زوبعة ترامب في قمة الأطلسي: ابتزاز بحثاً عن انتصار

زوبعة ترامب في قمة الأطلسي: ابتزاز بحثاً عن انتصار

13 يوليو 2018
يميل ترامب للاستعراض في الاجتماعات التي يحضرها (دورسان أيدمير/الأناضول)
+ الخط -
على الرغم من أجواء التوتر الكبيرة التي سادت خلال قمة حلف شمال الأطلسي التي انعقدت في بروكسل على مدى اليومين الماضيين بسبب الهجوم الذي قاده الرئيس الأميركي دونالد ترامب على أبرز دول الحلف، وتركيزه على الخلاف حول نسب إنفاق كل دولة، وحتى تهديداته الصريحة لحلفائه، إلا أن الحرص بدا واضحاً على إظهار أن الحلف، لو شكلياً، خرج من قمته الأخيرة أقوى من الفترات السابقة.
ولا يمكن فصل هذا الحرص الذي أبداه قادة الاتحاد الأوروبي، رغم أن الخلافات هي التي هيمنت ورغم الابتزاز الواضح الذي طغى على سلوك ترامب، عن مجموعة من الأسباب، أبرزها تزايد الهواجس لدى قادة الاتحاد الأوروبي والخبراء الأمنيين من ارتدادات أي إضعاف للحلف على اعتبار أن روسيا ستكون المستفيد الأكبر منه، خصوصاً أن ترامب لم يتردد في القول مرتين خلال أيام معدودة، إن الاجتماع المقرر أن يعقده مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يوم الإثنين المقبل يكون أسهل اجتماع خلال زيارته لأوروبا، مضيفاً أن موسكو منافس وليست عدواً. ورداً على سؤاله عما إذا كان بوتين يشكل تهديداً، قال ترامب أمس "لا أريده أن يكون كذلك ولهذا لدينا حلف شمال الأطلسي". وأضاف "إنه منافس... هل هو عدوي؟ إنه ليس عدوي... آمل أن يصبح يوماً ما صديقاً. أنا فقط لا أعرفه جيداً".



أما السبب الآخر وراء الحرص على تجاوز سلوك ترامب، فيتعلق بإدراك قادة الاتحاد الأوروبي بأن ترامب يميل إلى الاستعراض في الاجتماعات التي يحضرها، تحديداً في القمم المتعددة الأطراف. وهو ما يجعله يبحث دائماً عن تصعيد وإحداث ضجيج، وسط ميل واضح لديه لاختتام مشاركته بالإعلان عن "انتصار" حتى لو كان وهمياً أو أقل مما يحاول تصويره. ويترافق ذلك مع حرص ترامب على الانتقال من القمم متعددة الأطراف، والتي بات مؤكداً أنه لا يميل إليها، إلى قمم ثنائية يعتقد أنها تتيح له إيقاعه الخاص. وبينما غادر ترامب قمة السبع وتوجه إلى سنغافورة لعقد القمة مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، انتقل ترامب من بروكسل أمس إلى بريطانيا، على أن يتوجه بعدها إلى فنلندا للقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
ولعل التوقف عند ما قام به خلال مشاركته في قمة مجموعة السبع قبل أسابيع بعد طرحه سياسته الحمائية في التجارة فضلاً عن اقتراحه إعادة روسيا للمشاركة في مجموعة الثماني (دول مجموعة السبع + روسيا) وحتى تلويحه بمقاطعة أعمال القمة وانسحابه المبكر منها وتراجعه عن الموافقة على بيانها الختامي، ومقارنة كل ذلك بما قام به على مدى يومي مشاركته في قمة حلف شمال الأطلسي، يظهر سلوكاً يتكرر لدى ترامب، خصوصاً بعدما لم يتردد في ابتزاز حلفائه لدفعهم لرفع نسبة الإنفاق العسكري، من خلال التأكيد أنه "قد يكون قادراً على سحب بلاده من الحلف من دون موافقة الكونغرس، لكنه لا يرى ضرورة لذلك الآن"، وهو ما جعل القمة تبدو وكأنها تتمحور حول هذه النقطة فقط على الرغم من قائمة القضايا الأساسية الأخرى على غرار القضية الأوكرانية، والوضع في أفغانستان، والعلاقة مع روسيا.
ولا يثير سلوك ترامب استياء الحلفاء فقط، بل يتسبّب في مخاوف داخل الولايات المتحدة أيضاً، خصوصاً أنه يسعى إلى تصوير نفسه على أنه الأقوى والذي لا يستطيع أحد الاستغناء عن التواصل معه على غرار حديثه عن إيران أمس عندما قال "إيران باتت تتعامل مع الولايات المتحدة بقدر أكبر بكثير من الاحترام مما كان عليه الحال في السابق"، قبل أن يضيف "إيران ستتصل بي في وقت ما وتطلب التوصل لاتفاق وسنفعل ذلك".
وفي السياق، قال وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، في بيان على تويتر "لم أرَ رئيساً يقول شيئاً غريباً أو غير مجدٍ مثل ترامب ضد حلف شمال الأطلسي وألمانيا، كان الأمر مخزياً ومدمراً". وسأل كيري في بيانه "لماذا يجعل الرئيس ترامب خصومه من أصدقائنا، ويحول خصومنا الذين كانوا يهاجمون ديمقراطية أميركا إلى حليفه الثنائي". وأضاف "ما كان معروضاً في قمة بروكسل لم يكن سلوك قائد قوي ومبدئي وحكيم". وأضاف موجهاً حديثه لترامب "كفى، فهذا ليس جيداً بالنسبة للولايات المتحدة".
وكانت التسريبات التي نقلتها وكالة "رويترز" أمس الخميس تحدثت عن أن ترامب هاجم شركاءه في حلف شمال الأطلسي في ما يتعلق بالإنفاق والممارسات التجارية الأوروبية خلال جلسة مغلقة ضمن قمة للحلف أمس، ما اضطر قادة الحلف للطلب من الدول غير الأعضاء التي كانت حاضرة مثل أوكرانيا وجورجيا مغادرة القاعة لعقد جلسة غير مقررة تقتصر على الحلفاء فحسب.
وبحسب ما نقلت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية عن أحد المسؤولين الذين كانوا موجودين في غرفة الاجتماع المغلق، لم يتردد ترامب في قراءة نسبة إنفاق كل دولة من الدول الحاضرة، حتى أنه كان يخاطب بعض القادة الموجودين قائلاً: "يا صديقي، أنت لطيف جداً معي. لكن أنا آسف لأنك تنفق القليل جداً".
كما نقلت عن مسؤولين اثنين قولهما إن ترامب أخبر نظراءه أنهم إذا لم يحققوا أهداف إنفاقهم الدفاعي بنسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول يناير/كانون الثاني المقبل، فإن "الولايات المتحدة ستسير وحدها"، مهدداً "بالقيام بأمره الخاص"، تاركاً تفسير كلماته وما تعنيه مفتوحاً على احتمالات عدة.
لكن الأهم أن كل تهديد قام به ترامب كان مدروساً بشكل مسبق. وبحسب ما أفادت صحيفة "واشنطن بوست"، فإن ترامب كان قد أخبر كبار مساعديه الأسبوع الماضي أنه كان سيلجأ إلى تهديد دول الحلف بشأن الخلاف حول الإنفاق العسكري وأنه كان عازماً على قلب الطاولة قبل مغادرته بروكسل. وهو ما قام به بالفعل، إذ نقلت الصحيفة عن أحد المسؤولين الحاضرين في الاجتماع قولهم "لقد فهم كل شخص في الغرفة أننا سنواجه كارثة إذا لم نحل هذا الوضع اليوم". وقال المسؤول: "كان هناك مخاوف من أن ترامب قد يكرر أداءه في قمة مجموعة السبع الشهر الماضي عندما سحب موافقته على الإعلان الختامي بعد أن وافق أولاً على ذلك. وأنه إذا حدث ذلك في حلف شمال الأطلسي، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى إضعاف الحلف".
وبعد كل ما قام به، خرج ترامب في مؤتمر صحافي أمس محاولاً احتواء الموقف ليعلن أن يومين من المحادثات الشاقة جعلا الحلف "أقوى بكثير"، مشدداً على أنه تم "إحراز تقدّم هائل". وأضاف ترامب بعد الاجتماع الطارئ بشأن قضية الإنفاق أن "الجميع وافق على زيادة مهمة لالتزاماتهم سيرفعونها إلى مستويات لم يفكروا بها من قبل"، من دون أن يحدد هذه النسبة، وإن كانت معظم الدول لا توافق على طلبه رفع نسبة الإنفاق إلى أربعة في المائة من إجمالي ناتجها الداخلي.
في موازاة ذلك، كان ترامب حريصاً على المجاهرة بما قام به خلال القمة بقوله "أبلغتهم بأنني مستاء جداً مما يحصل وقاموا بزيادة كبيرة لالتزاماتهم والآن نحن سعداء جداً ولدينا حلف أطلسي قوي جداً جداً، أقوى مما كان عليه قبل يومين". وقال ترامب خلال المؤتمر الصحافي في بروكسل "لم تُعامَل الولايات المتحدة بعدلٍ، لكننا اليوم نحصل على هذه المعاملة. أؤمن بالحلف الأطلسي". وأكد "أن التزام الولايات المتحدة بالحلف الأطلسي لا يزال قوياً"، مضيفاً أن ذلك "يعود بشكل رئيسي للأموال الإضافية التي تعهدت بها" الدول الأخرى.
لكن هذا الالتزام الذي تحدث عنه ترامب سرعان ما تبين عدم دقته، وهو ما اتضح خصوصاً من تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون. صحيح أن الرئيس الفرنسي قال إن حلف شمال الأطلسي "خرج أكثر قوة" بعد قمة بروكسل وأكد أن التماسك داخل الحلف لن يكون ممكناً إلا إذا تم تقاسم العبء بشكل "منصف"، ونفى أن يكون ترامب هدد بشكل مباشر بالانسحاب من الحلف أمس، لكنه بدا حريصاً أيضاً على توضيح أن محاولة ترهيب ترامب لحلفائه لم تُجد إلى حد بعيد. وأشار ماكرون إلى أن فرنسا ستلبي الهدف المتفق عليه في حلف شمال الأطلسي بزيادة الإنفاق الدفاعي ليصبح 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024. وتنفق فرنسا نحو 1.8 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع.
وفي المجمل لا يزال إنفاق 15 بلداً عضواً في الحلف، بينها كندا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا، على الدفاع دون نسبة 1,4 في المائة من إجمالي ناتجها الداخلي في 2018، ولن تكون هذه الدول قادرة على احترام تعهداتها، ما يثير غضب ترامب الذي كان يدفع باتجاه إيفاء هذه الدول بالالتزامات التي قطعوها عام 2014 بتخصيص 2 في المائة من إجمالي ناتجهم الداخلي للنفقات الدفاعية بحلول عام 2024، قبل أن يطالبهم برفع هذه النفقات إلى 4 في المائة من إجمالي ناتجهم الداخلي.
من جهتها، قالت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، للصحافيين في بروكسل إن "ثمة التزاماً واضحاً من قبل الجميع نحو حلف الأطلسي". وأشارت إلى أن الرئيس الأميركي أثار موضوع تقاسم الأعباء بشكل أفضل بين أعضاء الحلف مرة أخرى، كما جرت مناقشته منذ أشهر، و"أوضحنا أننا في الطريق إلى ذلك". وكان ترامب قد انتقد ألمانيا مرات عدة لعدم إنفاقها نسبة كبيرة بما يكفي من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. وشددت ميركل على أن ألمانيا هي ثاني أكبر مساهم في الحلف الأطلسي في ما يتعلق بالقوات.
في موازاة ذلك، بدا بعض المسؤولين الأوروبيين أقل حرصاً على مداراة ترامب. وزير خارجية لوكسمبورغ جان اسيلبورن كان واضحاً لدى حديثه عن مقترح الـ4 في المائة بـ"أن دونالد ترامب بدأ بالقول إنه يقدّر كثيراً الأوروبيين، وبعد ثانيتين وجّه خطابه نحو تقاسم عبء نفقات الدفاع"، مضيفاً أن "هذه المقاربة الحسابية عبثية". من جهته، قال رئيس رومانيا رومين راديف، بحسب مقربين منه، إن "الحلف الأطلسي ليس سوقاً يتيح شراء الأمن".

المساهمون