جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين: جنود محصنون وقضاء صوري

جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين: جنود محصنون وقضاء صوري

08 ابريل 2016
تضمن مؤسسات الاحتلال للجنود الإفلات من العقاب(عباس موماني/فرانس برس)
+ الخط -
خلال أقل من أسبوع خفّضت النيابة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي التهم التي تعتزم توجيهها للجندي قاتل الشهيد عبد الفتاح الشريف، في 24 مارس/آذار الماضي، بعدما أطلق الرصاص عليه في الرأس وهو ملقى على الأرض، من تهمة القتل المتعمد إلى تهمة القتل غير المتعمد، مما يعني تخفيف شروط اعتقاله والعقوبة المتوقع إصدارها بحقه. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، ولا سيما أن حملة عنصرية وفاشية واسعة الانتشار قامت في إسرائيل، قادها وزراء وأعضاء كنيست وضباط سابقون في الجيش الإسرائيلي، دعت إلى الإفراج عن الجندي القاتل والإعلان عنه بطلاً قومياً وليس قاتلاً.

وكانت كاميرا منظمة بتسيلم الحقوقية، الناشطة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد وثّقت عملية إعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف وهو ملقى على الأرض، بعد وقت قصير من عملية إعدام الشهيد رمزي القصراوي التي لم توثق، ما حال من دون تمكن الاحتلال من الادعاء بأن الشهيد  الشريف شكل خطراً على الجنود أو الحديث عن عملية "قتل نظيفة وفق الأصول ووفق أوامر إطلاق النار الرسمية".



وفيما بدا أن قادة الجيش الإسرائيلي وعلى رأسهم رئيس الأركان الجنرال غادي إيزنكوط ووزير الأمن موشيه يعالون يحاولون توظيف استنكارهم "العلني" لجريمة الإعدام لمحاولة تبرئة جيش الاحتلال من جرائم الإعدام الميدانية التي ارتكبها خلال الهبة الفلسطينية الأخيرة، وإبراز حادثة إعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف، كـ"تجاوز لأخلاقيات الجيش وحالة استثناء شاذة" ما خلق للوهلة الأولى وهما بوجود جدل في إسرائيل ضد عمليات الإعدام التي يقوم بها جيش الاحتلال، أتى "الفرج" للجندي القاتل من الجهاز القضائي العسكري، وتحديداً من قاضي المحكمة العسكرية في كستينا، العقيد رونين شور. شكك شور في أول جلسة عقدت لتمديد اعتقال الجندي القاتل بنتائج التحقيقات العسكرية الأولية التي أجرتها قيادة جيش الاحتلال، والتي أكدت أن الشهيد الشريف كان ملقى على الأرض بعد إصابته بعيارات نارية عدة ولم يكن يحمل حزاماً ناسفاً ولا يشكل خطراً على الجنود. وهو مأ أكدته الصور في الشريط المذكور لمنظمة بتسيلم الذي بين تحرك الجنود في الموقع، وعدد من المستوطنين بحرية بدون أي قلق أو توتر.
ولم يكتفِ القاضي بذلك بل إنه نصح النيابة العسكرية للاحتلال، (التي فاجأت الجميع عندما أعلنت في الجلسة المذكورة أنها تنسب للجندي القاتل تهمة القتل غير المتعمد، خلافاً لإعلانها الأولي بأنها ستطلب محاكمته بتهمة القتل المتعمد) أن توجه للجندي القاتل تهمة أخف حتى من تهمة القتل غير المتعمد، والتوجه لاتهامه بـ"تجاوز الصلاحيات" واستعمال السلاح بإهمال، ما يترتب عليه عدم المطالبة بتمديد اعتقال الجندي القاتل. وقد أصدر القاضي شور يوم الخميس الماضي، أمراً بتحويل الجندي القاتل إلى "الحبس المفتوح في قاعدة عسكرية وليس في السجن العسكري".
واستمر هذا الخط لدى القضاة العسكريين حتى يوم الإثنين الماضي عندما أعلن القاضي العسكري دورون فيلس، عند بحثه لاستئناف النيابة العسكرية ضد قرار احتجاز الجندي القاتل في قاعدة عسكرية وليس في السجن، أن تصريحات النيابة العسكرية لا تتطابق مع تصريحات قائد السرية العسكرية التي تواجدت في موقع العملية، الذي ادعى أنه كان هناك خوف من وجود حزام ناسف على جسد الشهيد. وجاء هذا التصريح للقاضي رداً على مداخلة النيابة العسكرية العامة وممثلتها، التي أكدت خلال الجلسة، أنها لا تصدق ادعاءات الجندي القاتل، في كل ما يتعلق بخوفه من أن يكون الشهيد الشريف يحمل حزاماً ناسفاً، وتأكيدها أن الجندي القاتل يبدو أنه طور رواية الدفاع عنه في هذا الاتجاه، بصورة تدريجية بحسب نصائح محاميه وما رافق القضية من الادعاء بشهادات تؤكد أن الجندي القاتل كان في حالة انفعال شديدة وكان يشعر بالخوف.
كما تبين خلال جلسة المحكمة العسكرية أن الجيش الإسرائيلي والقادة الميدانيين كانوا يعتزمون، بحسب شهادة قائد السرية، تقديم الجندي القاتل لمحكمة تأديبية داخل الجيش لا غير. وهذا يؤكد أن انتشار الشريط المصور الذي وثّق جريمة الإعدام بدم بارد، هو ما دفع بالجيش وقادته إلى تغيير الموقف الأولي المعلن، والاتجاه إلى محاولة الادعاء بأن عملية القتل مرفوضة لأنها "تشكل استثناء وخرقا فظاً لأخلاقيات جيش الاحتلال"، والإعلان عن نية محاكمة الجندي القاتل، بداية بتهمة القتل المتعمد، ولاحقاً بعد مرور العاصفة لتحول إلى القتل غير المتعمد.


عمليات قتل بلا محاكمات

ولا يشكل هذا التطور لجهة السعي لتبرئة الجندي القاتل وتخفيف التهم الموجهة له، في الواقع، مفاجأة حقيقية. وقد سبق للمحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" أن نشر نهاية الأسبوع الماضي، تقريراً موسعاً قال فيه إنه إذا كان الاتهام للسلطة الفلسطينية بأنها تفرج عمن يتم اعتقالهم بتهم تنفيذ عمليات، فإن الجيش الإسرائيلي، لا يعتقل ولا يحاكم من يرتكبون جرائم قتل وينفذون عمليات إعدام وقتل لفلسطينيين.
واستعرض أورن في تقريره نبذة عن عمليات القتل التي نفذها جنود إسرائيليون بدم بارد لكنهم لم يحاكموا أمام القضاء، أو تم تقديم اتهامات مخففة بحقهم والتالي إصدار أحكام مخففة تبعها إعلان العفو العام عن هؤلاء الجنود، منذ التحقيقات التي أجريت في جرائم القتل التي جرت في حرب النكبة.
والواقع أنه لا حاجة للعودة إلى سنوات النكبة والفظائع التي ارتكبها جنود العصابات الصهيونية، التي شكلت بعد الحرب الجيش الإسرائيلي، للدلالة على انخراط الجهاز القضائي العسكري والمؤسسة السياسية في تسريح الجنود القتلة أو في العفو عنهم من العقوبات المختلفة. فجرائم الإعدام الأخيرة وحدها تشكل دليلاً على ذلك، حتى تلك التي تم توثيقها بالصوت والصورة أو التي اعترف الاحتلال بحدوثها، بدءاً من جريمة إعدام الشهيدة هديل الهشلمون وفادي علون في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2015 وحتى إعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف في 24 مارس الماضي.
مع ذلك، يكفي من أجل تثبيت تواطؤ المؤسسة الإسرائيلية وجهازها القضائي العسكري والمدني، إلى جانب مؤسسة الرئاسة الإسرائيلية المخولة بمنح العفو العام، الإشارة إلى حالات عدة بخصوص التساهل وعدم تجريم أو محاكمة جنود وعناصر شرطة الاحتلال على أثر جرائم قتل بدم بارد.
فإذا تم القفز عن جرائم النكبة نفسها، مثل دير ياسين وغيرها، والانتقال مباشرة إلى السنوات الأولى بعد النكبة، فإن أولى الجرائم التي لم يحاسب عليها مرتكبوها، بل تم تصويرهم كأبطال، تبدأ عملياً بجريمة ومذبحة قبية في الضفة الغربية في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1953، بناءً على أوامر مباشرة من ديفيد بن غوريون نفسه، عندما قام أريئيل شارون وجنود الوحدة 101 بقتل 70 فلسطينياً من سكان القرية رداً على عملية فدائية. وتبع ذلك قيام القاتل مئير هار تسيون، من نفس الوحدة، ومعه عدد من رفاقه، بجريمة قتل ثانية لأربعة فلسطينيين من عرب العزازمة وعرب الجهالين قرب عين جدي، في الضفة الغربية المحتلة، بحجة الانتقام من مقتل شقيقة هار تسيون. وفي تلك الحالتين لم يتم تقديم المشاركين في هذه الجرائم للمحاكمة. وزيادة على ذلك اعتُبر مئير هار تسيون، بطلاً في إسرائيل، بل اعتاد الجيش الإسرائيلي، توزيع كراساً لتمجيد هذا القاتل وتمجيد عمليات الوحدة 101 التي كان يتزعمها شارون في السنوات الأولى من إقامة إسرائيل.

وفي العام 1956، نفذ جنود الجيش الإسرائيلي مذبحة دموية بشعة في قرية كفر قاسم الفلسطينية في الداخل، عبر استغلال العدوان الثلاثي على مصر. لكن بعد افتضاح أمر المذبحة، تم تقديم القادة والضابط الذين أصدروا أوامر القتل ونفذوا المذبحة لمحاكمة عسكرية، لكن سرعان ما تم في العام 1960 إطلاق سراح جميع المتورطين في المذبحة، عبر تخفيف الثلث من مدة العقوبات، ولاحقاً عبر إصدار العفو الرئاسي العام عنهم.
وتكرر الأمر في مسألة تخفيف عقوبة مرتكبي هذه المجازر والجرائم مع التنظيم الإرهابي اليهودي الأول في ثمانينات القرن الماضي، وصولاً إلى إصدار عفو عام عنهم من قبل الرئيس الإسرائيلي، حاييم هرتسوغ (والد زعيم المعسكر الصهيوني يتسحاق هرتسوغ)، بل إن أحد قادة هذا التنظيم، حجاي سيغل، تحول اليوم ليصبح من رموز الإعلام الإسرائيلي ويقدم برنامجاً أسبوعياً في قناة الكنيست. وقبل عمليات التنظيم الإرهابي اليهودي، كانت الحكومة الإسرائيلية بقيادة إسحاق رابين رفضت حتى مجرد التحقيق في ظروف قتل شهداء يوم الأرض الأول في العام 1976.
وخلال الانتفاضة الأولى، التي شغل فيها رابين نفسه منصب وزير الأمن، لم يقدم ولو حتى جندياً واحداً للمحاكمة أو التحقيق على الرغم من أن جنود الاحتلال نفذوا عشرات عمليات الإعدام الميدانية بحق ناشطي الانتفاضة، وبالرغم من وجود شهادات على إعدام عدد كبير منهم، مثل جرائم قتل الشهيد جمال رشيد غانم في ملعب كرة القدم في طولكرم، في العام 1992، والشهيدين مهدي الطقاطقة وأمير الرحال وآخرين.
أما عند اندلاع هبّة القدس والأقصى في العام 2000 وسقوط 13 شهيداً من الفلسطينيين في الداخل وعلى الرغم من تشكيل لجنة تحقيق رسمية، هي لجنة أور، أكد فيها شهود من الشرطة التعامل العدائي للشرطة الإسرائيلية مع العرب، ووجود تقارير الطب العدلي حول استخدام الشرطة لرصاص القناصة، إلا أن قسم التحقيق مع رجال الشرطة في وزارة العدل الإسرائيلية "ماحاش" رفض إدانة أي من أفراد الشرطة بتهم قتل المتظاهرين الفلسطينيين خلال هبة القدس والأقصى.
وطيلة السنوات السابقة للهبة الحالية، وبسبب غياب وسائل التواصل الاجتماعي، والتوثيق المرئي في السابق، فقد كان الاحتلال يتستر دائماً وراء مقولة أن التحقيق العسكري أثبت أن الجنود عملوا بموجب أوامر إطلاق النار وأن حياتهم كانت معرضة للخطر، بدون الأخذ على الإطلاق بشهادات شهود عيان فلسطينيين.


جريمة قتل الطفلة إيمان الحمص

وكان هذا الموقف هو نفسه الذي اتبعه الاحتلال في تبرير جرائم الإعدام خلال الانتفاضة الثانية، وإن كان التحول في التوثيق للجرائم عبر جمعيات حقوقية بدأ بشكل ملموس بعد الانتفاضة الثانية، مع بدء تحقيقات إعلامية كان لبعضها نجاح ملموس في الوصول إلى الإعلام والرأي العام ولكن ليس بالضرورة إلى تقديم القتلة إلى المحاكمة، حتى عندما كان الدليل على الجريمة إسرائيليا، كما في حالة قتل الطفلة الفلسطينية إيمان الحمص في 5 أكتوبر/تشرين الأول في رفح في العام 2004 وإثبات تحقيق صحافي إسرائيلي، للصحافية إيلانة ديان، أن قائد القوة الإسرائيلي، الكابتن "ر"، أطلق النار على الطفلة بهدف تأكيد القتل بعد إصابتها بعيارات نارية. وقد برأت المحكمة العسكرية الإسرائيلية القاتل من الجريمة في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2005، بل إنه واصل نشاطه في الجيش الإسرائيلي.
وإذا كانت المحكمة العسكرية الإسرائيلية، برأت قاتل الطفلة إيمان الحمص، فإن الجيش الإسرائيلي اكتفى في حالة الضابط الذي قتل الشهيد الطفل خاد راضي في مارس/آذار 2005 بتقديمه للمحكمة التأديبية.
وفي يوليو/تموز 2015 قام قائد الوحدة بنيامين في الجيش الإسرائيلي، الكولونيل يسرائيل شومر، بقتل الشهيد محمد هاني الكسبة، بعد تعرض الكولونيل للرشق بالحجارة وإطلاقه النار على الشهيد محمد هاني الكسبة من الخلف، لكنه لم يقدم للمحكمة على الإطلاق. وأعلن الجيش الإسرائيلي أن شومر وجنوده كانوا معرضين للخطر.
وتكرر الأمر خلال عمليات إعدام شهداء الهبة الحالية في القدس المحتلة منذ اندلاعها وحتى إعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف في 24 مارس/آذار الماضي، لتشمل الحصانة من المحاكمة كل إسرائيلي، وإن لم يكن شرطياً أو جندياً يطلق النار على الفدائيين. وقد وثقت وسائل الإعلام الإسرائيلية في هذا السياق جريمة إعدام الشهيد بشار مصالحة، من قرية عجة، على يد متطوع في الشرطة الإسرائيلية، بعد تنفيذ عمليات طعن في يافا. وأكدت التقارير أن المتطوع في الشرطة الإسرائيلية قام بإطلاق النار على الشهيد بشار مصالحة بالرغم من أن الشرطي المرافق له أعلن أنه تمكن من إصابته والسيطرة عليه. وأظهر الشريط الذي نشر في حينه مواطنين إسرائيليين وهم يحثّون الشرطي والمتطوع الذي معه على إطلاق النار على رأس الشهيد وإعدامه دون خوف أو وجل.