هل وصل اليسار التونسي إلى محطته الأخيرة؟

هل وصل اليسار التونسي إلى محطته الأخيرة؟

06 يونيو 2019
أدى اليسار التونسي دوراً محورياً في الثورة(الشاذلي بن إبراهيم/Getty)
+ الخط -
يبدو أن "الجبهة الشعبية" اليسارية التونسية، التي تضمّ نحو 11 حزباً وتجمعاً وبعض المستقلين، قد انهارت أو أنها تسير بنسق سريع نحو التفتت والانهيار الكامل. فالتقارب الاستثنائي الذي حققه شكري بلعيد قبل اغتياله (6 فبراير/شباط 2013) انقلب اليوم إلى معركة مفتوحة بين أهم فصيلين ماركسيين منضويين تحت لواء الجبهة، حزب العمال الشيوعي وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد. بدأ الخلاف في ظاهره عندما قدّم كل حزب مرشحه لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة (نوفمبر/تشرين الثاني المقبل) باسم الجبهة، ورغم أن حظوظ كل واحد منهما تبدو ضعيفة، إلا أن الأزمة في حقيقتها تبدو أعمق من ذلك بكثير. مع العلم أن "الجبهة الشعبية" شكّلت صيغة متقدمة في تاريخ اليسار التونسي. وكان بلعيد يقف وراء هذا الإنجاز. وعلى الرغم من اغتياله، تمكنت الجبهة من الالتحام والصمود، ونجحت في جمع أهم ممثلين عن التيار الماركسي من جهة، وممثلين عن التيار القومي بشقيه البعثي والناصري من جهة ثانية. وتمكنت الجبهة بفضل ذلك التحالف من خوض الانتخابات البرلمانية في سنة 2014، وحصدت 16 مقعداً مما مكنها من تأسيس كتلة نشيطة هي الرابعة داخل مجلس النواب، وأصبحت جزءاً حيوياً ومؤثراً من المعارضة البرلمانية.

ورغم تماسكها الظاهري، إلا أن الجبهة كانت تعيش أزمة صامتة. كان حزب "الوطد" (حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد) يشكو مما يعتبره "هيمنة حمة الهمامي" وتوظيف الجبهة لمصلحته السياسية. الوطنيون الديمقراطيون يعتقدون بأن الهمامي "ليس ديمقراطياً"، ولا يقرّ "بإدارة التنوع والاختلاف"، وأنه قد "يصبح عائقاً أمام استمرار وحدة اليسار". في المقابل يتهمهم خصومهم داخل حزب العمال بكونهم "انقلابيين وغير منضبطين ولهم طموحات لا تقرها بقية مكونات الجبهة"، وأن منهم "من يغازل السلطة ويبحث عن وزارة".

عجز اليسار التونسي منذ نشأته عن بناء جبهات سياسية والمحافظة عليها، ذلك لأن تاريخه هو تاريخ الانقسام والتشرذم والصراع على المواقع. أنهكته الخلافات الأيديولوجية، وتضعه حرب الزعامة الدائرة اليوم أمام مستقبل قاتم. والذين راهنوا على الجبهة من التونسيين وظنوا أنها ستخرج اليسار من الدوامة التي عصفت به منذ سبعينات القرن الماضي، يشعرون حالياً بخيبة أمل قاسية، ويدركون أن انهيار مشروع "الجبهة الشعبية" سيدخل اليسار في نفق مظلم وطويل.

رفضت التنظيمات اليسارية فكرة المشاركة مع غيرها في تشكيل حكومات ائتلافية وإدارتها. وكلما طلب من الجبهة المشاركة في السلطة، كانت تضع شروطاً تعجيزية لم تقبلها الجهات الداعية. وهو ما دفع بعناصر يسارية نحو القبول بذلك بصفة فردية. هؤلاء الذين غامروا برصيدهم السياسي تعرضوا بسبب قبولهم إلى حملات شعواء أخرجتهم من دائرة "التقدميين"، وتمّ تخوينهم واتهامهم بـ"الانتهازية" و"بيع ذممهم للمافيات السياسية". وكأن اليسار خلق ليكون فقط في المعارضة، أو أن يتسلم الحكم بمفرده ومن دون شريك. مع العلم أن اليسار التونسي غير قادر على الوصول إلى السلطة معتمداً فقط على نفسه وعلى إمكاناته المحدودة. فهو غير قادر على كسب ثقة غالبية الشعب، وتشهد على ذلك النتائج المتتالية للانتخابات التي نظمت في تونس منذ الثورة (2010).

التحدي الآخر الذي واجهه اليسار التونسي وفشل حتى الآن في كسره، يتمثل في العلاقة العدائية المستمرة مع الإسلاميين. ودائماً ما كان التياران في حالة خصومة دائمة وكراهية شديدة اختلط فيها العقائدي بالسياسي. ولخّص المثقف اليساري المستقل محمد الشريف الفرجاني هذه العلاقة بالقول: "علاقة الإسلام السياسي واليسار في تونس ما انفكت تتأرجح بين وطأة العداء الأيديولوجي وتأثيرات الشعبوية والحسابات السياسية الظرفية". ولم ينتبه هذا اليسار إلى أنه بأفكاره ومواقفه وخلافاته قد أصبح منذ فترة طويلة أحد العوامل المغذية لهذا الإسلام السياسي. وما تصدّع "الجبهة الشعبية" إلا دليل على ذلك، لأن من بين أهم تداعياته تعميق اختلال التوازن بين اليسار والإسلاميين الذين سيكونون في مقدمة من سيستفيدون من ذلك بحكم قانون الطبيعة التي تكره الفراغ، وأن السياسة قائمة على موازين القوى. فحركة النهضة ستكون من بين المستفيدين من الأزمة الهيكلية التي تعيشها الجبهة، وإن كان جمهورها الانتخابي مختلفا عن الجمهور المتعاطف مع اليسار.

يشعر عموم اليساريين بعمق المأزق الذي يمرون به، حتى الأحزاب الصغيرة ذات المرجعية اليسارية التي لم تنضم إلى "الجبهة" أو خرجت عنها، تعيش نفس الحالة وتتخبّط في الأزمة، من دون أن تشعر بكونها ستنتصر في لحظة ما. لقد انتصر اليمين بمعظم تياراته السياسية والفكرية رغم أن لهذا اليمين أزماته ومآزقه، لكنه بقي أكثر التصاقاً بالجمهور، وأشدّ ارتباطاً بحركة الاقتصاد والمجتمع. يعتقد الأمين العام لحزب القطب، رياض بن فضل، الذي لم ينسحب من هذا التحالف رغم تعدّد انتقاداته له، أن "تركيبة الجبهة لم تعد مواكبة للعصر". وكل المؤشرات تدل على أن حالة عموم اليسار لا تعاني فقط من وجود خلل في تركيبتها، أو حتى في غياب الممارسة الديمقراطية داخل هياكلها كما يقول "وطد" وغيره، بل هناك أيضاً مشكلة أكبر وأشدّ تعقيداً تمس بنية التفكير اليساري الذي لا يزال نمطياً، رغم بعض التطور الذي شهده، ومحكوماً بثوابت لم تعد قادرة على تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الجديد، الذي لم يهيمن فقط على دول العالم الثالث، بل فرض نفسه كنمط ساد أو يكاد يسود كل المجتمعات والدول.