيف خلال الشهر الأول من افتتاحه بارتفاع عدد الزائرين لمركز القدس الغربي، إلى ما يقارب 430 ألف زائر في الشهر؛ وهو ما يمثل ارتفاعاً بنسبة 46 في المائة عن العامين السابقين.

وفي حديث لـ "العربي الجديد"، يقول عنان غيث، أحد العاملين في التجمع السياحي المقدسي، وهو تجمع فلسطيني يحاول إيجاد برامج سياحية فلسطينية للسائح الغربي في القدس المحتلة، إن بناء القطار السريع من تل أبيب إلى القدس والقطار الخفيف داخل القدس، هو إحدى الوسائل لاستقطاب السائح العالمي الذي لم تعد تغريه مكاتب السياحة التقليدية، وانتقل إلى نمط السياحة الفردية.

ويضيف غيث: "تضمن هذه الشبكة المريحة والسريعة من المواصلات للسائح الفردي التنقل من مطار بن غوريون إلى قلب القدس المحتلة والتنقل داخلها، وهي خدمة ممتازة تسهل استقطاب المزيد من السائحين".

ولا يفصل غيث مشروع القطارين الخفيف والسريع عن مشاريع اقتصادية سياحية أخرى، تسعى سلطات الاحتلال إلى تنفيذها في القدس المحتلة مثل بناء المجمعات التجارية الضخمة بمحاذاة أسوار القدس التاريخية، في محاولة لتغيير الطابع العربي الإسلامي للمدينة.

كل ما سبق ليس "خططاً تطويرية للمواصلات" فحسب، بل هي خطط تطويرية للمواصلات في سبيل خدمة هدف البقاء والتمدد.

يريد الاحتلال أن يوفر لنفسه كلّ مقومات الحياة العصرية المريحة، ليضمن أعداداً كافية من الإسرائيليين، تسعى للسكن والعمل في المدينة المحتلة، وتحفظ الميزان الديموغرافي الذي يريد.

في الوقت نفسه، يحقق الاحتلال هدفاً آخر بشق هذه الشوارع وإنشاء القطارات، هو تقييد قدرة الفلسطينيين على التوسّع وتشكيل كتلة واحدة، فهذه المخططات تحوّل بعض القرى والأحياء الفلسطينية في القدس المحتلة إلى أحياء أصغر مفصولة عن امتداداتها الجغرافية والسكانية، ويصبح ابن بيت صفافا، مثلاً، بحاجة إلى نصف ساعة لينتقل إلى بيت جاره المقابل له، بعد أن كان يقطع الشارع مشياً على الأقدام ليراه.

كما أن القطار الخفيف يقضي على أي أمل لدى السلطة الفلسطينية بإنشاء دولة تكون شرق القدس عاصمتها، إذ إن خط القطار يصل شرق القدس بغربها ويثبت المقولة الإسرائيلية حول "القدس الموحّدة".

وكان رئيس حكومة الاحتلال السابق آرييل شارون قال في يوليو/تموز 2005 خلال حفل التوقيع على اتفاقية بناء القطار الخفيف، بأن هذا المخطط يخدم هدفين "تطوير البنى التحتية وتعزيز القدس". وأضاف في خطابه حينها: "أعتقد أنه يجب أن نخوض كل المعارك من أجل فعل أي شيء يساهم في تعزيز القدس وبناء القدس، وتوسيع القدس، وبقائها إلى أبد الآبدين كعاصمة الشعب اليهودية والعاصمة الموحّدة لدولة إسرائيل، وأنا أتعهد أمامكم بدعم كل جهد في هذا الإطار".

القطار اليوم

بعد أسبوع من المواجهات في يوليو/تموز الماضي، عاد القطار للمرور من وسط قرية شعفاط، مترافقاً مع الإعلان عن خطط لحمايته ومراقبته.

في البداية رافقت دوريات شرطة الاحتلال سير القطار، وتم تكثيف أعداد عناصر الشرطة المتواجدة في المنطقة. إضافة إلى ذلك، تحلّق في سماء المدينة بشكل شبه يومي طائرة لمراقبة أشمل من السماء. كما قامت بلدية الاحتلال بإنشاء محطة لإطلاق منطاد هوائي مزوّد بكاميرات مراقبة على مدخل قرية شعفاط الشمالي، تُشغلها بالتعاون مع الشرطة الإسرائيلية.

ولم يتوقف استهداف القطار حتى بعد كل هذه الترتيبات الأمنية، فحوادث إلقاء الجارة والمولوتوف عليه مستمرة وهي شبه يومية. وقد أدى ذلك إلى انخفاض أعداد المسافرين فيه بنسبة 20 في المائة، ووقعت أعطال بما يقارب ثلث العربات الموجودة.

أحد الشبان من شعفاط يعلّق على ذلك لـ "العربي الجديد" بالقول: "القطار لدى الناس هنا مرادف للمستوطنين، وعندما تقول مستوطنين فإنهم فوراً يتذكرون الشهيد أبو خضير"، متوقعاً أن يستمر استهداف القطار من قبل الشبان الغاضبين.

ولا يبقى في ظلّ كل هذه الخطط التي ينتمي لها القطار مكان لمن يقول: "هذا مرفق عام، اتركوه وشأنه!".